Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

Numéros en texte
intégral

Numéro 12

2021 | 12

طقوس الجنازة بإفريقية في العصر الوسيط

محمد سعيد

الفهرس

الملخّص

إن الطقوس الجنائزية تحيلنا على موضوع الهوية الثقافية والانتماء إلى مجموعة دون أخرى. ومهما اختلفت مظاهر تلك الطقوس فهي تُعبّر عن علاقة الإنسان بالمقدس وعالم الغيب اللذان أنشآ لديه نظم تمثُّلات لحياة ما بعد الموت في تحدٍّ واضح منه للفناء؛ وهذا ما يفسر نشأة هذه الطقوس. وتعتبر إفريقية الإسلامية مجالا خصبا لدراسة هذه الظاهرة التي تأثرت بالحضارات الي شهدتها المنطقة منذ ما قبل التاريخ؛ وهو ما يؤكده علم الآثار والأنثروبولوجيا، المجالان اللذان تُدرَسُ ضمنهما الظاهرة. فالطقوس تُعبِّر عن نظام التّمثّلات السّائد في فترة معينة، لكنها تعبر أيضا عن عناصر التواصل الخفي بين الثقافات ونظم التّمثّلات تلك، حيث لا توجد قطيعة بين فترة تاريخية وأخرى بقدر ما يوجد تراكم مُؤسِس لهوية مجموعة تجعل منها متفاصلة مع مجموعات أخرى. ونعتبر ان الطقوس الجنائزية أكثر الظواهر تعبيرا عن هذا الجانب الثقافي المحددّ للهويات. وتبعا لذلك سوف نحالو فغي مجال اول من هذا المقال دراسة مظاهر التواصل بين الفترات فيما الطقوس الجنائزية من ذ البدايات إلى العصر الوسيط، حيث تشكلت معالمها النهائية كنتيجة لعملية مثاقفة بين العصور والأديان. وفي مجال ثان سوف نتعرض إلى دور الفقه في تقنين هذه الطقوس التي حاول الفقه تقنينيها الفقه المالكي غير أن الوضع لم يكن كما أراده الفقيه في هذا الصدد. وهوما سنحاول تبيانه في المجال ثالث، من خلال الجوانب العملية والإجرائية لتلك الطقوس وتداعياتها على نشأة ظاهرة الولاية والصلاح منذ العصر الوسيط الأول. عبر دراسة الانزياح من زيارة القبور إلى نشأة الولي الحامي للمدينة وللمجموعة التي تتمثل هويتها عبره.

الكلمات المفاتيح

جنائزية، إفريقية ،عصر وسيط، ذاكرة، أولياء.

Résumé

Les rites funéraires nous renvoient au sujet de l’identité culturelle et de l’appartenance à un groupe ethnique plutôt qu’à un autre. Aussi différentes que soient les manifestations de ces rituels, ils expriment la relation humaine avec le monde sacré et invisible, qui ont créé des systèmes de représentations de la vie après la mort au mépris clair de l’anéantissement ; Ceci explique l’origine de ce rituel. L’Ifriqiya islamique est un terrain fertile pour l’étude de ce phénomène qui a été affecté par les civilisations dont la région a été témoin depuis la préhistoire. Ceci est confirmé par l’archéologie et l’anthropologie, les deux domaines dans lesquels le phénomène est appréhendé. Les rituels expriment le système de représentations prévalant à une époque donnée, mais ils expriment aussi les éléments pérennes du syncrétisme entre les cultures et leurs systèmes de représentation, où il n’y a pas de rupture entre une période historique et une autre autant qu’il y a un ajout qui ne cesse d’enrichir l’identité d’un groupe bien déterminé pour le démarquer des autres groupes ethniques. Nous considérons que les rites funéraires sont les éléments les plus expressifs de cet aspect culturel qui définit les identités. En conséquence, nous allons aborder dans cet article, et dans un premier lieu, les aspects de la continuité entre les périodes historiques et leur impact sur l’évolution des rites funéraires de l’Antiquité au Moyen Âge, dans le cadre d’un processus d’acculturation entre les âges et les religions. Dans un second lieu ; nous évoquerons le rôle de la jurisprudence dans la réglementation de ces rites, que les jurisconsultes ont tenté de codifier, en vain. Ce que nous tenterons d’éclairer dans un troisième lieu, à travers les aspects pratiques et procéduraux de ces rituels et leurs répercussions sur l’émergence du phénomène de la sainteté durant le haut moyen âge. A travers l’étude du glissement de la coutume de la visite des tombes à l’émergence du phénomène du Saint protecteur de la ville et du groupe dont il est devenu le symbole de leur identité.

Mots clés

Funéraire, Moyen Age, Iriqiya, Saints.

Abstract

Funeral rites refer us to the subject of cultural identity and belonging to one group or another. No matter how different the manifestations of these rituals are, they express the human relationship with the sacred and the unseen world, which created systems of representations of life after death in clear defiance of annihilation. This explains the origin of these rituals. Islamic Africa is a fertile field of studying this phenomenon, which has been affected by the civilizations that the region has witnessed since prehistoric times. This is confirmed by archeology and anthropology, the two fields in which the phenomenon is studied. Rituals express the system of representations prevailing in a particular period, but they also express the hidden elements of communication between cultures and those systems of representation. In fact, there is no rupture between one historical period and another as much as there is a foundational accumulation of the identity of a group that makes it separate and distinct from other groups. We consider the funeral rites the most expressive feature of this cultural aspect that defines identities. Accordingly, the first part of this article will study the aspects of communication between periods and funeral rites from the beginnings to the middle Ages, where their final features were formed as a result of an acculturation process between ages and religions. In the second part, the focus will be on the role of jurisprudence in codifying these rituals, that the Maliki jurisprudence tried to codify, but the situation did not serve the jurist in this regard. This will be explained in the third part of this article through the practical and procedural aspects of these rituals and their repercussions on the emergence of the phenomenon of guardianship and righteousness since the first Medieval Era. The study will focus on the shift from visiting the graves to the emergence of the guardian of the city and the group whose identity is represented through it.

Keywords

Funeral, middle Ages, Ifriqiya, Memory, Saints.

المرجع لذكر المقال

محمد سعيد، « طقوس الجنازة بإفريقية في العصر الوسيط »، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 12، سنة 2021.

URL : https://al-sabil.tn/?p=12882

نص المقال

المقدمة

تدخل مقاربة مسألة الطقوس بصفة عامة والجنائزية منها خاصة تدخل ضمن نطاق الدراسات الانثروبولوجية، وخاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية والأثنولوجيا1 ويهتم هذا الحقل المعرفي بكل مظاهر الطقوس التي مارستها المجتمعات البشرية، خاصة تلك المتعلقة بالجنازة، إذ تبرز فكرة الموت عند الكائن البشري باعتباره الوحيد الذي يعي موته من بين سائر الكائنات. وتأتي هذه الطقوس الجنائزية لتُجسّد بطريقة أو بأخرى إنسانية الإنسان، ليكون الموت طقسا من طقوس العبور2. من جهة أخرى يحيل التعاطي مع الموت على الجانب الثقافي من الإنسان، وذلك ناشئ عن وعيه بحضوره في الكون، هذا الحضور الذي ينتهي بموته. والوعي بالموت هو الذي كان وراء نشأة نظم التمثلات التي بناها الإنسان عبر مسيرته التاريخية. كما نشير إلى أن الطقوس تُحيلنا على عالم المقدس المتصل بالديانات والتمثلات التي تكتسي أساطير مؤسسة من شأنها أن تبررأو تفسر تلك الطقوس المعبرة عن التصورات التي تعطي معنى للوجود الإنساني. وفي هذا الإطار تكون الطقوس بصفة عامة التعبير الاجتماعي عن إنسانية الإنسان3. إن الطقوس هي الإجراءات والشعائر التي تعبر عن تلك التمثلات التي أنشأها الإنسان حول كل مالَه صله بعالم الغيب أساسا، وهو مايندرج ضمن نطاق السحر والدين، وكل ما يتصل بالمقدس الذي يحتل حيّزا مُهمّا من حياة الإنسان المتدين [ homo religiosus ] حسب ما ذهب إليه مرسيا إلياد4.

أيضا تحيلنا مسألة الطقوس عموما على الهوية الثقافية والقومية للجماعات البشرية عبر تاريخها الطويل5، فمن خلالها تتجلى الأحاسيس بالانتماء إلى مجموعة بعينها دون سواها، وتلك هي أبرز وظائف الطقوس6. وفي هذا الإطار تعتبر الطقوس الجنائزية أبزر المظاهر والتجليات الرمزية التي تعبر عن تلك الهوية؛ وهذا ما يظهر عند مشاهدة مراسم الدفن التي تختلف من ثقافة إلى أخرى، إذ يمكن ملاحظة الفرق بين مراسم الدفن عند المسلمين وعند غيرهم من أتباع الديانات الأخرى. وفي هذا الإطار يتنزل هذا العمل الذي يهدف إلى تسليط الضوء على طقوس الجنازة بإفريقية في العصر الوسيط بكل ما يرافقها من مواقف وتمثلات وتداعيات على ظاهرة الولاية والصلاح لاحقا. وستكون مقاربتنا للمسألة من وجهة نظر أنثروبولوجية تأخذ بعين الاعتبار تتبع مظاهر التواصل مع الممارسات السابقة للإسلام بأرض إفريقية وهي مظاهر قد تأخذ شكلا ظاهرا أو خفيا (غير معلن).

وسوف نتطرق إلى الموضوع في النقاط التالية:

           - الجذور التاريخية للطقوس الجنائزية الإفريقية

           - الطقوس الجنائزية الإسلامية

           - مسألة التواصل بين الأحياء والانزلاق نحو نشأة ظاهرة الولاية والصلاح.

1. الجذور التاريخية للطقوس الجنائزية الإفريقية

على عكس ما يتبادر إلى الأذهان من أن الطقس الجنائزي الإسلامي هو مجرد تقليد إسلامي مبتدع وخاص بالمسلمين، كما لو لم يكن من قبل؛ فإن البحث التاريخي والأثري يبين العكس ويثبت مدى تأثر هذه الطقوس بثقافات أخرى سابقة أو معاصرة للثقافة الإسلامية ذات الصلة.

1.1. الموروث العربي الجاهلي وتواصله

إن المجتمع الإفريقي جزءٌ من المجتمع العربي الإسلامي الذي لم يكن بمعزل عن الاختراقات الثقافية المعاصرة له أو التي سبقته، وهذا أمر عادي في كل المجتمعات البشرية. كما نود أن نشير إلى أن للطقوس دورا في تحديد الهويات لكن هذه الهويات ليست صافية تماما، فعملية المثاقفة تبرز في الطقوس الجنائزية أكثر من أي مجال آخر. وفي هذا السياق نود التذكير بالعناصر »الجاهلية » في الطقوس المتصلة بالجنازة وهو امر عادي باعتبار أن جملة الطقوس الإسلامية تنتمي في معظمها إلى العصر الجاهلي، بما فيها طقوس الحج التي وقعت أسلمتها. لذلك نجد أن جذور هذه الطقوس في الممارسات العربية قبل الإسلام، كالتكفين، والتأبين، وكل ماله صلة بالطقوس الجنائزية إلا ممارسة عادة البليّة. فقد كان الناس في « الجاهلية » يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم. كما كانوا يكفنون الموتى ويصلون عليهم. وكانت صلاتهم تتمثل في أن يحمل الميت على سرير ثم يقوم وليُّه فيذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يقول: رحمة الله عليك، ثم يدفن. وكانوا يمارسون عادة البلية وهي أنهم يعمدون إلى راحلته التي كان يركبها فيوثقونها على قبره معكوسة رأسها إلى يدها، ملفوفة الرأس في وليتها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت ليركبها إذا خرج من قبره. وكانوا يقولون إن لم نفعل هذا حشر يوم القيامة على رجله. وكانت الناقة التي يفعل بها هذا تسمى البليّة7.

ومثل هذه الممارسات توحي بالإيمان بالبعث والقيامة، وهي معتقدات كانت سائدة قبل ظهور الإسلام بين فئة الأحناف على غرار كعب بن لؤي أحد أجداد الرسول؛ وهي حركة دينية وصف دُعاتها بالحنفاء8. كما نُذكّر أن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بحتمية الموت والبعث رغم وجود تيار غير مؤمن به، والذين يسميهم الشهرستاني بالمُعطّلة على غرار عبد الله الزعبري الذي ينسب إليه هذا البيت:

حياة ثم موت ثم نشر           حديث خرافة يا أم عمرو9.[الوافر]

في المقابل نجد من كان يؤمن بالله وبالبعث والنشور وهو ما يتردد كثيرا في مقولات الجاهليين وشعرهم على غرار ماورد عن زهيربن أبي سلمى الذي قيل عنه أنه تحدث يوما فقال: « لولا أن تسبني العرب لآمنت بأن من أحياك بعد يُبس سيحيي العظام وهي رميم ». وهو ما يبرز من خلال قصيدته:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر           ليوم الحساب أو يعجل فينتقم10 [الطويل]

وهو ما عبّر عنه علاّف بن شهاب التميمي في قوله:

وعلمت أن الله جاز عبده*** يوم الحساب بأحسن الأعمال11 [الكامل]

يستفاد مما تقدم أن الطقوس المتصلة بالجنازة التي تنتمي إلى الإسلام لها في الحقيقة رافد عربي « جاهلي » باعتراف المسلمين أنفسهم، فهذا التواصل ليس إلا عنصرا من عناصر الهوية التي العربية التي تدعمت بالإسلام ولم يكن هذا الدين ليمارس القطيعة مع ما سبقه إلا جزئيا. فالطقوس لا تنتهي بمجرد تغيير في المعتقد لأنه يعتبر بدوره تواصلا للقديم في كثير من نواحيه. وحتى طقوس الحج ليست سوى استعادة للطقوس الوثنية بعد تهذيبها وتخليصها من الشرك؛ والوضع نفسه يخص طقوس الجنازة التي ألغيت منها بعض المظاهر التي لم تعد تتماشى مع طبيعة المرحلة الجديدة مثل طقس البليّة المشار إليه سابقا. ومختصر القول إن الطقوس الإسلامية المتعلقة بالموت تحمل في طيّاتها جذورا عربية ما قبل إسلامية؛ لكنها لن تكون الوحيدة لأننا عثرنا على مظاهر أخرى من مظاهر التواصل مع ثقافات توحيدية تتقاطع مع الإسلام مثل اليهودية والمسيحية. فما هي مظاهر التقاطع بين الطقوس الإسلامية وغيرها من الطقوس في اليهودية والمسيحية؟

2.1. الطقوس اليهودية

إن المتابع للموضوع يلمس تشابها كبيرا بين الديانتين فيما يخص طقوس مصاحبة المتوفي بكل تفاصيلها وهذا أمر فهموم باعتبار تقاطع الديانات الثلاث في الكثير من العقائد والطقوس، وباعتبار أن الإسلام قد وضع نفسه ضمن مسار التوحيد الذي بدأ مع اليهودية. هذا التواصل في الطقوس بإفريقية قد يفهم من خلال تاريخ الحضور اليهودي السابق للإسلام بعدة قرون، وهو أمر لا يمكن إغفاله. ومن مظاهر التقاطع بين الديانتين فيما يتعلق بطقوس الجنازة نشير إلى عادة تجهيز المتوفى فيما يخص الطهارة والتكفين وتحريم الأثاث الجنائزي الذي يحيل على عادات وثنية شهدتها إفريقية منذ عهود سحيقة. وما يلفت الانتباه في هذا الخصوص أن تشابها كبيرا بين الديانتين بخصوص اعتبار الموت جسرا نحو خلود الروح، باعتبار أن الجسد مجرد أداة تُمكّن المؤمن[اليهودي] من التعبير عن إيمانه بالربّ الذي لا يجازيه في الحياة الدنيا ولكن في الآخرة، وهكذا يكون الموت هو الطريق إلى الجزاء الموعود12. وفي سفر التكوين ورد أن اليهودي يكون معتقدا في قيامة الأموات، وأنه لا يخشى الموت لأن ذلك من إرادة الرب، كما وردت الإشارة إليه في التوراة13.

ونلاحظ تقاطعا بين التمثل اليهودي والإسلامي يبرز في ضرورة الإسراع بالدفن: « إكرام الميت دفنه » عند المسلمين والدعوة إلى الدفن خلال الأربع والعشرين ساعة التي تلي الوفاة عند اليهود، كما ورد في سفر التثنية 21- 1423. كما نجد عناصر مشتركة متمثلة في تجهيز المتوفى، مثل طقس الغسل الذي يبقى مشتركا بين الديانتين، رغم أن التوراة لا تشير إلى ذلك، ولكن النصوص القديمة مثل « الميشنا » تبرز تعاليم ذات صلة بهذه العملية، وهناك من يعتقد أن اليهود قد أخذوا عادة الغسل والتجهيز عن العالم الإغريقي أثناء اختلاطهم بهم من القرن الثاني إلى القرن الرابع م. كما أن في التملود إشارات عن هذه المسألة15. غير أن حضورهم في الشمال الإفريقي والبيئة العربية البربرية نتجت عنه تأثيرات تشمل كافة الطقوس منها المتعلقة بالتعاطي مع الموت مثلما بينه بعض الدارسين اليهود16 وفضلا عن الطهارة، لا تخلو الطقوس اليهودية من التكفين17 . كما نجدا تماثلا بين تفاصيل قد تبدو بسيطة لكنها ذات دلالة فيما يخص الدفن، إذ يتم ذرّ ثلاثة حفنات من التراب على الميت قبل حث التراب على الجثمان وقبل مواراته الثّرى. وفي نفس السياق يمارس اليهود صلاة الجنازة في المقبرة على غرار المسلمين؛ وتسمى قُديش بالعبرية أو الآرامية18.

ويعتبر الحداد عنصرا هاما ضمن هذه الطقوس، فهو إعادة إنتاج الفعل المؤسس الأول الذي جسّده حزن النبي يعقوب على يوسف19.

3.1. الطقوس المسيحية

من المعلوم أن حضور المسيحية في شمال إفريقيا كان له تأثير واضح المعالم في عادات السكان وتقاليدهم وطقوسهم، خاصة ما يشمل منها التعاطي مع الوفاة، إذ تحاول المسيحية أن تتفاصل مع الوثنية ومع اليهودية معلنة بذلك عن تشكل هوية جديدة، رغم أن هذه الطقوس لم تكن خالية من الاختراق الوثني واليهودي، فضلا عن كونها تشبه إلى حد كبير ما يحدث في المتوسط باعتبار خضوعه للسيطرة الرومانية؛ وهو ما يجعل من هذه الطقوس مجالا لمثاقفة بين تيارات متجاورة جغرافيا ومتقاربة من الناحية الدينية. وهذا ما أثبته بحث قُدّم بجامعة ستراسربورغ في 2016 يخص الطقوس الجنائزية في إفريقيا الشمالية الرومانية من القرن الثالث إلى القرن الخامس م انطلاقا من مؤلفات لكُتّاب أفارقة20. وتحاول طقوس الجنازة في الديانات التوحيدية خلق مفاصلة مع الطقوس الوثنية السابقة: البونيّة والبربرية الرومانية وكذلك مع بعض العناصر اليهودية. وقد عبر المؤلفون الأفارقة عن هذه النزعة المسيحية التي تلح على مسألة القطيعة مع الوثنية بكل مظاهرها، خاصة تلك التي تخص طقوس الجنازة، إذ يُعيّر تارتوليانوس الوثنيين بأنهم يخلطون بين موتاهم وآلهتهم حين يمارسون طقوس الدفن21. وهذا لآكتانس يتهكم بدوره على الوثنيين الذين يؤلهون الموتى، وذلك في سياق التأصيل للعقيدة المسيحية22. وقد جاءت كتابات الأفارقة هذه لتؤسس لعقيدة جديدة فيما يخص كل مراحل التعاطي مع طقس الجنازة وهو ما عبّر عنه تارتوليانوس بكل حماسة وتشدد إزاء الممارسات الوثنية التي يندد بها، منكرا على الوثنين خلطهم بين الآلهة والبشر23، غير أن هذه المفاصلة لا تعني تواصل بعض الممارسات الوثنية التي تتعلق بطقوس التوديع والتي تسمى في اللاتينية القُبلة الأخيرة أو النفس الأخير الذي يصدره المحتضر قبل الوفاة بحضور المقربين منه، والذين يقبّلونه ، وهي ممارسة تواصلت مع المسيحية كما ورد في كتابات المؤلفين الوثنيين و المسيحين من بعدهم24. ومن علامات التقاطع بين مظاهر الطقوس عند المسيحيين والمسلمين ما يمارس من أفعال تخص طقوس الوداع، فعند حضور الوفاة مثلا نذكر بما يمارس من إغلاق عيني المتوفى مباشرة بعد مفارقته الحياة وهو ما تشير إليه المؤلفات الإفريقية المسيحية التي أشرنا إليها آنفا25.

وفي هذا السياق نجد تشابها كبيرا بين ما يمارس من طهارة للجثامين مع ما يتطلبه ذلك من عطورات خاصة وأفاويه كما بيّنه تارتوليانوس مشيرا إلى ضرورة عدم التشبه بالوثنيين في هذا الصدد26، مضيفا أن الطهارة تمثل استجابة لشروط الصحة بالنسبة للميت وهي تعبير عن مظاهر الاحترام نحو ذاته27. كما نلمس تشابها فيما يخص المبالغة في البكاء وموقف الديانتين منه حيث نجد لدى المؤلفين المسيحيين الأفارقة في دعوتهم إلى تجنب المبالغة وإلى التحفظ28 وعدم التشبه بالوثنيين في هذه الحالة وهو ما نجده في التمثل الإسلامي « الشرعي » للحزن. وأما فيما يخص صلاة الجنازة، فبالرغم من اختلاف المواقف؛ كأن أن تكون قبل الدفن أو بعده كما يدعو إلى ذلك أوغيستين، لكن عند وفاته أقيمت له صلاة قبل الدفن كما أشار الباحثون29.

وهكذا نتبين أن التقاطع بين الثقافات بخصوص الطقوس أمر عادي بحكم اختلاط المجتمع الإفريقي الذي شهد حضور عناصر بشرية من أصول عرقية ودينية محتفلة، والمثاقفة أمر مفهوم لا يخص إفريقية وحدها، بل لا تكاد تخلو منها جماعة بشرية، كما نعتبر أنه لا توجد مجموعة بشرية خالية من الاختراق الثقافي. ومحصل القول أن الطقوس الجنائزية الإفريقية الإسلامية في العصر الوسيط هي نتيجة تفاعل عدة عناصر؛ منها ما هو محلي أصلي ومنها ما هو دخيل، ومنها ما هو وثني ومنها ما ينتمي إلى النسق التوحيدي العام الذي وضع الإسلام نفسه ضمن نطاقه. ونمر الآن إلى تناول الطقوس الإسلامية.

2. الطقوس الجنائزية الإسلامية

تناول في المبحث الأول مسألة الطقوس في مرحلة ما قبل المقبرة، ثم نتطرق إلى الوضع في المقبرة، ونختم بالطقوس التي تتصل بالقبر وبالمتوفى من مسألة الحداد وزيارة المقابر وتداعياتها على نشأة الولاية والصلاح.

1.2. طقوس ما قبل المقبرة

        1.1.2. طقوس ما قبل المقبرة

إن الطقوس التي ندرسها لا نجد لها تعاليم خاصة في القرآن، لكن الفقه الإسلامي ثري بالمواد المتعلقة بهذه المرحلة الحساسة من الانتقال بين عالمي عالم الغيب والشهادة، أو دار الحق ودار الباطل. إن المحتَضَرُ هو الذي قد حضر أجله؛ أي الذي بدت عليه علامات الوفاة من الناحية الفيزيولوجية. وهنا لا نتحدث إلا عن الحالات العادية للوفاة؛ إذ قد تحدث وفايات فجئية أو تقع حوادث لا تتوفر في نطاقها شروط الإحاطة بمن يعيش آخر لحظات الحياة. قبل تناول الموضوع في أشد تفاصيله، نود التذكير بمقاربة الموت من وجهة نظر إسلامية لأنها تعتبر بابا يدخله كل الناس. وهذه الحتمية تحيلنا أيضا على موقف العرب قبل الإسلام كما عبّر عن ذلك زهير بن أبي سلمى قائلا:

رأيت المنايا خبط عشواء من           تصب تُمته ومن تخطئ يُعمّر فيهرم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنــه            ولو نال أسباب السماء بسلم [الطويل]

أو ما عبر عنه كعب بن زهير من قصيدة البردة:

كل ابن انثى وإن طالت سلامته          يوما على آلة حدباء محمول[البسيط]

هذه الحتمية هي التي تجعل من الإنسان على قناعة بأن الموت لا مفرّ منه، وهي الحقيقة الوحيدة التي لاشكّ فيها ولاريب. وقد كان النبي يُحرّض على ذكرها باعتبار أن ذكرها يجعل المسلم لا يُقبل على الدنيا ولا تعجبه مباهجها. كما يستحب أن يُحسّن المريض من سلوكه استعدادا لقاء ربه بقلب طاهر، وأن يوصي أهله باتباع السنة وترك البدع30. ورغم حتمية الموت فإنه لا يجوز للمسلم أن يتمنى الموت لمريض أو لنفسه؛ اللهم في حالة الخوف من الفتنة في دينه كما يعبر عن ذلك الحديث المرفوع عن النبي: « وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ ، وَأَنَا غَيْرُ مَفْتُونٍ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبًّا يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ »31. كما ورد عن النبي أنه قال في هذا الحديث: « خياركم أطولكم أعمارا أو أحسنكم أعمالا »32.

وفي هذا الصدد نود أن نشير إلى ما تناوله كتب الفقه في باب الجنائز بخصوص مسألة الاحتضار. فمن أهم ما يجب أن يقوم به المحيطون بالمحتضر أن يُندب له تحسين ظنه بالله تعالى بأن يرجو رحمته وسعة عفوه33. كما يُطلب أن يكون المحتضر طاهرا في جسده وثيابه وفراشه. مع ضرورة أن يكون المكان طيّبا بالبخور طردا لكل رائحة كريهة. وهو ما ذكره ابن رشد في المقدمات. ومن الأشياء المندوبة في هذا الموضع ما يتعلق بالحضور في غرفة المتحضر وفيه تفاصيل حدّدها الفقه المالكي السائد بإفريقية. فمن المستحسن ملازمة الأقارب له عند الاحتضار. وإن لم يكن له أقارب فعلى أصحابه الحضور، وإن تعذر فجيرانه، أو فعلى عموم المسلمين حضور الوفاة؛ وهذا فرض كفاية. كما تسقط صلاة الجمعة عمّن وجب عليه حضور المحتضر. ويتجنب حضور المرأة الحائض أو النفساء ومن كان على جنابة34، والصبي العابث والكلاب والتماثيل وآلة اللهو وكل ما تكرهه الملائكة التي تكون حاضرة عند هذا المشهد35. أما بخصوص قراءة القرآن على المحتضر اختلف فيه بين الفاتحة وسورة ياسين؛ وقد رأى مالك كراهة ذلك وقال النفزواي يمكن ان تقرأ على وجه التبرك، كما يصح دفع أجر من يقرأها36. وهو موقف الفقيه ابن عرفة الذي يذهب إلى جواز القراءة قصد التبرك37. ويستحب أن يلُقّن المحتضر الشهادتين؛ فقد جاء أن من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة38. ولا يجب على الملقن أن يلح على المحتضر في نطق الشهادتين39. كما يستحب الدعاء له بتسهيل الأمر الذي هو فيه والدعاء مستجاب لتأمين الملائكة على الدعاء40.

كما يُندب توجيه المحتضر إلى القبلة حين حضور أجله، لا قبل ذلك. ومن علامات ذلك شخوص البصر واسترخاء القدمين واعوجاج المنخرين. وقد روي عن البراء بن معرور أنه أوصى عند وفاته بأن يوجه إلى القبلة عند دنو أجله. فما سمع الرسول، قال: لقد أصاب الفطرة41. وأن يكون على شقه الأيمن كما يجعل في لحده أو كما يصلي المريض42. ومن الأمور المكروهة عند هذا المشهد إرسال الدمع بالبكاء باعتبار أن الميّت يعذب ببكاء أهله سيّما إن أوصى به43. أو أو أنه لم يوص بتركه. وهنا يوصي الفقه بالصبر والتجلد عملا بالحديث إنما الصبر عند الصدمة الأولى44.

عملا بالآية:﴿ كل نفس ذائقة الموت وإلينا ترجعون ﴾45. كما أوصى النبي بعدم النياحة التي هي من عادات أهل الجاهلية: أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لايتركوهن: « الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة ». وفي حديث آخر: « النائحة إن لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب »46. وقد ورد في الحديث ما يفيد بضرورة الصبر والتجلد باعتبار مبدإ التعويض وهو ما يعبر عنه بالحسبة في المصيبة كما قال النبي: عن أبي هريرة: « لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد،فتمسه النار، إلاتحلّة القسم. وقال عن أم سلمة: من أصابته مصيبة فقال،كما أمر الله : إنا لله وإنا إليه راجعون،اللهم أجزني في مصيبتي،وأعقبني خيرا منها،إلا فعل لله ذلك به47 ».

ما الذي يجب فعله عند الوفاة مباشرة؟ الوفاة هي قبض روح المتوفى ويعبر عنه بالانتقال إلى الرفيق الأعلى كما عبر عن ذلك النبي حين قربت منيته: « اللهم الرفيق الأعلى » فعرفت عائشة أنه ذاهب48. ويجب على الأحياء القيام بأربعة أمور: غسله، وتكفينه، ودفنه، والصلاة عليه49. وأما القاضي ابن العربي المالكي فيقول بستة أشياء هي: حضوره، غسله كفنه، حمله والصلاة عليه، ودفنه50. وتستند الذاكرة الإسلامية في هذه الأمور إلى ما يرويه أهل السير عن أصول هذه الممارسات التي تعود إلى زمن آدم. حين توفي أتي بكفُن وحنوط من الجنة، ونزلت الملائكة وغسلوه وكفنوه في وتر من الثياب وحنطوه، قام ملك منهم فصلى عليه، وصفّت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه، ونصبوا اللّبِن عليه، وابنه شيت معهم. فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وإخوتك، فإنها سنّتكم51 . وهكذا يكون الطقس في هذه الحالة تكرارا لعمل قام به الجد المؤسس في الزمن الأول: l’archétype. ومن خصائص الطقس كما هو معلوم نزعته التكرارية. وبمجرد الوفاة يندب تغميض عينيه وشدّ لحيته بعصابة عريضة وربطها من فوق لكي ينطبق فمه، لقبح منظر العينين والفم وهما في حالة فتح. من يقوم بهذا عليه ان يدعم فعله بالقول التالي: بسم الله، وعلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه موته وأسعده بلقائك وأجعل ما خرج إليه خيرا مما خرج منه52. ثم يرفع عن الأرض كي لا يسرع إليه الفساد وتناله الهوام، فيوضع على دكّة أو سرسر. ويندب ستره بثوب صونا له عن الأعين. ثم ينزع ما عليه من الثياب ماعدا القيس. كما يندب الإسراع بتجهيزه ودفنه خوف تغيره. إلا من مات غرقا أو بالسكتة أو فجأة او وقع تحت هدم فيجب تأخيرهم حتى يومين أو ثلاثة لاحتمال حياتهم53.

        2.1.2. الغسل وأحكامه وشروطه

يستند المسلمون إلى السنة في القول بوجوب هذه المسألة إذ أمر النبي بغسل ابنته المتوفاة عندما قال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك. واعتبر البعض أن غسل الميت تعبُّد ونظافة في نفس الوقت. وجاء في الأثر ثواب غاسل الأموات وفضله لأن عليه أن يكتم ما قد يراه من أمر الميت؛ وله في ذلك أجر عظيم54. وقد أشار الإمام المازري الإفريقي أن الغرض من الغسل هو التنظيف والتأهب للقاء الملكين، لتستشعر النفوس أمر المعاد ولقاء الملائكة، وذلك مما يجب أن يتأهب له بالتطهر؛ لذا وجبت المبالغة فيه55. في نفس الإطار هناك شروط دقيقة يجب احترامها فيما يتعلق بهذا الطقس، وهي على التوالي:

        - أن يكون مسلما حاضرا ولو صغيرا تحققت حياته بعد الولادة ولو للحظة. غيره أن هناك حالات لا يجب فيها غسل الميت56. حتى ولوكان مجرما، فلابد من غسله57.

        - من مات شهيدا، وهو من قتل في حرب مع الكفّار، ولو قتل في بلاد الإسلام .ويدفن الشهيد بثيابه وجوبا. ولا تدفن معه آلة الحرب. ولا يصلى عليه.

        - الميت الذي فقد أكثر جسده. فإن بقي من جسده دون الثلثين مع الرأس، فإن غسله مكروه.

        - الأموات الذين كثر عددهم، إذا تعذر غسلهم أو تيمّمهم، سقط غسلهم، ولكن الصلاة عليهم واجبة لامحالة.

       - السقط: وهو الجنين الذي ولد ميتا. وقد قال مالك بن أنس في ذلك لا يُصلّى على المولود ولا يسمى، ولا يورث، ولا يرث حتى يستهل صارخا بالصوت58. وفي غياب من يغسل الميت من محارمه أو محارم المرأة حين لا توجد نساء يقمن بالمهمة ولا من ذوي محارمها، ولا زوج يلي ذلك منها فمسح بوجهها كفيها من الصعيد. وقال مالك أيضا وإذا هلك الرجل، وليسمعه أحد، إلا نساء، يُممّنه أيضا59.

       - الكافر لا يغسل ولا يصلى عليه، بناءً على أن غسل الميت للتعبد. لكن الشافعي يقول بجواز غسل المسلم لقرابته المشركين ويدفنهم.

        3.1.2. من يجوز له غسل الميّت؟

مبدئيا يغسل الرجلُ الرجلَ والمرأةُ المرأةَ. ويمكن للزوجين غسل أحدها الاخر. وتغسل النسوة الصبي ابن ست سنين أو سبع لا أكثر، والرجل البنية الرضيعة لا أكثر. وفي الغسل واجب القريب أولى من البعيد بعد الزوجين، مع إمكانية غسله من قبل البعيد. أما صفة الغسل فهو كغسل الجنابة مع بعض تفاصيل أخرى خاصة. يكون الغسل ثلاث مرّات أو زيادة مع ضرورة احترام قاعدة الإيتار[3-5-7]. كما لا يجب حضور غير الغاسل ومساعده. ويجب على الغاسل أن يغتسل بعد الفراغ من مهمته. وقد ورد في بعض الأخبار أن بعض القضاة الذين عرفوا بالتواضع إلى حد التطوع بغسل رجل غريب أسود اللون بالقيروان »60.

كما يجب احترام حرمة جسد المتوفى بستر عورته بتغطيته من قبل ومن دبر بخرقة للغرض حتى لا تنكشف61. وقد ووردت إشارة بخصوص غاسلة تصرفت تصرفا غير لائق مع ميتة كانت زانية، فوضعت الغاسلة يدها على فرج الميتة وظلت تعاتبها: لطالما عصيت الله بهذا الفرج، فالتصقت يدها بفرج الزانية وافتضح أمرها. فجاء الناس إلى أبي محمد بن أبي زيد الفقيه وأخبروه بالقضية فأمر أن يقام على الغاسلة حدّ القذف62. ويمكن استعمال الكافور والسدر وماء الورد مع الماء63.

        4.1.2. التكفين

من بين العناصر التي تخص تجهيز المتوفى قبل الدفن هي عملية التكفين التي تخضع أيضا لنواميس تحيلنا على السنة التي تشكل المرجعية التي يتبعها عموم المسلمين. وقد ورد عن عائشة لما سُئلت عن الموضوع أنها قالت: كُفّن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولاعمامة. نلاحظ أن الجماعة تحرص على أن يكون اللون أبيضا، إلى جانب احترام قاعدة الإيتار.[عدد3 أو 5أو7] وقد ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنه قال: الميت يُقمّص، ويُؤزّر، ويلفُّ في الثوب الثالث، فإن لم يكن إلا ثوب واحد كُفّن فيه64.

وقد يجوز التكفين في الثياب الملبوسة، ويمكن أو يوصي بتكفينه في ثياب جمعته، وإحرام حجه، رجاء بركة ذلك. وقد حدّد الفقه تفاصيل و جزئيات تخص الكفن الخاص بالرجل وبالمرأة يمكن أن تصل إلى خمسة أثواب للرجل وإلى سبعة للمرأة65. ويعتبر التكفين فرض كفاية. وأما مؤونة الكفن فهي من مال المتوفى أو من مال من تجب عليهم نفقته، فإن تعذر ذلك فمن بيت مال المسلمين66. وقد يحدث أن يرفض أهل الميت نفقة السلطان في هذا الشأن؛ كما فعل أبو محرز قاضي زيادة الله الأول الأغلبي الذي أوصى ولده بإخفاء وفاته حتى يجهزوه، فلا يقبل صلة من السلطان في ذلك. ولما علم بوفاته أرسل الأمير بجهازه، فقيل له، لقد تم الأمر67. وفي هذا الصدد نشير إلى كراهة الإسراف في التجهيز والتكفين وهو ما أشار إليه ابن رشد الذي يقول بعدم تطبيق الوصية وإسقاط ما زاد عن الحاجة، وقيل أنّ الإبطال يكون في الثلث من مقدرا ما أوصى به68. وقد عرفت إفريقية ظاهرة الإسراف في تجهيز الأموات كما أشارت إلى ذلك المصادر التي تتحدث عن تاريخ إفريقية، خاصة في العهد الزيري حين توفيت جدة المعز بن باديس الصنهاجي وكفّنت فيما لم يذكر أن ملكا من الملوك كثفّن في مثله؛ فحكى من حضره من التجار أن قيمته مائة ألف دينار؛ وجعلت في تابوت من عود هندي قد رصّع بالجوهر. وكانت مسامير التابوت بألفي دينار69. لكن هذه الحالة تبقى فردية ولا يمكن تعميمها على كل سكان إفريقية؛ فالتكلف والبذخ لا يقدر عليه إلا القلة النادرة من أهل اليسار والوجاهة، لا سيّما الملوك.

2.2. الجنازة وأحكامها

نود التذكير بأن الطقوس المتعلقة بأحكام الجنازة تستمد شرعيتها من السنة النبوية التي تعتبر السابقة في الموقف من هذه المسألة من ذلك الحديث الذي يحرض على حضور الجنائز باعتبار ذلك حق المسلم على أخيه المسلم. « من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معها حتى يُصلّى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أُحد ». رواه البخاري70. ومن الأعمال التي يدخل بها صاحبها الجنّة هي عيادة المريض وحضور الجنازة71. وللجنائز أحكامها وشروطها التي حددها الفقه، وهي الحدود المرسومة للمسلم في هذا المجال، والفقه يستند بدوره إلى تجارب أولية نابعة من قول الرسول أو من أفعاله، أو من سنن الصحابة الذين صاروا قدوة المسلمين لاحقا. في هذا المجال نُذكّر بمسألة المفاصلة مع الممارسات التي سبقت الإسلام والتي يجب تجاوزها في إطار أسلمة الطقس المتعلق بالجنازة.

وفي هذا الصدد يجب أن نتعرض إلى مسألة تشييع الجنازة من البيت إلى المقبرة ثم صلاة الجنازة قبل الدفن.

        1.2.2. آداب تشييع الجنازة

لا يخلو كتاب من كتب الفقه من حديث عن الجنائز وآدابها وشروطها، وهذا ما نجده عند مالك بن أنس مؤسس المذهب المتبع في شمال إفريقيا عموما. فقد أشار معتمدا على السنة وعلى عمل أهل المدينة: أن الرسول وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. كما نهى أن تتبع الجنازة بمشاعل من نار. فحتى النسوة كان لهن شأن في تقنين هذه الطقوس، وتقعيدها، فقد أورد مالك أن أسماء بنت أبي بكر قالت لأهلها: أجمروا ثيابي، إذا مت ثم حنطوني. ولا تذروا على كفني حناطا. ولا تتبعوني بنار72. وأوصى عمرو بن العاص بأن لا تتبعه في جنازته نار ولا نائحة. وهو ما أمر به أبو هريرة قبل وفاته بأن لا يضرب عليه فسطاط ولا يتبع بنار. وكان الصحابة يكرهون رفع الصوت أمام الجنازة. فلا يرفع صوت بذكر أو قراءة أو نحوه73. وبهذا الخصوص أرود سحنون في المدونة كلاما فيه كراهة لبعض الممارسات المصاحبة للجنازة، مثل أن يتبع النعش بمجمرة أو أن تقلم الأظافر، أو أن تحلق العانة واعتبر ذلك بدعة كما أوصى بذلك ابن القاسم عن مالك مستشهدا بحديث أبي هريرة الذي نهى أن تتبع جنازته بنار بعد موته74. غير أن الواقع قد يكون مخالفا لما يطالب به الفقه من الجماعة، على غرار العادة التي عرفتها إفريقية والمتمثلة في الدفن على ضوء المشاعل ليلا، سيما وأنه لا يوجد توقيت خاص بالجنازة التي يمكن أن تتم في أي وقت. وقد دفن أبو بكر ليلا وكذلك عائشة، وفاطمة ابنة النبي75.

ومن آداب الجنازة الإسراع في المشي مع وجوب اتباع الوقار عملا بالحديث المرفوع إلى النبي عن أبي هريرة: « أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها، وفي رواية قربتموها إلى الخير، وإن يك سوى ذلك فشرَّا تضعونه عن رقابكم »76. وقد تعرض الإمام سحنون إلى هذه المسائل في كتاب الجنائز حيث استشهد بقول ابن شهاب الزهري من أن المشي خلف الجنازة خطأ في السنة؛ وقال بضرورة المشي أمام الجنازة77.

وفيما يخص الإعلان عن الجنائز نشير إلى أن المذهب المالكي يقول بكراهة الإعلان عن الوفيات بصوت مرتفع، غير أن الواقع فرض ذاته، فبرزت عادة المُسمّع لصلاة الجنائز منذ العهد الزيري78. وفي العهد الحفصي ظهر استعمال الأبواق للمناداة على الجنائز وخُصّص ركن من جامع الزيتونة لاستقبال النعوش برغم موقف الفقهاء المعارض79. ويفهم من هذه النواهي أن الأمر يتعلق بعملية قطع مع ممارسات كانت سائدة في الجاهلية. إلا أن المتأمل في بعض الأحداث التي شهدتها القيروان عاصمة إفريقية في العصور الأولى يدرك تواصل بعض الممارسات القديمة التي تعود إلى عهود ما قبل الإسلام، وربما تحيلنا على الموروث البربري والبوني وحتى الروماني. فقد وردت إشارات مثيرة للتساؤل، من ذلك ظاهرة الاحتفاء بجنازات المشاهير من الفقهاء والزهاد خاصة؛ من الذين لهم شهرة عند العامة بسبب علمهم أو مواقفهم من السلطة. وقد تحدث البرزلي عن عادة نشأت بإفريقية تتمثل في تشييع نعوش الأولياء والصالحين بالزغاريد واعتبرها بدعة يجب أن تنقطع لأنه لا وجود لها عند السلف الصالح80.

وقد يحدث أن تتعطل الجنازة بسبب تدخل العامة في إطار الاحتفاء بالمتوفى كما حصل في جنازة يحي بن زكرياء، إذ ازدحم الناس على النعش، فبقي النعش وقفا عند باب نافع لا يقدر الناس أن يتعدوا به لكثرتهم، فصاح صائح: معشر الناس، ازدحموا على عمله ولا تزدحموا على نعشه ودفن بباب نافع81. وفي جنازة الفقيه أبي عمران الفاسي [ توفي سنة 430هـ/1038م] الذي حضر للصلاة عليه جميع أهل القيروان والسلطان في موكب وتجاذبت العامة نعشه وهو على رؤوسهم إلى أن كسروا تحته نعشين من بكرة إلى قرب الزوال82. وتتكرر الممارسة مع جنازة الخولاني أحد فقهاء القيروان. وقال غيرهما توفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائةهـ/1043م. قال: وصلى عليه ولده بالريحانية في جمع لا يحصون وكسرت تحته نعوش كثيرة وقطع السلطان بعض الأيدي لعدم تسليمهم النعش وعصيانهم لأمره، ودفن بباب تونس. قال: « وكان الناس يخرجون إلى قبره بالمشاعل والشموع ليالي عدة حتى منعهم السلطان من ذلك»83.

كما شهدت القيروان ظاهرة الاحتفاء بجنازات المشاهير على غرار ابن التبّان الذي توفي في 371 هـ/ 981م ودفن بالمرادية، وخرج الناس لجنازته من ثلث الليل الأخير وقد ضاقت الشوارع والموارد حتى فاض الناس في الصحراء غداة يوم الثلاثاء. وقد يكون للوضع السياسي تأثير على السير العادي للجنائز كأن يلقى المتوفى في حفير بسبب عداوته للحكم الشيعي كما حدث مع المعافري الذي قتله السودان ركلا من أجل عدائه لبني عبيد. ولما مات أخذوه وحملوه على بغل وألقوه في حفير84. وقد يحدث أن تشيع النساء جنازات المتوفين خوفا من بطش السلطة إذ عمد والي الزيريين عبد الله بن محمد الكاتب تطبيقا لأوامر السلطة بحشد البحريين للتعبئة في الأسطول بالمهدية وأمر أن يؤخذ كل من لقي منهم بالقيروان وغيرها وملأ منهم السجون وسيطر الخوف على الناس حتى إذا مات أحدهم لم يجد من يخرجه إلا النساء85.

كما تحدث الفتن والقلاقل التي تصاحبها حوادث عنيفة كما حصل عند وفاة عبد الله المذكور سابقا، حين قتل هو وابنه وانتهب العسكر الناس وسلبوهم وقطعوا الطرق. وقتل كثير ممن دافع عن نفسه وماله. ودفن عبد الله وابنه في الاصطبل دون غسل أو كفن86. وقد سبقت الإشارة إلى كثرة الوفيات نتيجة عوامل سياسية أو طبيعية وما ينتج عنها من تأثير في السير العادي للطقس الجنائزي، إذ تكون القبور الجماعية هي المثوى، من غير غسل ولا كفن. وقد يكون للصراعات المذهبية انعكاس على السير العادي لطقس الجنازة كما حدث مع البهلول بن عمر التجيبي الذي كان يقول بخلق القرآن حتى انه لما مات وحملت جنازته قلّ من كان معه من الناس، ورُمي نعشه بالحجارة، وقال الناس: الوادي الوادي، أي ألقوه في الوادي87. وهكذا تكون الطقوس متعطلة بسبب أو لآخر؛ كالكوارث الطبيعية التي يتعذر إثرها إتمام الطقوس على وجهها الأصح، أو لأسباب تتعلق بالوضع السياسي فيتم تعمد حرمان المتوفى من حقوقه في طقوس التوديع.

كما حدد الفقه طريقة حمل النعش ولم يدع أي مجال لشك محتمل بخصوص هذه المسألة حيث نجد عند سحنون عن ابن القاسم عن مالك الذي أجاب لمّا سئل: « احمل من حيث شئت إن شت من قدام وإن شئت من وراء، وإن شئت احمل بعض الجوانب ودع بعضها ». وقال ابن وهب قولا عن ابن مسعود: « احملوا الجنازة من جوانبها الأربعة فإنها السنة، ثم إن شئت فتطوع وإن شئت فدع »88.

        2.2.2. صلاة الجنازة

من الطقوس التي تسبق عملية الدفن الصلاة على الميت وهو طقس خصه الفقهاء-خاصة المالكية منهم-بكثير من التفاصيل التي قد تبلغ حد التناقض بين الجواز وعدمه. كما سنبينه لاحقا. وتعتبر هذه الصلاة من فروض الكفاية كتغسيل الميت وتكفينه. والأصل في الوجوب استنادا إلى ما قام به النبي لما سمع بموت النجاشي صلى عليه صلاة الغائب في المصلّى وخرج بأصحابه وصفّ بهم وكبّر أربع تكبيرات89. وكره مالك أن توضع الجنازة في المسجد، لكن إذا وُضعت قرب المسجد فلا بأس أن يصلى عليها من المسجد90. لكن هناك حديث عن عائشة أن النبي صلى على سهيل بن بيضاء وأخيه في المسجد91. هناك تساؤل بخصوص الصلاة على من دفن دون أن يصلّى عليه؛ نجد موقفين مختلفين عند العلماء المالكية: فهناك من أفتى بجواز ذلك بعد الدفن دون الحاجة إلى نبش القبر واستخراج الجثمان، بينما أفتى الآخرون بعدم جواز ذلك والاكتفاء بالدعاء له92.

ولصلاة الجنازة أحكامها الخاصة التي تميزها عن بقية الصلوات الخمس والجمعة والعيدين. ولها خمس فرائض؛1- النيّة بأن يقصد الصلاة على الميّت. 2-أربع تكبيرات كل تكبيرة بمنزلة ركعة. 3- الدعاء للميّت وهو فرض على الإمام والمأموم معا. « اللهم اغفر له، أو اللهم ارحمه » .4-تسليمة خفيفة. 5 القيام لها إلا لعذر93. عندما يوجد أكثر من نعش يمكن الصلاة عليها في صلاة واحدة مع تقديم صاحب الفضل على غيره. وإذا كانت النعوش لرجل وصبي وامرأة، فيكون الرجل متقدما ثم يليه الصبي، ثم تليه المرأة94. وهذا الوضع يعبر عن وضع المرأة في الفقه من حيث المعاملة بمبدأ أفضلية الذكر على الأنثى والمكلف على الصبي والمرأة.

إذا كانت الصلاة فريضة في الجنازة فهل كل الناس يصلى عليهم؟ لقد أثار الفقهاء هذا الموضوع، وقد وجدت الكثير من الضوابط التي حددوها إلى جانب الممارسات الواقعية. فالمنتحر مثلا يصلى عليه وإثمه على نفسه كما قال سحنون. وكره مالك الصلاة على من قُتل في حدّ أو قَود؛ يُغسل ويُكفن ولا يُصلّي الإمام عليه، بل أهله. وكذلك الصبي المملوك أو المسبي في الحرب، لايصلى عليه مادام لم ينطق بالشهادتين. ولا يصلّى على السقط الذي ولد ميتا. ويمكن الصلاة على زانية. أما الغلام المرتد قبل الاحتلام فلا تجوز الصلاة عليه ولا تؤكل ذبيحته95. كما حدّد سحنون [ت240هـ/854م] موقفه من الصلاة على مايسميهم الفقه المالكي بأهل البدع من الخوارج والقدرية والإباضية أنه لايصلى على موتاهم حسب مالك. كذلك الشهيد لا يصلّى عليه ولا يغسل ولا يكفن. ولا يصلي الإمام على اللص القتيل، بل يصلي عليه أهله96.

كما يكره أن يصلي الفاضل على الفاسق، وعلى أهل البدع، وشارب الخمر، والمجاهر بإفطار رمضان، ومن قتل نفسا متعمدا، ومن مات في السجن لارتكابه جرما سجن بسببه ولم يتب. لآ يصلي عليهم الإمام لكن الصلاة عليه تبقى واجبة على عموم المسلمين97.

ويمنع القابسي عن المعلمين حضور الجنائز في أوقات العمل لأنهم يتقاضون أجرا على أعمالهم، ولا يجوز لهم ترك المكتب والتعلل بحضور الجنائز98. هل يجوز للمرأة الخروج للجنازة؟ هذا السؤال أجاب عنه مالك بنعم. وقال لابأس أن تشيع المرأة جنازة ولدها أو زوجها، و أخيها وأختها؛ حتى وإن كانت شابة، فلا بأس من ذلك. وأباح مالك أن تصلي النساء على الرجل إذا مات معهن وليس معهن رجل.ولا تؤمهن واحدة منهن، وليصلين واحدة واحدة أفذاذا وليكنّ صفوفا99. وهو ما أكده ابن أبي زيد القيرواني حين قال بجواز ذلك شريطة الصلاة وراء صفوف الرجال100. وعن ابن القاسم عن مالك، عن النساء يخرجن على الجنائز، على الرحائل ومشاة. وقد كن يخرجن قديما، وقد خرجت أسماء تقود فرس الزبير وهي حامل، وما أرى بأسا إلا في الأمر المستكنر101.

وبخصوص أحقية الصلاة على الميت يكون الوصيُّ أولى من الولي. فقد وقعت حادثة بصفاقس زمن اللخمي، حينما أوصى أحدهم أن يصلي عليه هذا الأخير، لكن القاضي بدأ بالصلاة، فلما وصل اللخمي قال: أنزلوها. وسمع الناس وصلى عليه وتراجع القاضي الذي كانت بينه وبين اللخمي منافسة هذا ماقاله المازري وأورده البرزلي102. وقد أثر الوضع السياسي بإفريقية في الجنائز إذ رفض بعضهم الصلاة على معتزلي، وهو ابن صخر المعروف بالمعتزلي، فقد رفض القاضي ابن غانم[ت190هـ/806م] الصلاة عليه، وكذلك ابن فروخ[ت175هـ/791م]، وفعل البهلول بن راشد[ت 183هـ/799م] مثلهم103. ومهما يكن من أمر فإن صلاة الجنازة ليست تجديدا إسلاميا بقدر ماهي تواصل لممارسات قديمة عرفتها الجزيرة العربية زمن « الجاهلية » كما أشار إلى ذلك ابن حبيب البغدادي وقد تطرقنا إلى ذلك آنفا حين أثرنا جذور الطقوس المتعلقة بالجنازة104.

فضلا عن التقاطع مع ثقافات أخرى قريبة من الناحية الدينية أو الحضارية على غرار الممارسات اليهودية المتصلة بما يمارس من صلاة تصاحبها دعاء وهو ما عبّر عنها الباحث حاييم زفراني105 .وبخصوص التقاليد المسيحية بشمال إفريقيا زمن saint Augustin 106 فإن الوضع يتسم بالغموض فيما يخص صلاة الجنازة أتقام قبل الدفين ام بعد الدفن والتي تسمى Messe، وهو ما أشار إليه الباحث Victor Saxer في نطاق حديثه عن المجمع الذي انعقد بالمدينة التي كان بها القديس يمارس خطته الدينية مدينة عنابة الحالية بالجزائر، وذلك سنة 393 م ،وقد نص القرار على تحريم الصلاة بحضور الجثمان مما يدل على أن الممارسة كانت موجودة من قبل في الأوساط المسيحية. وفي نصين مختلفين لأوغيستان ترد إشارتان تتعلقان بوجود عادة رومانية بخصوص الصلاة قبل الدفن، وهو ما يرفضه القديس في محاولة للمفاصلة مع التقاليد الرومانية، بينما يتحدث نص آخر عن الصلاة بعد الدفن ،قبل أن يحسم الموقف المجمع الكنسي107.

3.2. الدفـــن

هذه العملية هي آخر مراحل طقوس الجنازة، وهو طقس قادم من عمق التاريخ المحلي، فضلا عن التأثيرات الخارجية التي تسربت مع الجماعات البشرية التي استوطنت إفريقية. من جهة أخرى حدد الفقه الإسلامي الكيفية التي تتم بها عملية مواراة الجثمان التراب، وكيفية بناء القبر. ونشير إلى تدخل الفقه في أدق التفاصيل، إذ يتم تحديد طريقة حفر القبر؛ وهو على نوعين: اللحد والشق. اللحد هو الحفير المستطيل في أسفل القبر جهة القبلة من المغرب إلى المشرق بقدر ما يتسع للميت، وهذا يخص الأرض الصلبة، وأما الشقّ فهو أن يحفر في أسفل القبر شقّا صغيرا أضيق من أعلاه، بقدر ما يتسع للميت، ثم يذرى عليه التراب. وفي الحديث: « اللحد لنا، والشق لغيرنا » . يعني الفرق بين المسلمين وأهل الكتاب. من جهة أخرى لابد للمسلم أن يدفن في مقابر المسلمين ولا يجوز في غير ذلك الموضع. وقد حسم الفقهاء الموقف من ذلك أنه يمكن للرجل الغائب إذا دفن ابنه مع الأم النصرانية، أن يخرجه ويدفنه في مقابر المسلمين شريطة ألا يكون جسده قد تغيّر بعد. وبخصوص نصرانية عرض عليها ختنها الإسلام فأجابت ونطقت بالشهادتين واعترفت أن عيسى روح الله وكلمته، ثم ماتت. فدفنت في مقبرة النصارى، يرى أن ينبش قبرها وتُعامَل معاملة المسلمة: تُغسّل ويصلّى عليها، ثم تدفن في مقبرة المسلمين، اللهم إذا كانت قد تغيرت108.

ونشير إلى الكيفية التي يوضع بها الميت حيث يضطجع على شقه الأيمن مقبلا إلى القبلة، ويقول واضعه: « باسم الله وعلى سنة رسول الله،اللهم تقبله بأحسن قبول ». و يستحب لمن كان على شفير القبر أن يذري ثلاث حثيات من التراب* وهو يقول عند الأولى: « منها خلقناكم » وفي الثانية: « وفيها نعيدكم » وفي الثالثة: « ومنها نخرجكم تارة أخرى » 109. كما نشير إلى تحريم الإسلام للأثاث الجنائزي. غير أن الفقه الإسلامي لم ينجح في فرض التعاليم الخاصة بالدفن في كل المناطق بإفريقية، فقد أشار التجاني إلى أن أهل الجنوب التونسي في غمراسن- وهم من الإباضية-لا يغسلون موتاهم ولايُصلّون عليهم. بل أن جماعة منهم يعرفون بالمقدمين،كانو يدفنون موتاهم بطريقة مخالفة لتعاليم الفقه المالكي رغم مرور أكثر من سبعة قرون على انتصار الإسلام. وكانت عملية الدفن تتم على هيئة الجالس في كهوف متسعة يحفرونها لهم. ويبررون ذلك بأن عز الولد لا ينقطع مادام أبوه جالسا110. وهذه الوضعية تحيلنا على طريقة الدفن المعروفة منذ الفترة القبصية111. وبذلك تتواصل الطقوس القديمة برغم تعاليم الفقه الصارمة، وهذا في حدّ ذاته يحتاج إلى بحث مستقل في علاقة الجماعات الإباضية بالطقوس الجنائزية بصفة عامة في العصر الوسيط.

        1.3.2. القبر وشروطه

يفترض أن يكون القبر مُسوى بالأرض كما يطالب بذلك الفقه112، غير أن الجماعة لم تحترم هذه القاعدة بالمرة. فقد طالب الفقه بتسوية القبر بالأرض ماعدا أن يكون مُسنّما كسنام البعير من دون شاهدة أو شيء من هذا القبيل، ربما مجرد علامة بسيطة مثل حجر أو خشبة. أما نقش القبر والكتابة عليه فأمر مكروه. وقد كره مالك تجصيص القبور والبناء عليها والحجارة التي يبنى عليها. وقد أوصى أبو زمعة البلوي صاحب الرسول بأن يسووا قبره بالأرض113. ولايجوز الدفن جماعيا إلا اضطرارا كما أسلفنا في حالات استثنائية. والقبر حبس على صاحبه كما أورد ابن قداح الهواري[ت 734هـ/1333م]. كما قال بعدم جواز نبش قبر، وربما فعل ذلك اضطرارا، فإن نُبش ودفن على من فيه فلا يخرج.

كما أفتى بعدم جواز بناء القبر بحجر ولا جير، وإنما يُسنّم، ولابأس أن يُجعل حجر على رأسه ليكون علما عليه. أما بخصوص الكتابة عليه، فأشار بأنه لم يرد ذلك عن السلف الصالح. ولكن ّإن وقع وعُمل على قبر رجل من أهل الخير، فخفيف.

كما أفتى بعدم جواز دفن رجلين في قبر واحد، إلا من ضيق. فإذا ضاق الموضع جاز أن يدفن فيه رجلان فأكثر، ويكون أفضلهم مما يلي القبلة114. كما يُكره الدفن في المساجد ، ويُكره تسييج القبر بحيطان ويكره أيضا بناء قبة على القبر، أو بيت أو مدرسة، ويُحرّم ستره بالمنسوجات ،كما يحرم إيقاد السرج فوق القبر، كما يُحرّم النذر بزيارة القبر، فإن حصل فالنذر يصبح غير صحيح شرعا115. وقد أفتى ابن رشد بهدم مابُني من مقابر المسلمين من السقائف والقباب والروضات، وأن لايبقى من جداراتها إلا بقدر ما يُميّز به الرجل قبر قريبه؛ وفي هذا الإطار ورد في سماع ابن القاسم عن مالك كراهة البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة عليه116.

برغم كل هذه الأحكام الفقهية الصارمة سوف تحدث أمور منافية لها، وسوف يفعل بقبور من أوصوا بتطبيق هذه التعاليم بكل صرامة، كما سنبينه لاحقا.

والآن نمر إلى مسألة مهمة في الطقوس وهي أمور تتعلق بتمثُّلات المسلم لعالم الغيب وللموت وللجزاء والعقاب؛ وخاصة مسألة عذاب القبر.

        2.3.2. عذاب القبر

لا توجد في القرآن إشارات تخص هذه المسألة، لكن في التمثُّل الإسلامي يخضع الميت إلى امتحان عسير بمجرد الدفن ومغادرة المُشيّعين له المقبرة. فهو يُمتحن في عقيدته، فمن نجح في هذه المحنة فاز، ومن فشل ناله عذاب وويل وثبور. وهنا ملكان موكلان بهذا الامتحان وهما « منكر ونكير » اللذان يتوليان السؤال المعروف بسؤال الملكين. السؤال الذي يشمل البحث في العقيدة. يقال للميت من هو ربك؟ فإن أجاب الإجابة الصحيحة: الله وربي ونطلق بالشهادتين واعترف بنبوة محمد فاز. والويل لكل من تلعثم وتردد ولم يجد الجواب، لذلك نجد من بين عناصر الدعاء للميت بعد الدفن فيما يعرف بالفاتحة قبل التعزية: « اللهم ثبت منقطه عند المسألة » تردد ثلاثا، طلبا لعفو الله وتسهيل الإجابة. وبخصوص العذاب الذي يعترض ضعيف العقيدة الفاشل في الامتحان تختلف الآراء بين العذاب الحسي وبين العذاب المعنوي في انتظار الحساب الأخير يوم التنادي. نشير إلى عدم وضوح الجذور التي تستمد منها الذاكرة الإسلامية هذين الشخصيتين [منكر ونكير] الموكلتين بالعذاب117. لكن السؤال الذي يفرض نفسه ما هو دور التأثيرات السابقة للإسلام في مثل هذه التمثلات المتصلة بعذاب القبر.

4.2. ما بعد المقبرة: زيارة القبور وتداعياتها

نعتبر أن هذه المسألة من أهم ما يمكن أن يتصل بالطقوس الجنائزية، فيه تختزل كل أشكال التقاطع والتواصل مع الممارسات السابقة للإسلام بإفريقية، وقد أدّت تدريجيا إلى بروز ظاهرة الولاية والصلاح. ونعتقد أن مسألة الزيارة لها صلة بالذاكرة، فبرغم صرامة الفقه وتشددّه في تسوية القبور بالأرض ورفضه تسييجها وبناء القباب عليها، فقد قال الواقع كلمته الفصل ولم يقع احترام تعاليم الفقه حتى بالنسبة إلى الشخصيات التي تنتمي إلى عالم الفقه، إذ أن قبورها خضعت إلى تبجيل وتقديس غير منتظرين .فما هي خفايا هذه المسألة وماهي انعكاساتها على الواقع الإفريقي في علاقة مع البنى الذهنية بصورة عامة؟

أشرنا سابقا إلى موقف الفقه من شكل القبر وكيف يجب أن يكون التعامل معه؛ لا بناء ولا تجصيص، ولا شاهدة تدل على الاسم، فماهي المواقف من زيارة القبور؟ قبل ذلك نود أن نتطرق إلى مسألة الحداد او العزاء وكيفية تعامل الفقه معها، باعتبار أن الفقه المستند إلى السنة وعمل الصحابة هو الذي ساهم في بناء هذه التمثلات التي لا نجدها في القرآن. وسوف نتناول مسألة التعزية والحداد وهما من الأمور التي تتصل بهذه الطقوس.

        1.4.2. التعزية

هي جزء من طقوس الحزن المراد بها تخفيف وطأة الصدمة على من فقد قريبه، وهي ضرب من التضامن في المصيبة. فقد تطرق الفقهاء وخاصة الأفارقة منهم إلى مسألة التعزية كما يبدو من خلال كلام البرزلي ونصها أن يقال لمن فقد القريب: « بارك الله الله لك في الباقي وأجرك في الفاني ». وهذا نص التعزية ينسب إلى الرسول. قد وردت جملة قالها الرسول لإمراه فقدت ابنها: « إن لله ماأخذ وله مابقي، و كل أجل مسمى. وكل إليه ترجعون، فاصربي فاحتسبي، فإن الصبر عند الصدمة الأولى »118. وقد أورد البرزلي نص رسالة لابن أبي زيد في التعزية ختمها صاحبها كما يلي: « …إن السعيد من وعظ بغيره، نحن اللاحقون بالسابقين، ويلحقنا بالغابرين، والعظة عمل صالح ورحمة من الله مرجوّة، لاحرمنا الله وإياك من توفيقه الموجب لصلاح الحال وغفران الذنوب والاستعداد للموت»119.

كما أرود البرزلي تعزية لأهل الجريد: « ليس بك أبتدي ولا عليك أعتدي، مات سيّد الهدى ». كما أورد نص تعزية مسلم لآخر في أمه النصرانية: « الحمد لله على ماقضى كنا نحب أن تموت على الإسلام. ويسّرك الله لذلك »120. من ناحية أخرى نود الإشارة إلى أن التقليد الإسلامي يكره التعزية في النساء، وهو مافعله عمر بن عبد العزيز حين توفيت إحدى قريباته أغلق باب داره وقال: « إنا لا نعزّى في النساء ». ومثله فعل عبد الملك بن مروان. وعن مالك من غير ابن حبيب انه قال لا بأس إن كان في الأم بينما يعزّى في الأب في البيت، لكن لايعزّى في الأب الكاف121.

        2.4.2. الحِداد

ورد في لسان العرب تعريف للحداد الذي يفيد المنع، أي تمنع المرأة من فعل الشيء الذي كانت تفعله في الايام العادية. الحادُّ والمُحِدُّ من النساء: التي تترك الزينة والطيب؛ وقال ابن دريد: هي المرأَة التي تترك الزينة والطيب بعد زوجها للعدة. حَدَّتْ تَحِدُّ وتَحُدُّ حدّاً وحِداداً، وهو تَسَلُّبُها على زوجها. ويعتبر الحداد من عناصر الطقوس ذات الصلة بالجنازة، وهو طقس ينتمي إلى مرحلة مابعد الدفن، ويُمثّل تعبيرا عن حالة الحزن التي يعيشها من فقد قريبا. حزن يشاركه فيه المحيطون به حسب ما يقتضيه العرف السائد في كل مجموعة بشرية؛بحيث لايخلو منه أي مجتمع ولا أية ثقافة. وفي هذا الصدد نذكر بما تقتضيه تعاليم الفقه الإسلامي بهذا الخصوص،والتي لم تكن دوما محل احترام. وحدّد الفقه مدّة الحداد بثلاثة أيام من الوفاة؛غير أن المرأة التي تحّد ثلاثا على القريب يحرم عليها أن تحدّ فوق ذلك إلا على زوجها مدة العدة الشرعية. وهو ما حدده فقهاء المالكية مثل ابن أبي زيد في الرسالة؛ حين حدد مدة العدة بالنسبة إلى الأرملة الحرة بأربعة أشهر وعشرة أيام، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، دخل بها أم لم يدخل. مسلمة كانت أم كتابية، وعدّة الحامل وضع حملها122. مع الملاحظ أن الأمة لا تخضع للمدة نفسها، فعدّتها نصف عدة الحرة. وهو أمر منطقي باعتبار القاعدة الشرعية: الحر بالحر والعبد بالعبد.

وقد حدد الفقهاء موقفهم انطلاقا من الحديث المرفوع إلى الرسول: » المتوفى عنها زوجها،لاتلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشق، ولا الحلي، ولاتختضب.ولا تلبس غير السواد رمز الحزن123. وماعدا ذلك فهو مرفوض من الناحية الشرعية، مثل البكاء بالصوت والنياحة؛ حتى أن عمر بن الخطاب ضرب نائحة بالدرّة حتى انكشف رأسها، وضرب من كان معها من النسوة. كما جاء الحديث بلعن النائحة والسامعة والشاقّة جيبها واللاطمة وجهها. وحتى النياحة والبكاء ممنوع على النسوة كما فعل عمر بالنساء اللواتي جلسن للنياحة في موت أبي بكر الصدّيق ومنعهن أن يبكين وفرّق جمعنّ، وكذلك فعل في موت خالد بن الوليد. وقد أوصى أهله بعدم البكاء عليه بعد وفاته 124.

بعد استعراض كل هذه الأفكار نتحول إلى معالجة مسألة دقيقة متصلة بالطقوس الجنائزية سيكون لها تأثير في علاقة الأحياء بالأموات، خاصة المشاهير في إطار التواصل مع القبر عبر ما يعرف بزيارة القبور وما سينجرّ عنها من تحول في الممارسات التي قد لا تتفق غالبا مع متطلبات الفقه وتعاليمه الصارمة. وقد أشار بعض الفقهاء إلى ما يجب أن يقوم به المقربون من إرسال الطعام إلى أهل المتوفي في فترة الحِداد. وحسب ما ورد في سماع ابن أشهب وابن نافع: « إن لم يكن مناحة فلا بأس من بعث الطعام لأهل الميت. وقال ابن رشد: وهو من المندوب المرغّب فيه. وهذا أمر مستحب من باب إدخال النفع والسرور على المسلم وزيادة صلة الرحم، إن كان من القرابة »125.

3. مسألة التواصل بين الأحياء والانزلاق نحو نشأة ظاهرة الولاية والصلاح

1.3. زيارة القبور وموقف الفقه

هذه المسألة لا تخلو من التناقضات فيما يخص المواقف منها؛ فالرسول كان قد نهى بدوره عن زيارة القبور ثم أباحها، وهو موقف ابن حبيب الذي قال: « لا بأس بزيارة القبور والجلوس عليها والسلام عليها عند المرور »، وقال ابن عبدوس: « لا بأس بزيارتها وهو ليس من العمل »126. وبخصوص من يرى بجواز الزيارة من الفقهاء يعتبر أن أرواح الأموات حاضرة معهم في قبورهم وهو ما يعني أنهم يتعذبون في تلك القبور، وقد سمح الرسول بالدعاء عند رأس الميت والاستغفار له واعتبره أمرا مشروعا. كما أجاز فقهاء القيروان الزيارة والدعاء عند قبر الميت في الأيام السبعة الأولى، بينما منعه الأندلسيون بحسب قول البرزلي127. وقد وضع الفقهاء شروطا في هذا الصدد يجب احترامها. وتحريات الفقهاء فيما يخص أتباع بعض التراتيب والشعائر مردها أخلاقي، يتعلق بالآداب العامة والسلوك التي يجب أن تسود داخل الجماعة الإسلامية لاسيّما فيما يتعلق بالنسوة كما سنرى لاحقا. طالب الفقه بأن تكون الزيارة باكرا، وعلى الداخل إلى المقبرة أن يسلم على كل الأموات بقول العبارة التالية: « السلام عليكم يا أهل الديار،وإن شاء الله بكم لاحقون،أسأل الله لكم ولنا العافية». وربّما خرج النبي إلى البقيع يستغفر لهم128. ويشير بعضهم إلى أن إباحة زيارة القبور إنما جاءت للعبرة والاعتبار، وكانت تؤتى قبور الشهداء بأُحد وكذلك زيارة قبر النبي، ويسّلم عليه129. ونلاحظ ان الفقهاء يستحبون أن يكون الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، وهذا مهم في تطور ظاهرة الزيارة وتأثيرها في نشأة ظاهرة الولاية والصلاح وتبلورها بإفريقية. وبخصوص المرأة؛ فقد برزت مواقف مختلفة: موقف يفيد المنع التام، وموقف ثان يفيد الإباحة مع الالتزام بقواعد التستر والتحفظ، وموقف ثالث يقول بالإباحة للعجائز والقواعد والمنع للشابّات من النساء130.

وبخصوص إقامة الفساطيط على القبور يعتبر البعض أنه يجوز وضعها على قبر المرأة أكثر من قبر الرجل131. وقد ضرب ابن الحنفية على قبر ابن عباس فسطاطا لمدة ثلاثة أيام. بينما نزع عمر فسطاطا أقامته عائشة على قبر أخيها عبد الرحمان بن أبي بكر وقال: يظلّه فعله132. بينما ضُربت الفساطيط على قبر ابن سحنون لمدة طويلة كما ذكر المالكي؛ حيث أقام الناس على قبره شهورا عدة حزنا منهم عليه، وأسفا على فراقه بعد أن ضربت على قبره فازة133.

2.3. زيارة القبور شكلت تحديا لتعاليم للفقه

وهذه الممارسة سوف تتطور لاحقا نحو زيارات لقبور الصالحين الذين سيمثّلون موضوع طقوس تذكرنا بطقوس تقديس الأجداد في الفترات السابقة للإسلام. وسوف تناول مسألة التحول التدريجي من زيارة القبور المجردة إلى تأسيس ظاهرة الولاية والصلاح، وكيف يتحول القبر إلى ضريح ثم مقام أو زاوية134؛ مما يؤكد أهمية التواصل في علاقة مع الذاكرة التي تأبى الاندثار رغم التعاليم الفقهية الصارمة التي تحرص على عدم إبراز القبر، وعدم الكتابة عليه، أو البناء عليه أو تسقيفه أو إحاطته بسياج مثلما أسلفنا الإشارة. ورد فيما تقدم من كلام أن الفقه لا يرى مانعا من زيارة قبور أهل الصلاح والشهداء كما يفعل المسلمون بشهداء يوم أحد. وهذه نقطة مهمة سيكون لها انعكاس على بروز بعض التصرفات التي ستشهدها إفريقية مثل عادة صباح القبر التي حيث يتم موكب قرب القبر. ورغم منع الكتابة عل القبور فقد انتشرت العادة بإفريقية والقيروان.

كما برزت ظاهرة الدفن في مكان عائلي مفصول بحائط عن بقية القبور يعرف بالحوطة او التربة، كما برزت ظاهرة الدفن في البيت مع الأقارب والذرّية كحال ابن أبي زيد القيرواني، فرغم تعاليم الفقه بنيت القبور وجصصت، وشيدت بعض الأضرحة في المقابر135. ولم تنقطع زيارة المقابر حتى بالنسبة إلى النساء كما هو مبين في المصادر. كما نشأت ظاهرة التبرك بالقبر وبتراب القبر؛ وهي علامات مهمة في تمثل الجماعة للبركة التي يمكن أن يمثلها قبر المتوفى، إذ ورد في المعالم أن تراب القبر يؤخذ ويكتحل به مع الكحل لما يعتقد في بركته، وهو ما كان يفعله أهل القيروان بتراب قبر رجل صالح يدعى شقران بن علي الهمداني[ت186هـ/802م] وهو من كبار رجالات التصوف، وهو شيخ ذي النون المصري136. ونفس الوضع بالنسبة إلى قبر أبي الحسن القابسي[ت403هـ/1013م] الذي بمجرد أن مس تراب القبر بيديه، إلى درجة ان الرجل ظل أياما يخفي يده عن الناس حتى لا يقال أنه متعطر137. كما أن الاعتقاد ببركة ماء القبر جعل البعض يستعمله في العلاج لأمراض العيون، كما كان الشأن مع قبر الفقيه ابن أبي هشام الذي كان يزار ويعتقد في بركة الماء الذي يركد في بويقات عند ذلك القبر138. كما ساد الاعتقاد ببركة من في القبر إلى درجة أن الطيب ينبعث من قبر أبي جعفر القمودي دفين سوسة[ت324هـ/935م]، ذلك أنه حكي أن رجلا كان يطوف في المقبرة بين القبور فانبعثت من طاق في قبر الرجل الصالح رائحة عطر ذكية139. كما كان النور ينبعث من قبر يحي بن عمر[ت 289هـ/902م]،و لما قرر الشيعة هدمه في نطاق توسعة الميناء، وعند ما أُمر السودان بهدمه هالهم ذلك وقالوا: « إنا نرى نورا عظيما، فهو الذي منعنا من هدمه »140. كما يمكن أن تنبعث قراءة القرآن من القبر كما هو الشأن بالنسبة إلى قبر أبي يونس المتعبّد [ت304هـ/915م]141.

كما نشير إلى أن الإسلام في علاقة بطقوس تتصل بالقبر يعتبر أن روح الميت تظل حاضرة وتتأثر بالدعاء له كما أشرنا. وهي من الأمور التي مثلت مسارب دخلت عبرها الممارسات التي ستؤثر في نزعة الولاية والصلاح؛ لأن الولاية هي نتناج الجماعة التي تؤهل من تراه صالحا لها. وهو ما نشأ في القيروان منذ القرن الثالث للهجرة. بدأت في القيروان ظاهرة الاحتفاء بالمشاهير عند وفاتهم بالازدحام على النعوش كما سبق القول، ثم التعامل مع القبر كما حدث مع ابن سحنون، ومع القابسي خاصة وهو الذي نصبت على قبره الفساطيط وبات بها الناس، وكان أبو عمران الفاسي من الذين أقاموا بالمكان شهرا كاملا، ورثاه الشعراء بنحو مائة مرثية، وأقيم المبيت على قبره وأنشدت المراثي سنة كاملة، وهناك كثير من العلماء من احتسب نفسه للمبيت على قبره والقراءة عليه. كما صاروا يستسقون بقبره142. وكان أبو عمران الفاسي نزيل القيروان قد دفن بداره وكانوا يتبركون بقبره143.

وكان قبر الخولاني محل تبرك وزيارة حتى ان الناس كانوا يخرجون إليه بالمشاعل والشموع ليالي عدة حتى منعهم السلطان من ذلك144. ولم تكف الجماعة بالتبرك بقبور المشاهير من الصالحين والزهاد والعلماء بل انهم يتبركون بقبور حناطين عرفوا باحترامهم واستقامتهم واستجابة دعائهم وقد ذكر الدباغ أن قبورهم بحوطة بمقبرة باب سلم وانهم كانوا صلحاء فقحط الناس واستسقوا أياما فلم يجابوا، فخرج هؤلاء الحناطون وبأيديهم الويبات والصيعان وخرجوا يطلبون الله عز وجل بالدعاء فاستجاب لهم وأمطر القوم بوابل من المطر، فجرت عادة العامة زيارة قبورهم والتبرك بهم ويدعون عندهم145.

3.3. الذاكرة ومسألة التواصل الخفي

نلاحظ في هذا الصدد وجود عنصرين لهما صلة بالموضوع: أولهما يخص ما نسميه الذاكرة المقموعة. والثاني يخص مظاهر التواصل التي تمثل تقاطعا مع ذكرناه من ممارسات ذات صلة. لا شك أن هذه الممارسات المتناقضة مع مقتضيات الفقه وتعاليمه الصارمة ليست سوى رجع صدى لممارسات سابق للإسلام كانت قد عرفتها إفريقية؛ ممارسات تحيلنا على ما يعرف بطقوس تقديس الأجداد146 التي تعود بدورها إلى عهود سحيقة تتصل بفترات ما قبل التاريخ منذ أن بدأ الإنسان يمارس طقوس الدفن. وقد أشرنا آنفا إلى تواصل طريقة الدفن في بعض مناطق الجنوب التونسي على الطريقة القبصية كما حدثنا الرحالة التجاني. لكن لابد ان نُعرّج على نقاط التشابه بين هذه الممارسات وماشهدته إفريقية في الفترة القديمة وخاصة الفترة المسيحية. نلاحظ أنه بقدر ما يدعو الفقه إلى طمس الذاكرة، ذاكرة المتوفي عبر الدعوة الصارمة إلى تسوية القبر بالأرض وعدم كتابة شاهدة عليه.

غير أن الواقع فرض نفسه وكان تمثل الجماعة للطقوس تمثلا قد يتناقض مع متطلبات القطيعة مع الفترات السابقة -التي يسميها المسلمون جاهلية؛ أي نقيض الإسلام بقطع النظر عن التطور الزماني او المجال الذي تعود إليه-فالذاكرة أقوى من كل التعاليم، هي معنى الحياة و عدم تقبل قطع الحبل السري مع الأعزاء والأقارب، هو رفض للموت،و نزوع إلى الخلود. وما المثل العامي الذي يقول إن من خلّف لم يمت. هنا ندرك أن الطقوس محاولة للتصدي لقهر الطبيعة وجبروتها، الطقوس التي تحد من كدمات الصدمة التي تحدثها الوفاة، هي في حد ذاتها علامة من علامات التواصل الرمزي مع الأموات. وهو ما كان يمارس فيما قبل التاريخ إذ كانت أرواح الأجداد تراقب الأحياء الذين يستمدون منها معنى وجودهم وأمنهم واستقرارهم، وهو ما عبّر عنه سكان الجنوب التونسي في القرن الرابع عشر للتجاني [ت 717هـ/1317م] لمّا سألهم لماذا يدفنون موتاهم بتلك الطريقة. نلاحظ أنه بعد مرور قرابة سبعة قرون على دخوله، فالإسلام لم يستطع أن يلغي تلك الممارسات القديمة الموغلة في التاريخ.

بالعودة إلى علم الآثار وإلى المعالم الجنائزية التي تزخر بها البلاد التونسية ندرك أن التواصل أمر مشروع بالنسبة إلى الجماعات التي لن تغير من تثملاتها بالبساطة التي يتصورها البعض. كما سنرى من خلال المقارنة بين تصرف أهل إفريقية في العصر الوسيط وبين تصرف أسلافهم في الفترة القديمة، عندما كان الاحتفاء بالشخصيات العامة والزعماء أمرا معهودا منذ القديم كما بينت الدراسات147 ؛ وهي ظاهرة تعرف ب: Anthropolâtrie، وهي بعض ممارسات تحيل عليها الأمور التي وجدناها بالقيروان في العصر الوسيط، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه.

وفي العهد البوني كانت تمارس طقوس متصلة بالجنازة تتمثل في تنظيم ولائم بمناسبة الدفن احتفاءً بالأموات وكانت تقام قرب المعبد148. وفي القرن الرابع م، ولاسيّما مع فترة حكم قسطنطين بدأت تطفو ظواهر دينية تحيل على نوع من التقوى الإفريقية في التعامل مع الأموات، والشهداء وبقاياهم، Reliques وما يصحب ذلك من ولائم جنائزية Banquets funéraires تقام في نطاق الاحتفاء بالشهداء خاصة مع موجة من الإقبال على بقاياهم . وقد تصدى تارتوليانوس بالنقد الصارم إلى هذه الممارسات التي يعتبرها في علاقة مع القرابين التي يقوم بها الوثنيون149 وموقفه يشبه إلى حد كبير موقف فقهاء المسلمين لاحقا في التعاطي مع ما يعتبر ونه بدعا في هذ المجال. من ناحية أخرى نود أن نشير إلى ظاهرة تقديس الأموات التي تتجلى في إقامة احتفالات وولائم تجمع الأهل والأصحاب والمقربين من المتوفى، كانت تقام هذه الاحتفالات على قبره وكانت مصحوبة بولائم بمناسبة ذكرى ولادته، وكانت الزهور توضع على القبر، على غرار ما كان يمارسه الوثنيون150. وكانت بعض القبور محل زيارات منتظمة مصحوبة أحيانا بولائم وبوضع الطعام على القبر مع سكب قليل من الخمر، [Libation] وهذه الممارسات كان قد نند بها أوغيستين151.

وكانت موجة الإقبال على تقديس بقايا الشهداء أمرا لافتا للنظر مما جعل القديس أوغيستين يتدخل لتأطير هذه المسألة حتى انه أراد أن يعوض هذه الممارسات بنوع من العبادة في اتجاه الله وأن تتحول هذه التقوى إلى ممارسات أكثر تجريد لاسيما بعد سقوط روما التي تضم رفاتي كل من القديسين بطرس وبولس، ولم يمنع ذلك من سقوط المدينة تحت وطأة البرابرة152.

من ناحية أخرى تشير البحوث في التاريخ الديني لإفريقية في الفترة المسيحية إلى تواصل ممارسة المواكب المصاحبة بالمشاعل والشموع لتشييع الموتى إلى مثواهم الأخير، وقد تواصلت مثل هذه الممارسة الوثنية مع المسيحية153، ولم تنقطع مع الإسلام كما أشرنا إلى ذلك سابقا. وقد امتد تأثير الممارسات الوثنية التي تخص الولائم الجنائزية إلى طقوس تقديس الشهداء في الفترة المسيحية في القرن الرابع م154، وهذا يؤكد مسألة التواصل وقدرة الطقوس على تجاوز كل الحدود الزمانية والثقافية التي تحول دون ذلك.

وفي عصر أوغيستين ساهمت السياسة الامبراطورية في انتشار موجة التقوى الشعبية التي تجلت عبر الاحتفاء ببقايا الشهداء الذين سيتم تأهيلهم إلى مراتب القديسين، عندما كانت تؤدى زيارات إلى قبورهم أو إلى المواضع التي تضُمّ جزءًا من أجسادهم أو من الأشياء التي تخصهـــم [Les reliques]، وهذه الموجة من التقوى الشعبية ستتحول إلى عبادة خاصة بالشهداء الذين يتبرك بقبورهم. وهذه الموجة كانت انتشرت تحت تأثير اكتشاف قبر السيد المسيح بأمر من الإمبراطور الذي ساهم في نشرالمسيحية، وساهمت سياسته في جعل المسيحيين يعتقدون في بركة القبر، وسوف تنسحب هذه البركة وهذا التقديس على قبور الشهداء وبقايا رفاتهم أو الأشياء التي تنتمي إليهم155.

4.3. تبلور ظاهرة الولاية والصلاح

        1.4.3. التشابه بين الديانتين التوحيديتين والإسلام

وكانت بعض القبور محل زيارات منتظمة مصحوبة أحيانا بولائم وبوضع الطعام على القبر مع سكب قليل من الخمر، وهذه الممارسات كان قد ندّد بها أوغيستين156. بعد استعراض بعض الأمثلة المتعلقة بتلك الممارسات التي تواصلت حتى الفترة الإسلامية هل يمكن لنا التصريح بنوع من العدوى المسيحية بحكم حضور المسيحية واستمرارها بإفريقية حتى القرن 12م، أم أن الأمر يتعلق بمسألة الذاكرة التي تأبى الاندثار، لأننا شاهدنا تشابها في المواقف التي يتبناها رجال الدين في الفترة المسيحية وفي الفترة الإسلامية من مثل هذه « البدع الوثنية » لكنهم بدورهم يصبحون بعد وفاتهم محل تبجيل واحتفاء، ويتحولون إلى قديسين أو أولياء. في الحقيقة لا يمكن أن نغفل عن مسألة المثاقفة بين الديانتين لاسيّما وأن الإسلام قد وضع نفسه في النسق التوحيدي محاولا تجاوز ما يعتبره بدعا في الديانتين إذ ترد بعض الإشارات الدالة على نوع من رد فعل المسلمين إزاء ظاهرة الاحتفاء بالصلحاء والناس الخيّرين من أهل الفضل، مثل ما قيل في أحد الزهاء والعبّاد الأفارقة: لو كان عبد الخالق في بني إسرائيل لصوروه في كنائسه157. وقد يكون العجم (المسيحيون الأفارقة) نموذجا يُتقدى به في مجال الولاية والصلاح حتى أن بعضهم قال بشأن إسماعيل بن عبيد الأنصاري المعروف بتاجر الله[ت107هـ/725م]: « رأيت رجلا ينسك نسك العجم »158.

كذلك يتكرر الموقف نفسه مع شخصية جبلة بن حمود الصدفي [ت 297هـ/909م] الذي قال عنه المالكي: « ولو فاخرنا بنو إسرائيل بعبّادهم وزهّادهم لفاخرناهم به »159. وهذا اعتراف من المسلمين بأسبقية أهل الكتاب في التعاطي مع صلحائهم وتأهيلهم إلى أعلى المراتب. وهنا نود أن نشير إلى تأثر المسلمين بما حدث في القرن الرابع م بخصوص موجة الإقبال على قبور الشهداء ورفاتهم وبقاياهم. فقد شهدت إفريقية منذ أواخر القرن الثالث إلى القرن الخامس التوجه نفسه. لقد بدأت ذكرى الشخصيات التي لها صلة بالإسلام الأول تطفو على سطح الذاكرة في تماه تام مع تلك التجارب المسيحية، وهذا الخبر الطريف الذي أروده أبو العرب يعبر عن هذه الفكرة عندما قال: « عن بعض أصحابنا أنه حضر حفر قبر بالبلوية في أرض شديدة، لم يظنوا أنه حفر فيها شيء، قال فظهرنا على رجل مدفون لم يتحرك منه شيء، فظنوا انه أبو زمعة البلوي »160.

ويذكرنا هذا الوضع بما كان يحدث مع قبور الشهداء المسيحيين الذين تحولوا إلى قديسين، وهكذا يتحول القبر من مجرد حفرة إلى رمز بحكم رمزية من دفن فيه. وحول القبر تنشأ عادة تقديس الشهداء ليتحولوا إلى قديسين161 وإلى أولياء عند المسلمين.

        1.4.3. نشأة الولي الحامي

ونلاحظ أن أبا زمعة البلوي [ت34هـ/654 م ] الذي يعتقد أنه عثر عليه سيتحول إلى ولي يرتبط اسمه بمدينة القيروان إلى يوم الناس هذا وسيتحول القبر إلى ضريح ثم إلى مقام وزاوية في العصر الحديث. نحن نلمس هذه الحاجة التي تراود العامة في علاقة بالذاكرة التي ترفض الفناء، فتسترجع ذكرى الشخصيات المرتبطة بالفترة التأسيسية الأولى على غرار التمشي التي اتخذته الذاكرة الإفريقية مع الشهداء المسيحيين والذين تحولوا إلى قديسين. ولنا في شخصية محرز بن خلف[ت413هـ/1022م] الذي تورط في مجازر ضد الشيعة وقتل نتيجة لذلك التورط. وتبعا لذلك اكتسب صفة الشهيد التي خولت له أن يتأهل إلى مرتبة ولي ارتبط اسمه بمدينة تونس وصار قبره الذي في بيته مزارا ومحل تبجيل من قبل السلطات الزيرية التي منحت تلامذته ظهيرا يعفيهم ويعفي كل من له صله بضريح الشيخ محرز من كل الضرائب ومنحت الضريح وأهله امتيازات استثنائية. وهنا نستحضر عادة قديمة تتمثل في تحول القبر إلى مزار كما بيّناه سابقا. وقد خصصنا مقالا لهذا الشيخ وعلاقة الظهير بتحويل القبر ومحيطة وكل ماله صلة إلى مجال مقدس له حرمة162.

وهذه النقطة تحيلنا على القول بنشأة ما عرفته المسيحية بالقديسين الحماة للمدن - les saints protecteurs - وقد جسد المثلان المذكوران أعلاه هذه النزعة التي ليست إلا تواصلا لما كان سائدا في الفترة المسيحية كما أشار إلى ذلك الباحث بيتر بروان في كتابه عن القديسين المسيحيين في الشمال الإفريقي في الفترة المسيحية163. وهكذا تتسرب الممارسات القديمة برغم مقاومة رجال الدين المسيحيين ثم المسلمين لاحقا، فيتأكد لنا أن الأمر يتعلق بالذاكرة التي تعني وجود الجماعة وهويتها وتطلعاتها. إن عمل الذاكرة هنا ينخرط ضمن اللاوعي الجمعي الذي يطفو من حين إلى آخر مؤكدا أنه لا قطيعة بين حقبة وأخرى، وبين ثقافة وأخرى، بل أن هناك تراكما يتطور ويترسب طبقات أفقية تتواصل إلى العصر الحاضر. وهي ظاهرة شهدتها الديانات الثلاث مع تفاصيل طفيفة كما أشار إلى ذلك بيتر براون164. وبرغم أوجه التشابه بين الممارسات المتصلة بالقبر وصاحبه، فقد وجبت التنبيه إلى أمر مهم وهو ان ظاهرة الولاية عند المسلمين نشأت على هامش الإسلام الرسمي الذي حاربها كل الطرق، وهو ما يبرز من خلال الجدل القائم بشأن كرامات الأولياء في القرن الرابع والخامس بين الفقهاء والأولياء إذ لم يستطع الفقيه محمد ابن أبي زيد القير واني من فرض رأيه الرسمي في هذه المسألة وبلغ الخلاف بينه وبين جماعة المتصوفة إلى القاضي الباقلاني في بغداد؛ وقد أثنى هذا الأخير على علمه لكنه بيّن أن الكرامة أمر جائز الحدوث165.

إن الطقوس الجنائزية هي أكثر الظواهر تعبيرا عن حيوية الجماعة وتشبثها بمنطق الحياة الذي لا يقهر، ولم تتمكن الإيديولوجيات ولا الأنماط التي تريد أن تفرضها النخب الدينية على العامة أن تقضي عليها؛ وليس من الصدفة أن نلمس التشابه والتقاطع بين الممارسات التي تنطلق من الاحتفاء بالمشاهير إلى تأهيلهم وجعلهم قديسين عند المسيحيين وأولياء صالحين عند المسلمين. لكن مع فرق بسيط ومُعبّر؛ وهو أن تأهيل الشخصيات إلى مرتبة القداسة La sainteté في المسيحية يخضع إلى نواميس وتراتيب وضوابط تحددها الكنيسة التي تتدخل عبر المجامع لحسم أي جدل يتعلق بمسائل تشغل بال الرأي العام المسيحي. وهكذا فإن تأهيل الشهداء إلى مرتبة القديسين تقوم به الكنيسة عبر قرار تأهيل [Acte de canonisation]، بينما يتم التأهيل نفسه في المجتمع الإفريقي المسلم من قبل الجماعة فرضا، على عكس الولاية عند المسيحيين التي نشأت تحت ظل الكنيسة166، رغم مواقف الفقهاء الممثلين للنخب الدينية167. وقد ساهم رجال الدين المسيحيين الأفارقة بدور كبير في هذه المسألة من خلال فرض الاحتفال بذكرى الشهداء واعتبارهم أمواتا غير عاديين168 تحولوا إلى قديسين بعد الوفاة في نوع من الاعتراف بمآثرهم169.

الخاتمة

بعد استعراض أبرز مظاهر الطقوس الجنائزية بإفريقية في العصر الوسيط، وإحالتها على المرجعيات الفقهية الإسلامية في تفاصيلها الدقيقة، لا يسعنا إلا أن نخرج ببعض الاستنتاجات المؤقتة باعتبار صعوبة الإلمام بكل خصائص هذه الظاهرة التي قد تبدو بسيطة، لكنها في واقع الأمر جد معقدة مما يجعل الباحث أمام مجال بحث لايزال بكرا. غير أنه يمكن لنا أن نقول بأن طقوس الجنازة في إفريقية في العصر الوسيط-والتي لم تتغير كثيرا عن الفترة الحالية لم تنشأ مع العصر الوسيط كما هو شأن الفقه والأدب والمؤسسات وغير ذلك من مظاهر الحضارة الإسلامية الوسيطية. فقد لاحظنا أن الطقوس الجنائزية ليست إلا إفرازا لسيرورة طويلة ومعقدة من التلاقح والمثاقفة من عدة أوجه. فهي تحمل في طياتها بعضا من عناصر عربية جاهلية، ومن طقوس وثنية إفريقية هي بدورها عبارة عن خليط من محلي وخارجي متوسطي على الأقل. هذا علاوة على العناصر التوحيدية التي تسربت عبر ممارسات اليهود والنصارى في إطار المفاصلة مع الوثنية عموما. غير أن هذه المفاصلة التي تُحركّها إرادة تأصيل لهوية دينية جديدة يُعبّر عنها الفقيه الممثل « الشرعي » للشريعة التي يراد له أن تتدخل في كل تفاصيل حياة الأفراد. فالفقه عبر إرادة ترسيخ الهوية « الشرعية » ما انفك يطالب باتباع سلوك يتماشى ومتطلبات الديانة الإسلامية بكل ورع وتحري حتى يتجنب المسلمون الوقوع في الخطيئة ولو عن حسن نية. وفي هذا الإطار قاوم الفقه كل المظاهر التي تتصل بالطقوس وتعتبر من و جهة نظر الفقيه محرمة أو مكروهة، لكنه لم يوفق في فرض كلمته بخصوص بعض مظاهر التعاطي مع الطقوس الجنائزية، لاسيّما تلك التي تتعلق بالتعامل مع القبر ومع صاحب القبر لأن الفقه بدوره يتضمن بعض عناصر غير دقيقة بخصوص المسألة-زيارة القبور من عدمها- كما أن التعامل مع القبر سيؤدي إلى نشأة طقوس أخرى لم يستطع الفقيه محاصرتها ولا السلطة السياسية منعها.

إنها طقوس الولاية والصلاح التي انطلقت من الاحتفاء بجنازات المشاهير وزيارة قبورهم لاحقا رغم أنهم أوصوا بتسوية القبر بالأرض. لكن المسألة أعمق من أن تدرك بمجرد الأمر والنهي؛ غير المعلن، فالمسألة ذات صلة بالذاكرة التي تتواصل بشكل خبِئ [une pérennité latente]، إنها ذاكرة الشعوب والجماعات تنتصر على الموت بالتذكر، فهي ترفض أن تقطع الصلة بالأجداد، وتأبى أن ينقطع الحبل السّري معهم. تلك هي الذاكرة تقاوم النسيان، لأن في التذكر شعور بالانتماء إلى هوية محددة؛ تلكم هي أهم وظائف الطقوس: إدماج الأفراد وجعلهم يشعرون بذلك الانتماء الذي لا يتشكل عبر جيل أو جيلين، والذي لا يتغير بمجرد تغيير في هرم السلطة، أو تغيير على مستوى الديانة، خاصة وأن في خفايا هذه الديانة عناصر قديمة متنوعة.

الهوامش

1 Jean-Pierre Albert, 1999, p.141-152
2 L’expression «rites de passage» remonte à l’ouvrage d’Arnold Van Gennep qui est paru en 1909, porte ce titre.voir : Nicole Sindzingre ,Rites de passage ,in E.U.
3 Jean-Pierre Albert, 1999, p. 1.
4 Mircéa Eliade, 1965 , p.18.
5 Louis-Vincent THOMAS : « Les groupes humains, même les plus « archaïques », n’ont pas manqué d’être frappés par la brutalité et l’inévitabilité de la mort. Néanmoins, la conscience collective, s’emparant des réalités perçues ou vécues, les insère en des complexes imaginaires, parfois d’une étonnante originalité. » E.U.Art Mort. Les sociétés devant la mort.
6 Durkheim évoque la fonction d’intégration du rite dans la mesure où l’individu prend conscience de soi par la pratique rituelle. Von Gennep situe les rites funéraires dans la catégorie des rites de passage. Voir : Nicole SINDZINGRE ; Rituel, in Encyclopédie Universalis.

7 ابن حبيب البغدادي، 1942، ص 323.
8 عبد العزيز سالم، 1968، ص 660.
9 الشهرستاني، 1992، ص651-652.
10 الشهرستاني، ن.م، ص687.
11 الشهرستاني، ن.م، ص687.

12 Voir : Lyne Marie Larocque. Rites funéraires dans le judaïsme, in Encyclopédie sur la mort.
13 La Bible, Ezéchiel 37-12 ; Isaïe 26-19.
14 Catherine Déchelette Elmalek , 2012, p. 6.
15 Catherine Déchelette Elmalek, 2012, p. 7.
16 «…les mêmes gestes, les mêmes formules incantatoires, parfois les mêmes cris et les mêmes complaintes quand il s’agit précisément de la mort ». Voir : Haim Zafrani ; Visions de la souffrance et de la mort dans les sociétés juives d’Occident musulman, in Diogène , 2004, N° 1, p. 96-121.
17 Catherine Déchelette Elmalek, 2012, p. 11.
18 L’usage de la prière appelée le kaddish est intéressant à signaler ici. Récités par les endeuillés, elle est appelée à tort la « prière des morts » ou la prière « pour les morts » alors que la traduction du kaddish révèle l’absence de référence à la mort ou au deuil » Catherine Déchelette Elmalek , 2012 , p. 8.

19 التوراة، سفر التكوين ،إصحاح37، آية 34: فشق يعقوب ثيابه، وارتدى المسوح على حقويه، وناح على ابنه أياما عديدة.

20 Justin Zangré, 2016.
21 Justin Zangré, 2016, p. 41.
22 Justin Zangré, 2016, p. 44.
23 Victor Saxer, 1980, p. 38.
24 Voir : Justin Zangré, 2016, p. 53.
25 Justin Zangré, 2016, p. 61.
26 Victor Saxer, 1980, p. 53-54.
27 Justin Zangré, 2016, p. 65.
28 Justin Zangré, 2016, p. 82.
29 Victor Saxer, 1980, p. 152.

30 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص14.
31 رواه الترمذي، ذكره الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي،ن/م،ص 23.
32 الترمذي، د.ت، حديث 2329،ج 1.
33 الشيخ محمد الطاهر رويس، 1990، ص 186.
34 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 38.
35 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص 186.
36 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص187.
37 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 39.
38 أبو الوليد ابن رشد، ن.م، ص 231.
39 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص41.
40 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ،ص187.
41 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 40.
42 أبو الوليد ابن رشد، ن.م ،ص 231 .
43 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ،ص187.
44 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 46.
45 سورة العنكبوت، آية 57.
46 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 55.
47 مالك بن أنس ،2000، ص 140-141.
48 مالك بن أنس، ن.م، ص 142.
49 ابن رشد، م.م، ص232.
50 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 79.
51 ابن رشد، ن.م ، ص 232.
52 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص187.
53 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص188
54 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 87.
55 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 80.
56 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص188.
57 ابن رشد، ن.م ،ص 232.
58 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص 188.
59 مالك بن أنس، م.م، ص 133.
60 أبو بكر عبد الله بن محمد المالكي، رياض النفوس، ج1، ص185،طبعة بيروت1983: »ولم يزل يتسلل في الأزقة حتى أتى بعض خرائب باب نافع فدخل حجرة خربة ودخلت وراءهن فإذا رجل أسود ميت على مغسل، وإذا بقصرية مملوءة ماء وكساء أسود معلق على وتد. فتشمر عبد الله بن فروخ وجمع ثيابه إلى حجره ولم ينزعها. ثم قال لي صب علي صبا رفيقا. قال: فصببت عليه فجعل يغسل حتى فرغن ثم أخذ الكساء فكفنه فيه ثم وضعناه على سرير نعشه، ثم قال: أخرج بنا إلى الطريق. قال: فحملناه حتى أخرجناه إلى الطريق فمر بنا رجل فقال له ابن فروخ: الجنازة يرحمك الله. قال: فحملناه وحمل معنا حتى صلينا عليه ودفناه ».
61 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص 189-190.
62 الأنصاري الدباغ، د.ت، ج3، ص110-111.
63 ابن رشد، ن.م ، ص 233.
64 مالك بن أنس، م.م، ص 134.
65 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص 190.
66 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 89.
67 الأنصاري الدباغ، ن.م ، ج2 ، ص 48.
68 ابن رشد، ن.م ، ص 234.
69 ابن عذاري المراكشي، ن.م ، ج1، ص 270.
70 الشيخ الطاهر رويس، ن.م ، ص 194.
71 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 95.
72 مالك بن أنس، ن.م، ص134-135.
73 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م ، ص 97-98.
74 سحنون، المدونة الكبرى، 1994،ج1، ص 256.
75 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص197.
76 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 99.
77 سحنون، المدونة الكبرى، ن.م، ج1، ص 253.
78 هادي روجي إدريس، 1992،ج2، ص 324-325.
79 روبار بروانشفيڨ، 1988،ج2، ص327.
80 البرزلي، 2002 ، ج1 ، ص .508.
81 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج1، ص 321.
82 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج3، ص 163.
83 الأنصاري الدباغ ، ن.م، ج3، ص 169.
84 الأنصاري الدباغ ، ن.م، ج2، ص290.
85 ابن عذاري المراكشي، ن.م، ج 1، ص229.
86 ابن عذاري المراكشي، ن.م، ج 1 ص243.
87 أبو العرب التميمي، 1985، ص175.
88 سحنون، ن.م،ج 1، ص 254.
89 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 102.
90 سحنون ، ن.م، ج،1 ص 254.
91 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 102.
92 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 103.
93 لمزيد من التفاصيل ينظر: الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص 195-196-197؛ والشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 105 وما يليها.
94 الشيخ أحمد مصطفى قاسم الطهطاوي، ن.م، ص 105.
95 سحنون ،ن.م،ج1، ص 255-256.
96 سحنون ،ن.م،ج1، ص 259.
97 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص198.
98 أبو الحسن القابسي ،1986، ص141.
99 سحنون، ن.م، ج1، ص 262-263.
100 ابن أبي زيد القيروان، 1999، مجلد 1، ص 578.
101 ابن أبي زيد القيرواني، ن.م، مجلد 1،ص 578.
102 البرزلي، ن.م، ج1، ص 506.
103 المالكي، ن.م، ج1، ص 186.
104 ينظر الإحالة رقم 30 في بداية المقال.

105 Voir Haïm Zafrani, « Visions de la souffrance et de la mort dans les sociétés juives d’Occident musulman », Diogène 2004/1 (n° 205), p. 96-121. DOI 10.3917/dio.205.0096. Rites circuambulatoire et chasse aux Démons. Les parcelles d’Or Immédiatement après que le convoi arrive au cimetière, on procède au rite circuambulatoire des haqqafot, sept processions faites autour du cercueil, en cercle serré formé de dix personnes se donnant la main et récitant une liturgie spéciale. L’auteur de Nahalat Abot dit qu’il s’agit là d’un tiqqun « rite de réparation » destiné à faire fuir les mauvais esprits, car il est dit : « Autour de lui (du mort) rôdent les impies » (référence à Psaumes XII. 9).
106 Né à Tagaste en 354 : dans la province romaine de Numidie (aujourd’hui Souk-Ahras en Algérie), d’une mère chrétienne et d’un père païen. Il meurt, le 28 Août 430 à l’âge de 76 ans à Hippone assiégée par les Barbares.
107 Voir: Victor Saxer, 1980, p. 151-152.

108 ابن أبي زيد القيروان، ن.م، مجلد 1، ص 631-632.
* نشير إلى ممارسة اليهود التي تعرضنا لها في أول المقال. ينظر الإحالة 41.
109 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص202.
110 التجاني، الرحلة، قدم لها حسن حسني عبد الوهاب، 1981، ص187.

111 G. Camps, 2001, p. 3738-3760.
112 Voir : E.I. article KABR ; J. Sourdel Thomine et Y. Linant De Bellefonds ; Version anglaise 352-355.

113 سحنون، ن.م، ج1، ص 263.
114 ابن قداح الهواري، 1992، ص 184-185-186.
115 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص 202-203.
116 البرزلي، ن.م، ج1، ص 515.

117 Voir : A.J Wensinck ; art Munikr wa Nakir.in ; E.I ;version française 577-578..

118 البرزلي، ن.م، ج1، ص 509.
119 البرزلي، ن.م، ج1، ص 509.
120 البرزلي،ن.م،ج1، ص 510.
121 ابن أبي زيد القيرواني، ن.م، مجلد1، ص 661-662. 122 الشيخ الطاهر رويس، ن.م، ص 206.

123 Voir : Nadia Julien,1997, p. 91-92. Le noir la négation de la lumière…il renvoie à l’idée de la de la sagesse et constance dans la tristesse et les adversités.

124 ابن أبي زيد القيروان، ن.م، مجلد 1، ص 576-577.
125 البرزلي، ن.م، ج1، ص 513-514.
126 البرزلي، ن.م، ج1، ص 514.
127 البرزلي، ن/م، ج1، ص 514-515.
128 ابن أبي زيد القيرواني،ن.م، مجلد 1، ص 655.
129 ابن أبي زيد القيرواني،ن.م، مجلد 1، ص 656.
130 الشيخ الطاهر رويس، ن/م، ص 206.
131 ابن أبي زيد القيروان، ن/م، مجلد 1،ص 661.
132 البرزلي، ن/م، ج1 ،ص 515.
133 المالكي، ن/م، ج1، ص 495.
134 لقد قمت بدراسة هذه الظاهرة في مقالين منفصلين أولها المجال الأوليائي ضريح سيدي محرز نموذجا، ضمن أشغال الملتقى الدولي الثاني حول القبيلة- المدينة- المجال، في العالم العربي الإسلامي، سنة 2003، ص 277- 302 . والمقال الثاني صدر بالفرنسية ضمن اعمال ندوة القيروان وجهته؛ اكتشافات جديدة، ومقاربات جديدة، نصوص جمعها احمد الباهي، ندوة نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، قسم علم الآثار مارس 2006،

Du cultes des ancêtres au culte des saints à Kairouan aux (IIIe - IVe et Ve / IXe-Xe et XIe siècles), 250-218.

135 هادي روجي إدريس، ن.م، ج2، ص 325-326.
136 الأنصاري الدباغ، م.م، ج1، ص 287.
137 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3 ص 212.
138 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3 ص 104.
139 المالكي، ن.م، ج2، ص 232.
140 المالكي، ن.م، ج 1، ص 494-495.
141 المالكي، ن.م، ج2، ص 124.
142 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3، ص 142-143.
143 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3، ص 163.
144 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3، ص 169.
145 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج 3، ص 165.

146 Voir Mircea Eliade in EU, Le culte des ancêtres. « Une des caractéristiques les plus intéressantes du culte des ancêtres tient souvent aux liens d’identification et de solidarité que les vivants établissent avec ceux-ci sur le mode de la plus intime indépendance ».
147 On peut citer le cas de Massinissa et ses filles à qui furent érigés des temples commémoratifs ;ils semblaient avoir été l’objet d’un culte. L’édifice funéraire est désigné par le terme MQDS ; sanctuaire, lieu sacré .En effet cet édifice peut être déclaré sacré dès lors que les gestes de vénération et de respect envers l’âme du défunt y étaient accomplis : des visites, des offrandes, des réunions pieuses et des repas collectifs. Il ressort de tout ce qui précède que l’anthropolâtrie pratiquée dans le milieu berbère est une sorte de culte adressé aux morts et notamment à certains rois dont le souvenir devait contribuer au maintien de la cohésion du groupe et garantir la survie de la communauté »
Voir : F. Decret et M.H. Fantar, l’Afrique du nord dans l’antiquité, Paris, 1981, p. 257-258.
148 Voir :J. Ferron ,1988, p. 34.
149 Voir : F. Decret, 1981, p. 124 ; P. Brown, 1984, p. 40.
150 F. Duval, 1982,T2, p. 525-542.
151 Voir : F .Decret, 1981,p.125.
152 Voir :Victor Saxer, 1980, p. 124-129.
153 Voir : F. Decret,1996, p. 1234.
154 Voir : Victor Saxer, 1981, p. 311.
155 Justin Zangré, 2016, p. 366 et suite.
156 Voir : F. Decret, 1981, p. 125.

157 أبو العرب التميمي، ن.م، ص 77.
158 أبو العرب التميمي، ن.م، ص 85.
159 المالكي، ن.م، ج2، ص 27.
160 أبو العرب التميمي، ن.م، ص 141.

161 F. Duval 1982, p. 465.

162 محمد سعيد، 2003، ص 286.

163 Peter Brown, 1984, p. 19 : l’auteur cite le cas de la ville de Tébessa : « au début du V° s,la cité nord-africaine de Tébessa fut flanquée d’un énorme site de pèlerinage ,construit dans le cimetière sans doute autour de la tombe de Sainte Crispine ».
164 Peter Brown, 1984, p. 21-22.

165 الأنصاري الدباغ، ن.م، ج3، ص 164.

H.R. Idris, 1962, T2, p. 698.
166 Voir : Jean-Claude Schmitt, 1984, p. 286-300.

167 نذكر هنا بموقف الفقهاء المتردد من بناء القبور و زيارتها بين التشدد والتساهل إزاء النساء خاصة، لكن برغم ذلك نجحت الذاكرة الجماعية في فرض تصورها للعلاقة مع الأموات الذين حولت المشاهير منهم إلى أولياء حتى كان المسألة تبدو تعبيرا عن رغبة لاواعية عن حاجة إلى صنع أولياء ؛ وذلك من خلال التبرك بالقبور التي تحولت إلى أضرحة تزار بصفة دورية موسمية كما حدث في المسيحية. ونلاحظ أن القبر الذي هو في الأصل حبس على صاحبه يتحول إلى ملك عام بتأهيل صاحبه إلى عالم الولاية، سيدي محرز نموذجا. و أبو زمعة البلوي. وقد سئل ابن قداح[معاصر للدولة الحفصية، توفي 734هـ] عن بناء القبور فأجاب: »لا يجوز بناء القبر بحجر ولا جي، و إنما يسنم خاصة ولا بأس أن يجعل حجر عند رأسه ليكون علما عليه ،ولكن إذا وقع عمل على قبر أهل الخير فخفيف ,ينظر ابن قداح المسائل، ن/م،ص 184-186.وهذا ينسجم مع موقف المالكية عموما الذي يستند إلى أحاديث في هذا الشأن منها ما رواه أحمد وأصحاب السنن ،الترمذي : »لعن الله زائرات القبور، و المتخذين عليها المساجد والسرج » حديث رقم 294 « نهى النبي أن تجصص القبور وأن يكتب عليها »حديث رقم 972موسوعة الحديث.

168 Voir : Justin Zangré, 2016, p. 406 à-propos de St Augustin : « il travailla à la promotion du culte des reliques des martyrs en lien étroit avec les responsables politiques et ecclésiastique. Grâce à Augustin, les chrétiens célèbrent désormais leurs morts selon des normes répétitives, stables, ordonnées et de façon ecclésiale ».
169 Voir : Jean-Claude Schmitt, 1984, p. 286-300.: « Mais il est vraiment saint une fois mort après il subit le martyre ou que la vox populi pro clamé sa sainteté éventuellement ratifiée par une canonisation aux derniers siècles du Moyen Age ».

المصادر والمراجع

La Bible.

Brown Peter, 1984, Le culte des saints, Cerf, Paris.

Camps G., 2001, « Inhumation », Encyclopédie berbère, 24 | Ida – Issamadanen, Aix-en-Provence, Edisud, p. 3738-3760.

Déchelette Elmalek Catherine, 2012, La mort dans le judaïsme,
URL: www.ecole- rockefeller.com/…/fiche-5-mort-dans-le-judare-inf3-13-09-2012.pdf.

Decret F. et Fantar M.H., 1981, L’Afrique du nord dans l’antiquité, Paris.

Duval F., 1982, Le culte des martyrs en Afrique du IVe s au VIIe s, Ecole française de Rome, T2. EliadMircéa e, 1965, Le sacré et le profane, Gallimard, Paris.

Eliade Mircéa, Le culte des ancêtres, EU.

H.R. Idris, 1962, La berbérie orientale sous les zirides, Paris.

Julien Nadia , 1997, Dictionnaire des symboles et des mythes, Ed Marabout.

Ferron J., 1988, La religion punique de Carthage, in IBLA, n° 161.

Larocque Lyne Marie, Rites funéraires dans le judaïsme, in Encyclopédie sur la mort.

Saïd Mohamed, 2006, du culte des ancêtres au culte des saints à Kairouan aux (IIIe –IVe et Ve/IXe-Xe et Xe siècles), actes du colloque ,Kairouan et sa région, nouvelles découvertes, nouvelles approches, textes réunis par Ahmed El Bahi, Miskiliani éditions, p. 250-218.

Saxer Victor, 1980, Morts, martyrs, reliques en Afrique chrétienne aux premiers siècles ,les témoignages de Tertullien, Cyprien et Augustin à la lumière de l’archéologie africaine, Collection théologique historique 55, Editions Beauchesne, Paris.

Schmitt Jean-Claude, 1984, La fabrique des saints, In Annales. Économies, Sociétés, Civilisations. 39ᵉ année, N. 2, p. 286-300.

Sindzingre Nicole, Rites de passage , in E.U.

Thomas Louis-Vincent, Art mort, in E.U.

Zafrani Haïm, 2004, « Visions de la souffrance et de la mort dans les sociétés juives d’Occident musulman », Diogène 2004/1 (n° 205), p. 96-121.
DOI 10.3917/dio.205.0096.

Zangré Justin, 2016, Les rites funéraires dans l’Afrique du nord chrétienne du 3éme au 5éme siècle à la lumière des œuvres de Tertullien, Cyprien Lactance et Augustin, thèse dirigée par Mr Faivre Alexandre et Mme Vinel Françoise ,université de Strasbourg.

الكاتب

محمد سعيد

أستاذ محاضر بقسم التاريخ ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة سوسة.

Retour en haut