Al Sabîl

Index

Table des matiéres
Résumé
Télechargement
Texte Integral
Notes
Bibliographie
Auteur

Information

02 | 2016

التّـأثـيـرات التّـركـيّـة فـي مـعـمار المـساجـد التّـونـسـيّـة وزخـرفـتـها بالـعـصـر الحـديـث  (جـامـع مـحـمّـد بـاي الـمـرادي أنـمـوذجـا)

شـراز مـصـبـاح

الملخص

يقـوم بحثـنا على دراسة الخصائص المعـمارية والزخرفـية للجوامع التونسية خلال الفترة التركية لمحاولة تحديد مدى تطور التصميمات الفنية بالمقارنة مع الفترات السابقة. لقـد اخـترنا دراسة الجامع الفـريـد من نـوعـه "محمـد باي المرادي" الـذي بني بتونس فـي عام 1104/1692. إنّ ما يعـطي خصوصية لهـذا المبنى يعود إلى ثلاثة عـوامل رئيـسية: العامل الأول ينـبع من الأنماط الفريـدة المستخـدمة في تغـطية بيت الصلاة والمتـمثـلة في قـباب وأنصاف قـباب كروية الشكـل أُدخـلـت للمرة الأولى إلى تونـس. أمّا العامل الثاني فـيكـمن في الترصيـفات والتوزيعات الزخرفية الموجودة داخل الجامع وخارجه والمكونة لتشكيل تزيينيِّ خاص (بما في ذلك استخدام عـدد من بلاطات السيراميك المستوردة من تركيا بأنماط وألوان جديدة). أمّا العامل الثالث فيتمثَّـلُ في دور المعْلَم في التنـمية الثـقافـية والاقـتصادية لمـدينة تونس في ذلـك الوقـت بما أنه كان المكان الأهـم للعبادة بالنسبة إلى سكـان المدينة من المذهـب الحنفي.

وسنحاول في هـذه الدراسة أن نعطِيَ لـمحة تاريخـية عن ظروف بناء جامع "محمد باي المرادي" ووصفا فنيا عاما له ممّا سيمكـننا من تسـليط الضوء على الانقـطاع والتواصل في صيرورة معمار هذا المبنى وزخرفته مع مساجد الفترات السابقة لاستخراج لمسة الأتراك في فن البناء.

وعلاوة على ذلك، سنسجّل ما عرفـته مصادر التأثـير في معمار هذا الجامع وزخرفته من تنوّع. هذا الجامع الذي ساهـم في إنشاء العديد من الأشكال الفنية المختلفة. وسنـلحظ حينئـذ تأثـيرا محليا موروثا عن الفـترات السابقة وتأثـيرا أندلسيا قـدم به اللاجئون الموريسكيون، وبطبيعة الحال تأثيرا تركيا، تضافرت كلّها لتشكيل أثر فني في تاريخ تونس الإسلامية.

وسـوف نحاول من خلال دراسة مقارنة بيـن مختلف أنماط معمار جامع "محمد باي المرادي" وزخرفـتـه وما يماثـلها فـي أماكن عبادة من نفس الفترة، تحديد أوجه التشابه والاختلاف بينها مع الاعتماد أيضا على المقارنة مع بعض المباني الأخرى ذات النمط المماثل، بما في ذلك تلك الموجودة بتركيا.



Notre recherche s'appuie sur l'étude des caractéristiques architecturales et décoratives des mosquées tunisiennes durant la période turque pour tenter de déterminer l'ampleur du développement des conceptions artistiques par rapport aux périodes précédentes. Nous avons choisi d'étudier la mosquée unique en son genre, « Mohammed Bey Al-Muradi », construite en Tunisie en 1104/1692. Ce qui donne à ce bâtiment la particularité est dû à trois facteurs principaux : Le premier facteur découle des motifs uniques utilisés pour couvrir la Maison de Prière, représentés par des dômes sphériques et des demi-dômes qui ont été introduits pour la première fois en Tunisie. Le deuxième facteur réside dans les pavements décoratifs et les distributions à l'intérieur et à l'extérieur de la mosquée qui forment une formation décorative particulière (y compris l'utilisation d'un certain nombre de carreaux de céramique importés de Turquie avec de nouveaux motifs et couleurs). Le troisième facteur est le rôle de ce monument dans le développement culturel et économique de la ville tunisienne à cette époque, puisqu’il était le lieu de culte le plus important pour les habitants de la ville de l’école de pensée Hanafi.
Dans cette étude, nous tenterons de donner un aperçu historique des circonstances de la construction de la mosquée Muhammad Bey al-Muradi et une description artistique générale de celle-ci, ce qui permettra de mettre en lumière la discontinuité et la continuité dans le processus de construction. l'architecture et la décoration de ce bâtiment avec les mosquées des périodes antérieures afin d'extraire la touche turque dans l'art de la construction.
De plus, nous enregistrerons la diversité des sources d'influence sur l'architecture et la décoration de cette mosquée. Cette mosquée a contribué à la création de nombreuses formes d’art différentes. On remarquera alors une influence locale héritée des périodes précédentes, une influence andalouse introduite par les réfugiés morisques, et bien sûr une influence turque, le tout se conjuguant pour former une influence artistique dans l'histoire de la Tunisie islamique.
A travers une étude comparative entre les différents styles d'architecture et de décoration de la mosquée Muhammad Bey Al-Muradi et des lieux de culte similaires de la même période, nous tenterons d'identifier les similitudes et les différences entre eux tout en nous appuyant également sur la comparaison avec certains autres édifices. d'un style similaire, y compris ceux de Turquie. .



Our research is based on studying the architectural and decorative characteristics of Tunisian mosques during the Turkish period in an attempt to determine the extent of the development of artistic designs compared to previous periods. We chose to study the unique mosque of its kind, “Muhammad Bey Al-Muradi,” which was built in Tunisia in the year 1104/1692. What gives this building particularity is due to three main factors: The first factor stems from the unique patterns used to cover the House of Prayer, represented by spherical domes and semi-domes that were introduced for the first time to Tunisia. The second factor lies in the decorative pavings and distributions inside and outside the mosque that form a special decorative formation (including the use of a number of ceramic tiles imported from Turkey with new patterns and colors). The third factor is the role of the landmark in the cultural and economic development of the city of Tunisia at that time, since it was the most important place of worship for the city’s residents of the Hanafi school of thought.
In this study, we will attempt to give a historical overview of the circumstances of the construction of the Muhammad Bey al-Muradi Mosque and a general artistic description of it, which will enable us to shed light on the discontinuity and continuity in the process of the architecture and decoration of this building with the mosques of previous periods in order to extract the Turkish touch in the art of construction.
Moreover, we will record the diversity of the sources of influence on the architecture and decoration of this mosque. This mosque contributed to the creation of many different art forms. We will then notice a local influence inherited from previous periods, an Andalusian influence introduced by Morisco refugees, and of course a Turkish influence, all of which combined to form an artistic influence in the history of Islamic Tunisia.
Through a comparative study between the various styles of architecture and decoration of the Muhammad Bey Al-Muradi Mosque and similar places of worship from the same period, we will attempt to identify the similarities and differences between them while also relying on comparison with some other buildings of a similar style, including those in Turkey. .

الكلمات المفاتيح

المساجد التونسية، جامع محمد باي المرادي، العمارة والزخارف العثمانية، الدولة العثمانية، تونس.

المرجع لذكر المقال

شـراز مـصـبـاح ،لتّـأثـيـرات التّـركـيّـة فـي مـعـمار المـساجـد التّـونـسـيّـة وزخـرفـتـها بالـعـصـر الحـديـث (جـامـع مـحـمّـد بـاي الـمـرادي أنـمـوذجـا) :الرابط
http://www.al-sabil.tn/?p=2538

تحميل

Cliquez pour télecharger l’article

مقال

تــــــقـــد يــــــم

يقوم هذا البحث على دراسة الخاصيّات المعماريّة والزّخرفيّة للجوامع التّونسيّة بالفترة العثمانيّة ويسعى إلى تحديد ما عرفته التّصميمات الفنيّة من تطوّر مقارنةً بالفترات السّابقـة وإلى توضيح مصادر التّأثيرات الفنّية ونسب الاتّفاق والاختلاف مع أنماط متشابهة من أماكن العبادة، بما في ذلك تلك الموجودة بـ"تركيا". ولقد اخترنا في سبيل ذلك دراسة المثال الفريد من نوعه ألا وهو جامع "محـمّــد بـاي الـمـرادي1" المـشـيّـد بـ"تـونـس" بـيـن 1104هـ1692 م و1109هـ1697 م2. فهذا المعلمُ يُعتبر مكان العبادة الرّئيس للحنفيّين من أهالي المدينة.
إنّ الشّكل المعماري لهذا الجامع يظهر للمرّة الأولى بـ"تونس" ويـختلف اختلافـا جذريّا عن خصوصيّات العمارة التّقليديّة هناك وهو يذكّرنا بالمساجد الموجودة بـ"تركيا" والمستـوحاة من "آيا صوفيا

تـقـد يـم مـعـمـاري وزخـرفـي لـجـامـع "مـحـمّـد بـاي الـمـرادي"

مرّت الهيمنة العثمانية على "تونس" والتّي امتدّت من أواخر القرن السّادس عشر ميلاديا (1574م، تاريخ تحوّل "تونس" إلى إيالة عثمانية حتّى أواخر القرن التّاسع عشر ميلاديا (1881م، تاريخ بداية الحماية الفرنسيّة علـى "تونس")، بأربع مراحل أساسيّة هي: حكومة الباشاوات (1574ـ1591م)، حكومـة الدّايات (1591ـ1610م)، حكومة البايات (1610ـ1705م) وأخيرا حكومة الحسينيّين (1705ـ1881م). 

وقد بدأ الأتراك باستغلال أماكن العبادة المشيّدة في الفترات السّابقة وإعادة تأهيل هذا الموروث المالكي وفقًا للمستلزمات الحنفيّة الجديدة. وبتزايد عدد الأتراك بـ"تونس"، تحتّم التّفكير في بناء معلم ديني جديد ملائم ومستجيب منذ البداية إلى المذهب الحنفي المختلف عن المالكي. فـكان إذن بناء أوّل جامع حنفي سنة 1614م في عهد "يوسف داي" (1610ـ1637م). وأُردِف ببناء جامع ثان في سنة 1655م في عهد "حمّودة باشا" (1631ـ1666م).

لكن هذين الجامعين يبرزان التزاما كبيرا للنّماذج القديمة ولا يحملان بصمة واضحة للطّـراز العثماني3، إلاّ فيما يخصّ بعض العناصر مثل المئذنة المثمّنة والبهو المحيط بقاعة الصّلاة من ثلاثة جوانب وإضافة التّـربة والمنبر المبني والعديد من العناصر الزّخرفيّة الجديدة الأخرى.

ووجب الانتظار أكثر من قرن من الزمن (من 1574 إلى 1692م) ليظهر الجامع التّونسي الوحيد، وهو جامع "محمّد باي" (1686-1696م)، والذّي يمكن ضمّه إلى الطّراز العثماني3ذي القبّة المركزيّـة4. وهو يعتبر الجامع الأهمّ والفريد من نوعه بمدينة "تونس"5 .
هذا المعلم الجديد يكشف عن تغييرات كبيرة مقارنةً بالتّصاميم المعماريّة والزّخرفيّة للجوامع في "تونـس"، سواء منها تلك التي بناها الأتراك أو الجوامع الموجودة منذ الحقبات السّابقة لحكمهم.

صورة عدد 1 : مشهد عام لربض "باب سويقة" تهيمن عليه قباب جامع "محمّد باي المرادي" (المصدر : بطاقة بريديّة).

6لـمـحـة عـامّـة عـن مـعـمـار الـجـامـع

يهيمن البنيان العظيم لجامع "محمّد باي" على ربض "باب سويـقة". وتتمثّل هيئة المبنى خارجيّا في أشكـال كرويّة طبقـيّة للقـباب المبيّـضة بالكـلس (أو الجير). "وهذا يولّد هيئة رتيبة ثقيلة في غـياب مئذنة أو مآذن من شأنها أن تمنح المظهر العام للجامع العنصرَ الأفقيَّ الذي ينقصه. وحتّى المئذنة المربّعة الموروثة عـن المسـجد الحـفصي7 الـذّي يغـطّيه الجامع الحنـفي لا تستـطيع لعـب هذا الدور8". أمّا السّاحة الكبيرة التّي جاءت على شكـل "U" والمحاطة بأروقـة، فتحتضن بيتا للصّلاة مربّع الشّكل9.

(SAADAOUI Ahmed, Tunis ville ottomaneصورة عدد 2 : التّصميم المعماري لجامع "محمّد باي المرادي" (المصدر :

هذا البيت فريد من نوعه وهو متوّج بقبّة مركزيّة ضخمة تدعمها أربعة أنصاف قباب أدنى ارتفاعا وتؤيّدها في زوايا البيت أربع قبيبات صغيرة مسطّحة أقلّ ارتفاعا من الكلّ. فيتّخذ الغلاف الخارجي إذن شكل بنيان متدرّج ذي هيئة ضخمة تعتمد من الدّاخل على أربعة أعمدة كبيرة وطويلة مربّعة الشّكل تقريبا10.

11لـمـحـة عـامّـة عـن زخـرفـة الـجـامـع

تتنوّع زخرفة جامع "محمّد باي" بالمنطقة الداخليّة لبيت الصلاة12 وتستخدم مادّتين أساسيّتين هما الجصّ والسّيراميك13، وهي توشّي وبأشكال مختلفـة الأعمدة والقبّة المركزيّة14 والجدران الأربعة لبيت الصّلاة والمحراب والمنبر والمحفل والختمة .

صورة عدد 3 : تنوّع الأشكال والمواد الزّخرفيّة بجامع "محمّد باي المرادي" (المصدر : صور للمؤلّف).

يحوي الفضاء الدّاخلي لهذا الجامع زخرفةً كثيفةً، أكثر ممّا هو موجود عادّة بالفضاءات الدّاخليّة  للجوامع المعـمّدة -hypostyle-، وذلك بسبـب المساحـات المفـتـوحة الـتّي يوفّـرها هذا النمـط المعـماري الجديد. ويمكّننا هذا الفراغ مـن رؤية واضحة ومباشرة لجدران بيت الصّلاة وعناصر الارتكاز وخاصّة جدار القبلة

صورة عدد 4 : كثافة العنصر الزّخرفي بالفضاء الدّاخلي للجامع بفضل توفّر المساحات المفتوحة (المصدر : أرشيف الصّور للمعهد الوطني للتّراث).

أمّا الزّخرفة الأكثر ثراءا وأهمّية فهي تلك التي تزيّن العناصر المعماريّة ذات الوظيفة الأساسيّة. وتنتظم الزّخرفة عبر سجلاّت موضوعة بطريقة متجاورة أو متراكبة

صورة عدد 5: تجاور السّجلّات الزّخرفيّة بالجامع المرادي وتراكبها (المصدر : صور للمؤلّف).

ويحدّد التّصميم المعماري للفـضاء موقـع المساحات وتواترها واتّجاهها ونسبها، تلك المساحات التّي زُيِّنـت بواحدة من الأشكال الزّخرفيّة الكلاسيكيّة الثّلاثة أي الهندسيّة أو النّباتيّة أو الكتابيّة.

الـعـنـصـر الـهـنـد سـي

وُضِعت الزخرفة الهندسية بجامع "محمّد باي" على مختلف المواد من جصّ وسيراميك. كما وُضعت على بعض الأسطح الرخاميّة والخشبيّة والحديديّة. وتحتلّ هذه الزخرفة لوحدها مساحات واسعة بالرّغم من أنّها كانت تغطّي، منذ ظهورها بـ"تـونس" في الفترة الإسّلاميّة، مساحات صغيرة وتُـوضَع عموما داخل أفاريز وأشرطة ضيّقة رقيقة لتكون، في بعض الأحيان، حشوا لأشكال زخرفيّة أخرى. وتتمثّـلُ هذه الزخرفة في أشكـال هـندسـيّة بسيطة متكـوّنة من دوائـر ومربّعـات ومستطيلات ومعـيّنات وغيرها. وتُوضَع على أماكن محدودة نسبيّا وتُجمع عادّة مع زخرفة نباتيّة فتتشكّل لوحاتٌ خاصّة هي عبارة عن عناصر هندسيّة متناوبة مع زخارف نباتيّة مجرّدة (مثل واجهة مسجد "الثّلاثة أبواب" بالقيروان)15. كما أدخـل الأتراكُ أشكالا هندسيّة جديدة مثل المضلّعات والنّجوم الثّمانيّة والعشريّة والاثني عشريّـــــة وغيرها. ونتجت عن ذلك تصاميم معقّدة ناشئة عن تشابكات هندسـيّة تختفي منها الزّخارف النّباتيّة تماما. وهذه تكون أحيانا منحوتة أو محفورة ومطعّمة بالرصاص .

صورة عدد 6 : تنوّع الأشكال الهندسيّة المستخدمة على محامل زخرفيّة مختلفة (المصدر : صور للمؤلّف وأرشيف الصّور للمعهد الوطني للتّراث).

الـعـنـصـر الـنّـبـاتـي

تحتلّ النّبتة مكانة هامّة في زخرفـة جامع "محمّد باي". وتوجد بكثرة على بلاطات السّيراميك، وبنسبة أقلّ على الجصّ. ويحتلّ العنصر النّباتي أيضا جزءا من الزّخرفة على الحجر والرّخام والخشب. وبالتّالي، فإنّ الزّخرفة النّباتيّة بهذا المعلم تُظهر مثالا لتطوّر هذا النّوع من الدّيكور بما أنّه كان في بداية القرون الأولى من الإسلام في "تونس" مُستوحًى من الطّبيعـة لكن بأشكال مجرّدة لا علاقـة لها بالواقع. 

وبصرف النّظر عن بعض الزّهور غير المحدّدة، فإنّ أشكالها كانت مستوحاة من إثنتين أو ثلاثة أنـواع من النّبات مثل الرّمان والنّخيل والأقنثة وغيرها. وتتألّف هذه الزّخرفة مـن عنق النبتة، من جهة، ومن الورقة مصحوبة بالثّمرة، مـن جهة أخرى، ونادرا ما تُرفق بالزّهرة16.
وبصفة عامّة، يتمّ تضمين الزّخـرفة النّباتـيّة للفـتـرات السّابقة في مساحات طويلة وضيّقـة كالحـاشيات أو الأفاريـز (مثـل ألـواح الرّخـام في الجـزء السّفـلي من محـراب جامـع "عـقـبة" بالقيروان)، أو في مساحات مُسطَّحة أكثر امتدادا وتطوّرا مثل القبّة النّصف كرويّة لمحراب الجامع المذكور أعلاه17. ولقد تطوَّر هذا النّمط الزّخرفي بمرور الوقت ولم يعُد يمثّل إلا ورقاتٍ منعزلةً. وتمّ البدء في إثراء الحامل الزّخرفي وإيجاد أشكال منسجمة لملء الثّغرات مثل السّقف الخشبي لبيت الصّلاة في جامع "عقبة" بالقيروان. فشهدنا تطوّرا في تنظيم عنق النّبتة والزّهرة اللّتين عرفتا تغييرا في شكليْهما (تصبحان منتفختين أو طويلتين...)18.

وتمّ إثراء النّبْتةُ الزّخرفيّة خلال الفترة التركيّة بقليل من النّباتات الأكثر مرونة وتنوّعا والأسهل تحديدا لأنّها صارت أقـرب إلى الواقـع. فظهـرت خاصّة أزهـار القرنـفل والوردة البرّية والياقـوتيّة والحوذان وزهرة العسل وخصوصا الزّنبق19 وبشكل أعـمّ الأشجار المزهـّرة ذات الأغـصان الطّويـلة20 . وتختلـط مع هـذه التجـديدات أحيانا العناصرُ القـديمة مثل الورود وأشـجار السّرول المجـرّدة والوريـدات وسعف النّخيل والصّنوبر، وهذا سيزداد ثراء حوالي القرن التّاسع عشر ميلاديّا بقدوم الأشكال الأجنبيّة من أصل ايطالي21.

صورة عدد 7: تنوّع الأشكال النّباتيّة المستخدمة على محامل زخرفيّة مختلفة (المصدر : صور للمؤلّف).

الـعـنـصـر الـكـتـابـي

الكتابات المنقوشة الموجودة بجامع "محمّد باي" هي عبارة عن شرائط خطيّة رفيعة جدّا تنقش على الجصّ بطريقة بارزة لتكوّن زخارف متكرّرة وتشكّل جزءا لا يتجزّأ مع باقي السّجلاّت الزّخرفيّة. كما يوجد نوع آخر من الزّخارف الكتابيّة شكّلتها نقوش رُسِمت مباشرة على محمل من الجصّ وتتمثّل في آيات قرآنيّة، بالإضافة إلى  نقوش منحوتة على الرّخام وأخرى على الخشب. 

وتتّخذ النّقائش الكتابيّة لجامع "محمّد باي" إذن طابعا زخرفيّا، لكنّها كانت تُستخدَمُ أساسا خلال القرون الأولى للإسـلام بـ"تونـس" لـتـؤّرخ المبـاني ولـتخلِّـدَ أسماء الملوك والمشاهـير على النصب التّذكـاريّة  أو لاستعـادة بعض الآيات القرآنيّة دون القيام بدور زخرفيّ يُذكر.
وكان الخطُّ الكوفيُّ الأكثر استخداما ويتميّز بحروفه ذات الزّوايا والخطوط المستقيمة والسّمك الموحّد. ولا تبدو لهذه الحروف أيّ هيئة زخرفيّة إذ هي لا تـُزيّن سوى الجزء السّفلي للمحمل الزّخرفيّ مع ترك فراغات كبيرة في الجزء العلوي22. وهذه الخط الكوفي، ذو المظهر الجاف، هو في غاية من البساطة. ويُشكّل في معظم الأحيان خطّا طويلا أفقيّا (مثل واجهة مسجد "الثّلاثة أبواب" بالقيروان) أو حاشية لسجلّ زخرفيّ يجتمع معه (مثل اللّوحة الرّخاميّة لمحراب جامع "الزّيتونة" الكبير).

وقد تطوّر الزخرف الكتابي مع مرور الوقت وأخذ، على غرار بقيّة العناصر الزّخرفيّة، أشكالا متنوّعة في فترات زمنيّة مختلفة. بل وأصبح الخطّ الكوفي في حدّ ذاته زخرفا (مثل السّقف الخشبيّ لبيت الصّلاة بجامع "عقبة" الكبير بالقيروان). وقد ملأت امتدادات الحروف الفراغات من خلال اتّخاذ شكل جديد أكثر ليونة وأناقة. كما نلاحظ استعارة بعض الزينات المزهـّرة (زخارف نباتيّة تملأ الفراغ الذي ترك في شريط النّقيشة) وزينات معماريّة أخرى (الرّابط بين حرفين يتطوّر ليرسم قوسا منحنيا)23. وإلى جانـب النّـقوش الكوفيّة الجافّة، تطوّرت كتابة مخطوطة، سلِسة ومُدوّرة (الخطّ النّسخي) ذات هيئة متحرّكة مختلفة عن الأولى وشهدت أوجّ ازدهارها في ظلّ الوجود التّـركي بما ترسمه الحروف من منحنيات متعرّجة كأنّها حركة طبيعيّة .

صورة عدد 8 : تنوّع الأشكال الكتابيّة المستخدمة على محامل زخرفيّة مختلفة (المصدر : صور للمؤلّف).
صورة عدد 8 : تنوّع الأشكال الكتابيّة المستخدمة على محامل زخرفيّة مختلفة (المصدر : صور للمؤلّف).

الـمـحـامـل الـزّخـرفـيّـة

تُظهـر زينة جامع "محمّد باي" ابتكارات كبيرة في استخدام المحامل الزّخرفيّة المختلفة ووضْعِها (السّـيراميـك والجـصّ الأكـثر حضورا في زخـرفـة هـذا المبـنى، إضافة إلى الحجر والرّخام والخشب والحديد والزّجاج والنّحاس). وقد أدّى استعمالها إلى نشوء تغييرات كبيرة فظهر حينئذ نمط جديد يَتكوّن من مزيج من التّقاليد القديمة الموروثة عن الفترات السّابقة وإدخالات متميّزة تُشكّل انتقالا واضحا. ويَعـتمد العـمل اليدوي لهذه المحامل على إثراء أهمّ ما طُبّق قديما من تقنيات زّخرفيّة: كالنّحت والرّسم والتّرصيع (الذي أُدخِل حديثا بالفترة العثمانية والذّي يتمّ تطبيقه عموما على الحجر أو على الرّخام المحفور مع ملء التجويفات بالرّصاص). وتستقبل هذه المحامل أشكالا مختلفة من الكساءات والتّقنيات مستجيبةً إلى تركيب منطقيّ ومتلائمة جيّدا مع طبيعة كل من المساحات الضيِّقة وأبعادها (الشّرائط والحاشيات) أو الواسعة (الألواح والصّفائح) التي تنطبق عليها.

ويُقاس انسجام التّركيبات الموجودة بزخرفة جامع "محمّد باي" بالنسبة إلى التّماسك بين الأشكال الممتلئة والفارغة التي تُكوّن الكُلّ الزّخرفيّ وتطابق النّغمات والألوان.
وتتوزّع هذه الأشكال في مُعظم الأحيان على مساحة منبسطة للمحمل وتُقَدّم نِسَبًا مدروسةً جيدا مع تجنّب تشتّت الأشكال الزّخرفيّة دون أيّ ترتيب أو منطق. ويختلف اتّصال هذه الزّخـرفة بالمساحة من محمل إلى آخر. وفي الواقع، يمكن لهذه المساحة أن تكون ناعمة أو خشنة.

وعلاوة على ذلك فـإنّنا حين نتحدّث عن تركيبة متناغمة يجب عـلينا أن نتحدّث عـن التّـوازن والإيـقـاع والتّماثل الكليّ أو الجزئي. فالأشكال الزّخرفيّة بجامع "محمّد باي المرادي" قد رُسِمت في الأغلب فوق المحامل وِفْقا لمبادئ الإشعاع والتّضافر وذلك مع احترام  برامج التّنظيم المذكورة آنفا. وعموما، يتِمّ الحصول على مبدأي الإشعاع والتّضافر بتكرار شكل واحد أو شكلين مختلفين (التّكرار البسيط والتّكرار العكسي أو التّكرار المتبادل لشكلين مختلفين بطريقة بديلة).

ونستخلص في نهاية هذا الفصل المخصّص لدراسة معمار جامع "محمّد باي المرادي" وزخرفته أنّ تصميم المبنى القائم على أساس إدخال توزيع فضائي جديد، من ناحية، واستخدام أنماط زخرفيّة مبتكرة موضوعة على محـامل مخـتلـفة وِفْـقا لتراكـيب متـوازنة، من ناحـية أخرى، يعطيان للجامع هيئة خاصّة وفريدة من نوعها مقارنة بالمعالم الدّينيّة الأخرى لـ"تونس" خلال الفترة التركيّة.

. الإضـافـات الـمـعـمـاريّـة والـزّخـرفـيّـة الـتّـركـيّـة 

إنّ المساجد التّونسيّة العائدة إلى حقبات سابقة (أغلبيّة وفاطميّة-زيريّة ثم حفصيّة) تتّفق على نفس التّصميم وتُقدّم تجانسا معماريا كبيرا وتشابها واضحا في تقسيم الفضاء مع مساجد الفترة الأولى للحكم العثماني. وتتكوّن هذه المساجد من أصحن كبيرة، مربّعة الشّكل أو مستطيلة، مع أربعة أروقة مغطّاة على الجوانب تكون متاخمة لبيوت صلاة ذات أمثلة هندسيّة مُعمّدة، غالبا ما تكون مستطيلة الشّكل، واسعة وغير عميقة بحيث تُمكّن عددا أكبر من المصلّين من الاصطفاف في مواجهة حائط القبلة. وهي تنقسم إلى بلاطات طوليّة وعرضيّة بواسطة سلسلة من الأعـمدة (أو السواري) تعلوها تيجان تدعـم أسْقُـفا مُسـطّحة أو قـبويّة. وعادّة ما تكون البلاطة الأولى الموازية لحائط القبلة أعرض بقليل من بقيّة البلاطات الموجودة بنفس الاتّجاه. وهي تتقاطع مع البلاطة العرضيّة (أو المِسْكبة) المؤدّية إلى المحراب والتّي تكون بنفس عرضها. وتُشكّل البلاطتان معا التّخطيط المتعارف عليه بشكل "T" اللاّتينيّة وهو التّصميم الأكثر انتشارا بالبلاد التّونسيّة. ويُشكّل تقاطع البلاطتين على المثال الهندسي للمعلم مربّعا تُغطِّيه قبّة عالية أمام المحراب.

أمّا بالنّسبة إلى زخرفة هذه المعالم الدّينيّة، فتتمثّل في زينة رصينة تقوم أساسا على أشكال هندسيّة ونباتيّة وكـتابيّة بسـيطة جـدّا، مُتّخـذّة أنـواعا مختـلفة من المواد مثـل السّيـراميك والحجارة والرّخام والخشب وغيرها في شكل محامل لها. وتخلو هذه الزخرفة من أي أشكال تجسيديّة رمزيّة أو قريبة من الواقع بما أنّه يُراد لها أن تكون مجرّدة وبعـيدة عن أيّ تقليد للطّبيعة. وتنتشر هذه الزخرفة في غالب الأحيان حول المحراب وقبّته والمنبر والمقصورة والمئذنة، في حين تكاد تخلو بقيّة بيت الصّلاة والبهو من أي عناصر زخرفيّة.

يمكننا حينئذ أن نلاحظ أن الخصوصيّات المعماريّة والزّخرفيّة للمساجد التّونسيّة القديمة لم تتغيّر كثيرا مع مرور الزمن، بل ظلّت متطابقة تقريبا خلال القرون السّابقة. فتَتّبع هذه المعالم نفس التّقاليد التّي تتكاثر فيها الأنماط الفنّيّة دون ابتكارات ملحوظة، بصرف النّظر عن التّجديدات التّي أُدخلت خلال الفترة العثمانية.

وقد تُعطي محاولة تصنيف مختلف المساجد مؤشّرا موضِّحا للتّطوّرات في التّصاميم الفنّيّة ومصادر التّأثير. فلقد قام الأستاذ والباحث التّونسي "أحمد السّعداوي"24 بتقسيم المعالم الدّينيّة العثمانية وتوصّل إلى التّمييز بين ثلاثة أنواع مختلفة هي:

المساجد التّي تَعكس النّموذج المحلّي المشيّد في إفريقيّة في العصور الوسطى: والتّي إعْتنت الدّولة العثمانية الحديثة بترميمها وصيانتها مع إدخال بعـض العناصر المعماريّة الزّخرفيّة (مثل جامع "القصر" وجامع "القصبة"...).

المساجد التّي تَعكس التأثير الأندلسي: مع الحفاظ على العديد من الميزات المحدّدة للنّموذج الافريقي، وتتواجد هذه المساجد بالمدن والقرى التّي أسّسها اللاّجئون الموريسكيّون الفارّون من "أسبانيا" خلال موجة الهجرة الكبيرة لـسنة 1609م (مثل جامع "تستور" وجامع "تبرسـق"...).

المساجد التّي تَعكس تأثيرا شرقيّا-عثمانيّا: من فئة المساجد الأكثر تمييزا للفترة التّركيّة والتّي هي على اتّصال وثيق بالحكّام الجدد للبلاد (مثل جامع "يوسف داي" وجامع "حمّودة باشا" وجامع "الصبّاغيـن" الذي بناه "حسين بن علي" في سنة 1727م). ويُقدّم هذا النوع من المساجد أحيـانا مظهرا لبعض التّأثيرات الأوروبيّة وخاصّة الإيطاليّة (مثل جامع "يوسف صاحب الطابع" الذي يحمل اسم مُؤسّسه ويعود تاريخ بنائه إلى سنة 1808م).


وتتّصل الاستنتاجات من هذا التّصنيف بتشكُّل أنماط فنيّة جديدة وتكوّن مصادر تأثير إضافيّة. في الواقع، لم يكن النّمط العثماني المُهيمن الوحيد بل وُجدت تأثيرات أخرى، إلى جانب التّقاليد المحليّة، في المباني الدّينـيّة التّونسيّة في العصر الحديث ونَعْني التّأثيرات الأندلسية التي قَـدِم بهـا الأندلسيون والتّأثيرات الأوروبيّة (إيطاليّة بالأساس). لذلك، فإن معمار المساجد التّونسيّة وزُخرفتها في العصر الحديث يتضمّنان، إضافة إلى الجانب التّركي الذي يُعدّ الأهمَّ حضورا، عدّة جوانب أخرى هي:

الجانب الأندلـسي: المُتمثّـل في إدخـال القـباب البصلـيّة الشّكـل المغـطّاة بتـشابك من القرمـيد المسطّـح والقباب المغطّاة بسُقوف هرميّة الشّكل من القرميد النّصف إسطواني والتّقليد لبعض العناصر المنتشرة بـالأندلس كالتِّلعِ Pediments-- والسّاعات الحائطيّة وإستعمال السّيراميك المصنوعة طبقا لعمليّة "الكويدراسيكا" -Cuedra-Seca25- وإنتشار الزّخارف الجصّية.

الجانـب الأوروبي: المُتمثّل في إدخال مواد جديدة مستوردة كـالرّخام (المُستخدم في الأعمدة والتّيجان) والسّيراميك.

الجانب التونسي الحر: المُتمثّل في التّجهيز المُنسّق للجدران لتبقى من دون طلاء وترصيف حجارة الأقواس وإستعمال الخزف التّونسي26..

الإضافات ذات الطّابع العثماني في معمار المساجد التّونسيّة وزُخرفتها والعائدة إلى الفترة الحديثة هي التّي تحتلّ مساحة أكبر. ونذكر منها خاصّة27:

* ما يتعلّق بالمجال المعماري:

• إدخال منشآت اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة إلى فضاء الجامع وهي مُتكوّنة عادّة من مدرسة وكـتّاب وحمّام وتربة لمؤسّس الجامع وأفراد أسرته، فضلا عن محلاّت تجاريّة بالطّابق الأرضي والذّي أصبح، منذ بداية الحكم العثماني، يُبنى على قاعدة لتصحيح مستوى الأرض28.

• اعتماد أمثلة جديدة تتميّز بوجود فناء كبير يلتفّ حول بيت الصّلاة من الجهات الشّماليّة والشّرقيّة والغربيّة بدلا من أن يكون مُحاذيا لها كما جرت العادة.

• بنـاء مـآذن شاهـقـة ومُثمّنة الشّـكـل مُتـوّجـة بشرفـات ناتـئة ترتـكـز إلـى قـاعـدة ويعـلوها الجـوسق (أو "الجامور" بالمُصطلح المحلّي) الذي يحمل بدوره ثلاث كرات أو تُفّاحات نحاسيّة في ترصيف متصاعد من الأكبر إلى الأصغر تُتوّجها راية معدنيّة على شكل هلال في اتّجاه القبلة.

• إدخال شكـل جـديد من أشكـال التّغـطية لبيت الصّلاة (القـباب بالنّـسبة إلى جامع "محمّـد باي المرادي" ومسجد "بيلي" بمدينة "سليمان" بالوطن القبلي).

• اعتماد منبر مبني مغطّى بمِظلّة قُوطِيّة.

• إضافة محراب ثانوي في الفناء الخارجي.

• إدخال المحفل (منصّة خشبيّة مُخصّصة لقرّاء القرآن الكريم الذّين يرتّلون الآيات القرآنيّة في صلوات الجمعة والأعياد الدّينيّة) وهو مُخصّص للخُوجات. 

* ما يتعلّق بالمجال الزّخرفي:

• اختيار زُخرفة كثيفة في بيت الصّلاة بكلّ من المحراب والمنبر وحائط القبلة وأحيانا ببقيّة جدران بيت الصّلاة. كل ذلك على الخزف والرّخام والجصّ في أشكال هندسيّة ونباتيّة وكتابيّة ثريّة جدّا.
• استخدام الأقواس ذات الأحجار المُتناوبة بالأسود والأبيض.

• اعتماد نوع جديد من التّيجان تسمّى "التّيجان التّركيّة".

• إدخال تقنية تطعيم الرّخام بالرّصاص.

• ظهور الكرات والهلال المذكورة آنفا فوق بعض العناصر المعماريّة وهي رمز للإمبراطوريّة العثمانيّة وشعارها. 

في نهـاية هـذا البحـث المُخـصّص لدراسة التّأثـيرات الفنّـيّة التّي أُدخلت على المنشآت العثمانية الجـديدة بمدينة "تونس"، يُمكننا الاستخلاص أنّ الأشكال المعماريّة والزّخرفيّة المُميّزة لهذه الفترة مُستمدّة من الدولة العثمانية.

دراسـة مـقـارنـة بـيـن جـامـع "مـحـمّـد بـاي الـمـرادي" وغـيـره مـن الـجـوامـع العثمانية بالدولة العثمانية.

"فترتان رئيسيّتان وجب فصلهما في تاريخ العمارة والزّخرفة العثمانية: الفترة السّلجوقيّة التّي تمتدّ من القرن الثّاني عشر إلى القرن الثّالث عشر ميلاديّا والفترة الكلاسيكيّة العثمانيّة التّي تُغطّي أساسا نهاية القـرنين الخـامس عـشر والسّادس عـشر ميلاديّا. أمّا القـرن الرّابع عـشر ميلاديّا فـيُعـتبر فـترة إنتـقـاليّة. وانطلاقا من القرن السّابع عشر ميلاديّا، اقتصر الفنّانون الأتراك إمّا على نسخ نماذج مـن الفترة الكلاسيكيّة دون محاولة جادّة للابتكار أو على محاكاة المنتجات الأوروبيّة مع قدر من التّعديل النسبي29"

ومع سقوط "قُسطنطينيّة" عام 1453م، بدأنا نشهد تطوّرا معماريّا جديدا بـ"تركيا" ببناء قبّة مركزيّة ضخمة تُغطّي مباني شاهقة وتُحمَلُ بطرق مختلفة. لكن يبدو أنّ هذا الاتّجاه كان قـد ظهر مع السّلاجقة على شكل نموذج بسيط ثمّ وقع تطويره خلال المرحلة الانتقاليّة للقرن الرّابع عشر ميلاديّا.

كما تميّزت الفترة الكلاسيكيّة بالشّكل الفريد لزخرفها الغنّي دائما والمُهيمن أحيانا، دون التّأثير سلبيّا على العناصر المعماريّة. ولقد اعتمد الدّيكور العثماني إلى حدّ كبير على النّمط التّأثيثي السّلجوقـي ولكن مع إدخـال بعض التّغييرات وقُدرة تامّة على إدماج الزّخرفة في صُلب العمارة30. ويُركّبُ الزّخرف العثمانـيُّ على مواد مختلفة كالحجر والرّخام والخشب والجصّ وخاصّة السّيراميك. أمّا الأشكال المختارة للتّزيين فهي في مُعظمها نباتيّة ثم هندسيّة دون الاستغناء عن النّقوش الكتابيّة.

وضمن مجموعة النّماذج التّي تُقدّمها أهمّ الجوامع العثمانيّة في "إسطنبول31"، يمكننا أن نُحدّد من خلال دراسـة "ألبرت غبريال32" عددا من الأنواع

(GABRIEL Albert, Les mosquées de Constantinopleصورة عـدد 9 : مختلف التّصميمات المعماريّة للجوامع العثمانيّة (المصدر :

* النّوع (أ): بيت صلاة، مربّعة أو مستطيلة الشّكل، مغطّاة بقبّة واحدة أو بمجموعة من القباب وتحيط بها شمالا وجنوبا بيوت جانبيّة.

* النّوع (ب) : بيت صلاة مربّعة مغطّاة بقبّة.

* النّوع (ت) : بيت صلاة مربّعة مغطّاة بقبّة مركزيّة مدعومة على طول المحور الرئيسي بنصفي قبّة.

* النّوع (ث) : بيت صلاة مربّعة، مغطّاة بقبّة مركزيّة، مدعومة على طول المحورين الاثنين بأربعة أنصاف قباب (مثل جـامع "شاهـزادي" -Chahzadé- وجـامع "السلطان أحمد" -Soultan Ahmed- وجامع "ياني فاليدي" -Yeni validé- وجامع "السّلطان محمد" -Soultan Mehmet-) - بديل : بيـت صلاة مستطيلة، مغطّاة بقبّة مركزيّة مدعومة بثلاثة أنصاف من القباب.
* النّوع (ج) : بيت صلاة مستطيلة الشّكل مغطّاة بستّ قباب متساوية.

* النّوع (ح) : بيت صلاة مستطيلة ذات قباب مركزيّة وممرّات جانبيّة.

- المجموعة الأولى : قبّة مركزيّة على مثال مربّع ومُعلّقات مُتدليّة Pendants--.

- المجموعة الثّانية : قبّة مركزيّة على قاعدة مثمّنة.

- المجموعة الثّالثة : قبّة مركزيّة على قاعدة سداسيّة.

نلاحظ حينئذ أن مثال الجامع، موضوع دراستنا، يقوم في مُجمله مُماثلا للنوع (ث)، أي تحديدا لجامع "السلطان أحمد" وجامع "ياني فاليدي" وجامع "السّلطان محمد" والمُماثلة بدورها لأقدم جامع بالمجموعة، وهو جامع "شاهـزادي" المبني في سنة 1548م.

إنّ معمار هذا المعلم الأخير وزُخرفته يجعلان منه أول "تُحفـة فـنّيّـة" للمعماري "سنان" ويُمثّلان البداية الحقيقـيّة للطّراز العثماني الكلاسيكي33. وإنّنا لنعتقد أنّ الاستنساخ التقريبي لمثال جامع "شاهـزادي" بـ"تـونس" لم يكن إعتباطيّا نظرا لأهميّة هذا المعلم ومكانته في تاريخ الفنّ العثماني


صورة عـدد 10 : لمحة عامّة من الدّاخل والخارج لجامع "شاهزادي" بـ"إسطنبول" المصدر :
STIERLIN Henri, L’architecture islamique et GABRIEL Albert, Les mosquées de Canstantinople.

هذا ويمكن إيجاد نقاط اتّفاق مع الطّراز المعماري والزّخرفي لجامع "محمّد باي" في مساجد مدن عثمانيّة أخرى، كجامع "محمّد علي" بـ"القاهرة" (الذّي بني خلال القرن التّاسع عشر ميلاديّا) وغيره من المساجد الأخرى.

خـــــــــــاتــمــــــة

لقد حاولنا، من خلال هذا البحث واعتمادا على جامـع "محمّد باي الـمرادي"، دراسةَ الخصوصيّات المعماريّة والزّخرفيّة التّي تمّ إدخالها من طرف الأتراك. ولقد كان الغرض الرّئيسي من هذه الدراسة التّعرّف على الإضافات الكبيرة للنمط العثماني إلى التّقاليد المحليّة بـ"تونس".

ولاحـظـنا بـصورة أعـمّ أن تعـدّد التّـأثيـرات الفـنّيّة لجـامع "محمّد باي" ساهـم في إنشاء أشكال معماريّة وزخرفيّة مختلفة جدا. فالتّأثيرات المحليّة الموروثة عن الفترات السّابقة والتّأثيرات الأندلسية التّي أدخلها اللاّجئون الأندلسيون، وبطبيعة الحال التّأثيرات العثمانية تجمّعت كلّها لتشكّل تُحفة معتبرة في تاريخ "تونس" الإسلاميّة. 

ولقد سمحت لنا الدّراسة المقارنة بين جامع "محمّد باي" وغيره من الجوامع المشابهة بالدولة العثمانية و"تونس" بالتّوقّـف عند الطّابع الفريد لهذا المبنى الدّيني وعند التّشابهات المعماريّة والزّخرفيّة التّي أمكن ذكرها مع أماكن العبادة المختلفة محليّا ودوليّا.

هوامش

1 يُعرف جامع "محمّد باي" منذ زمن طويل باسم جامع "سيدي محرز" بسبب قربه من زاوية "محرز بن خلف" التّي بنيت في القرن الحادي عشر ميلاديّا.
2 لم يكتمل بناء القباب الخاصّة بقاعة الصّلاة إلاّ سنةً بعد موت الباي المؤسّس وذلك على يدي شقيقه "رمضان باي".
3بناة هذه المباني لم يقوموا سوى بعكس عاداتهم وتقاليدهم في ميدان البناء.
4 حبّس الباي لفائدة مؤسّسته عقارات تسوّغها بموجب الشّراء القانوني الموثّق بعقود أصليّة محرّرة في تواريخ مختلفة.
5 الكثير من المسافرين الأوروبيّين والمؤرّخين العرب والباحثين المعاصرين يذكرون الهيكل الفريد من نوعه لجامع "محمّد باي" الملفت للنّظر عند المرور بـ"تونس"، وأكثر تحديدا بربض "باب سويقة". هذا الرّبض يسكنه وجهاء الإدارة التّركيّة وبرجوازيّون ميسورون، على طول نهج "بن عروس" ونهج "الباشا". ويسكنه أيضا وجهاء من موجة الهجرة الأندلسيّة لسنة 1609م. ممّا يفسّر موقع هذا المعلم الدّيني بالرّبض الشّمالي وليس بوسط المدينة.
6D'Aviler"يعتقد أن الجّامع قد بني على أيدي المهندس المعماري الفرنسي "دافيلار
أنظر في هذا الصّدد، مقالنا الذي نشر في سنة 2005.
Chiraz MOSBAH, 2005, p. 19-34
7المبنى يستند إلى المنصّة حيث شُيّد مسجدٌ حفصي صغير في الرّكن الجنوبي الشّرقي يحمل إسم مؤسّسه "إبراهيم الفلّاري" والذّي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر ميلاديّا، كما شيّدت مجموعة من المحلّات التّجاريّة في الرّكن الشّمالي الشّرقي وكانت مداخيل التأجير تستخدم في صيانة الجامع الحنفي. محمّد بن الخوجة، 1939، ص. 111.
8 Ahmed SAADAOUI, 1998, p. 121
9 بيت الصّلاة، قلب المبنى، يشهد على إنتظام معماري كبير. تحليل المثال الهندسي يكشف عن توزيع مخطّط تبعا لوحـدات محدّدة تنظّم التّركيب العام للجامع. أنظر في هذا الصّدد، مقالنا الذي نشر في سنة 2006
Chiraz MOSBAH, 2006, p. 141-170
10 وجبت المقاربة مع القاعة الرّئيسيّة لتربة البايات، المعلم الجنائزي الذي بناه "علي باي الثاني" إبن مؤسّس السّلالة الحسينيّة، التّي تقع في المدينة العتيقة لـ"تونس" والتّي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الثّامن عشر ميلاديّا (1777).
11 لقد قمت بنفسي بأعمال رفع دقيقة للتّصميم المعماري وجميع التّفاصيل الزخرفيّة للوضع الحالي لجامع "محمّد باي المرادي" خلال إعداد أبحاثي المتواصلة على هذا المعلم. ثمّ قمت بمقارنة هذه الأعمال مع الصّور الأرشيفية التي عثُرت عليها بالمعهد الوطني للتراث بتونس وتبيّن لي بأنه قد وقع تغيير الدّيكور الأصلي للمبنى بشكل عميق خلال حملة التّرميم الطّويلة التّي تواصلت من 1964 إلى 1982. وأشير إلى أنّه لم يقع تغيير الهيكل العام للمسجد الذي بقي على حاله.
لذلك قمت بدراسة الوضع الأصلي للجامع الذي تمكّنت من إعادة تشكيله بشكل تام، بعد جهد وعمل دقيق، بالاعتماد على صور أرشيفيّة صغيرة الشكـل (6صم x 6صم) بالأبـيض والأسود سـمحت لي باقـتفاء أثـر الـدّيـكور الأصلي الكامـل لجـامع "محمّد باي المرادي" ورسم جميع العـناصر والأشكال الزخرفيّة الأصليّة لهذا المعلم الدّيني. وهكذا استطعت تحديد الإضافات المعماريّة والزخرفيّة خلال الفترة العثمانيّة بتونس والقيام بمقارنات مع بعض المساجد التّركـيّة في تونس وغيرها من البلدان.
12 الطّابع الضّخم للغلاف الخارجي للمعلم لا يدع مجالا لوجود أيّ عنصر زخرفي كان من شأنه إثراء واجهات المبنى.
13 إستخدام السّيراميك لم ينتشر في أماكن أخرى من البلاد باستثناء العاصمة. في الواقـع، بلاطات السّيراميك المستوردة من "تركيا" (ربّما من ورشات "إيزنيـك" و"كوتاهـيا" في القرن السّابع عـشر ميلاديّا) والمستخدمة في زخرفة بيت الصّلاة في جامع "محمّد باي" هي نادرة في "تونس" وليس هنالك ما يعادلها قيمة وجمالا إلاّ بجامع "الصّباغين".
14 أنصاف القباب والقبيبات خالية تقريبا من أي عنصر زخرفي وهي مبيّضة بالجير
15 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 78 et 81 .
16 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 72 et 75 .
17 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 27.
18 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 171 et 172 .
19 يعتقد بعض مؤرّخي الفنّ أنّ الأتراك استخدموه بشكل متكرّر بسبب اسمه "الإله" الذّي يتـكـوّن من الحروف نفسها لكلمة "الله" وكلمة "هلال". محمّد عبد العزيز مرزوق، 1987، ص. 54.
20 Robert MANTRAN, 1989, p. 653 et 654
21 Jacques REVAULT, 1984, p. 86
22 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 71 .
23 Georges MARCAIS, 1926, Tome 1, p. 165-167 et 169.
24 Ahmed SAADAOUI, 1998, p. 107-108, 112 et 116
25 جلب اللاّجئون الأندلسيون إلى "تونس" في أوائل القرن السّابع عشر ميلاديّا تقنية "الكويدراسيكا" (أو الحبل الجاف)، التّي تتلخّص في حفر أشكال البلاطات لمنع مزج الألوان أثناء الطّهي وتجنّب إنتشار المينا على كامل المساحة.
26 Slimane ZBISS Mustapha, 1965, p. 296
27 Paul SEBAG, 1989, p. 249 هـذه الإدخالات موصوفـة عن طريق "بول سيباغ" أو تمّت ملاحظاتها بطريقة شخصيّة
28 يبدو جامع "محمّد باي" خاليا من ملاحق لأنّه ليس مبنيّا على مبدإ مجمّع معماري على طريقة أماكن العبادة التّركيّة الأخرى التّي بنيت في "تـونس" في نفـس الوقت. دراسة واحدة تشير إلى وجود مشروع غير مكتمل لبناء تربتين. محمّد بن الخوجة، 1939، ص. 116-117.
29 Robert MANTRAN, 1959, p. 217 et 218
30 Robert MANTRAN, 1959, p. 650 et 653
31 تتميّز الفترة الكلاسيكيّة أساسا بأعمال أحد أكبر المهندسين المعماريّين الأتراك وهو "سنان" الذّي منح "إسطـنبول"، في عهد "سليمان الأعظم"، مساجدها الأكثر إشعاعا وتمييزا لتاريخ "تركيا". صار هذا النمط الجديد فيما بعد يُحـتذى به وينفّـذ في جمـيع الأقاليم التّركـيّة.
Robert MANTRAN, 1959, p. 222
32 Albert GABRIEL, 1926, p. 261-363
33 Ekren AKURGAL, 1981, p. 149

المصادر والمراجع

ابن الخوجة محمّد،1939، تاريخ معالم التّوحيد في القديم والجديد، تونس.  

الدّولاتلي عبد العزيز وبن مامي الباجي، 1982، جامع وزاوية سيدي محرز، تونس.

مرزوق محمّد عبد العزيز،1987، الفنون آلزّخرفيّة الإسلاميّة في العصر العثماني، القاهرة. 

AKURGAL Ekren, 1981, L’art en Turquie, Fribourg.  

BEN MAMI Béji, 1999, « La mosquée M’hamed Bey, un exemple de la présence architecturale et artistique ottomane dans la Médina de Tunis », Cahiers des Arts et des Traditions Populaires, n°12, p. 1-22 .

GABRIEL Albert, 1926, « Les mosquées de Constantinople », Syria, n°7, p. 353-419

MANTRAN Robert, 1989, Histoire de l’Empire ottoman, Paris. 810p.

MANTRAN Robert, 1959, Trésors de la Turquie, Paris.  334p.

MARCAIS Georges, 1926, Manuel d’art musulman, Paris, 2 Vols, 460 + 500p. 

MOSBAH Chiraz, 1999, Architecture et décoration de la mosquée tunisienne à l’époque turque : Exemple de la mosquée de Mohamed bey el-Mouradi, Tunis,  128 p.

MOSBAH Chiraz, 2006, « Etude architecturale de la mosquée de Mohamed bey el-Mouradi », Revue d’Histoire Maghrébine (Fondation Temimi pour la Recherche Scientifique et l’Information), n°123, p. 141-170.

MOSBAH Chiraz, 2005, « Qui est l’architecte de la mosquée de Mohamed bey el-Mouradi de Tunis ? », Revue Arab Historical Review for Ottoman Studies (Fondation Temimi pour la Recherche Scientifique et l’Information), n°32, p. 19-34

REVAULT Jacques, 1984, Palais, demeures et maisons de plaisance à Tunis et ses environs du XVIème au XIXème siècle, Paris,  174p.

SAADAOUI Ahmed, 1998, « La mosquée tunisienne à l’époque ottomane », Corpus d’Archéologie Ottomane, p. 107-130.

SAADAOUI Ahmed, 2001,  Tunis, ville ottomane: Trois siècles d'urbanisme et d'architecture, Tunis, 538p.

SEBAG Paul, 1989, Tunis au XVIIème siècle, une cité barbaresque au temps de la course, Paris, 267p.

STIERLIN Henri, 1985, Soliman et l’architecture ottomane, Fribourg, 224p

ZBISS Mustapha Slimane, 1965, « Les monuments religieux dans l’architecture turque en Tunisie  », Actes du Congrès International d’Art Turc, Napoli, p. 295-296.

الكاتب

شـراز مـصـبـاح

أستاذة باحثة- جامعة البحرين.

Retour en haut