Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

Numéros en texte
intégral

Numéro 03

2017 | 03

حول أصول التعمير بهنشير الشويقي خلال بديات الفترة الاستعمارية: إحداث القرية الإستيطانية وتغير مكونات المشهد العمراني

بية عبيدي بالحاج

الفهرس

الملخّص

إن تغير الظروف والأحداث التي توالت على إيالة تونس خلال القرن التاسع عشر نتيجة انتصاب الحماية الفرنسية وما انجرّ عنها من التغيرات السياسية والاقتصادية المرتبطة بدورها بالتحولات العالمية والإقليمية بدّلت كثيرا من ملامح البلاد العمرانية وتركيبتها المجالية. وتجلّى ذلك خاصة في مدينة تونس وأحوازها والريف المتاخم لها. وقد ارتبط ذلك بشكل وثيق بتغيّر الطبقات الاجتماعية المالكة لهذا المجال، الباي وأعوانه، بشركات فرنسية أو بمعمرين من جهة، وبالاستعمار الزراعي من جهة أخرى.

ولم تكن منطقة هنشير « سيدي الشويقي » الواقعة بسهول مجردة السفلى بمعزل عن هذه التحولات بل تعتبر من أول المناطق تأثرا بها. فقد عرف الهنشير منذ التفويت فيه لشركة فلاحية خاصة حركة إعمار وتعمير استمرت زهاء نصف قرن وفق معايير وقواعد حددتها السلطات الاستعمارية حسب الحاجة. واتسع هذا العمران إلى الحد الذي جعل من الضروري ربط هذا المركز العمراني الناشئ بالمدينة بشبكة من الطرقات بالإضافة إلى إحداث هياكل إدارية لمتابعة شؤون هذه القرية. كما كان ذلك واعزا للاهتمام بالتهيئة المائية وتجهيزات الري. وتمّ في هذا الإطار شقّ الترع وإقامة الجسور وتهيئة المعابر والقنوات.

ويهدف هذا المقال من خلال دراسة تاريخية وأثرية للتطور التاريخي لهنشير سيدي الشويقي خلال القرن التاسع عشر إلى بسط عدد من القضايا المطروحة في تاريخ قسم من المجال الريفي وتحوله من مجرد « هناشر » ترتبط بالتركيبة الفلاحية التقليدية للمدينة إلى مراكز عمرانية متفاوتة الأهمية. ويطرح ذلك تساؤل أساسي يتعلّق بمكانة هذه « الهناشر » المتحوّلة عمرانيا في النسيج الحضري، وبمدى تشكيل تصوّر عام و »موحد » حول كيفية تحوّلها.

الكلمات المفاتيح

إيالة تونس، القرن التاسع عشر، حركة عمرانية، هناشر، الاستعمار الزراعي، التعمير، سيدي الشويقي، سهول مجردة السفلى، أملاك البايليك.

المرجع لذكر المقال

بية عبيدي بالحاج، « حول أصول التعمير بهنشير الشويقي خلال بديات الفترة الاستعمارية: إحداث القرية الإستيطانية وتغير مكونات المشهد العمراني »، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 03، سنة 2017.

URL : https://al-sabil.tn/?p=11004

نص المقال

المقدمة

عرفت الأرياف بالبلاد التونسية منذ موفى الفترة الحديثة تحولات جذرية في عمرانها وتشكّل نسيجها، ولقد بدأت ظواهر هذه التحولات قبيل انتصاب الحماية الفرنسية على البلاد. ثم تصاعدت وتيرتها مع انتصاب الحماية الفرنسية التي تعتبر مرحلة حاسمة وشائكة في تاريخ التنظيم العمراني وتهيئة المجال الريفي عموما. وتمثلت الهيكلة الاستعمارية الجديدة في خلق منظومة قرى استيطانية وضيعات تغطي المجال الريفي وتتوغّل في أعماقه عن طريق وضع الأيدي علـى الأراضـي الخـصبة وتفكيـك الطـابع العقاري لملكيات البايليك بصفة خاصة، بالإضافة إلى استحداث نمط تعميري غير مألوف. وقد أضحى المجال الريفي تبعا لذلك يجسد ثنائية مجالية وتضاداً بارزاً بين المجال المستحدث المتمثل فـي الضيعات أو القرى الاستيطانية، مع إقحام نماذج سكن مغايرة للنمط التقليدي من حيـث الشكل والمواد البنائية المستعملة والمجال المحلي المتمثل أساسا فـي « المداشر » و »الدواوير »1. وظهرت بوادر هذه الحركة باكرا في سهول مجردة السفلى القريبة من مدينة تونس. وكان هنشير « سيدي الشويقي » من أولى الجهات التي أحدثت بها مراكز عمرانية استعمارية ترتبط باستغلال الثروة الفلاحية للمنطقة منذ بداية الاحتلال. ونشير في هذا السياق أيضا إلى أهمية الاختلافات النوعية التي ميّزت أشكال التعمير التي أنجزت على مستوى هذا العقار عن غيره في المجال الريفي عموما، وهو ما أكسبه بعض التفرّد الذي يمكن من خلال تقصّي نواحي التباين وجوانب التماثل فيه أن نفهم بعض أصول هذه التحولات ودواعيها.

وتطرح في هذا الصدد عدة أسئلة تتعلّق بآليات إنشاء هذه القرى الاستيطانية ومراحلها. كما نشير أن هذه الدراسة لا ترنو إلى الإلمام بكل تفاصيل الظاهرة. ولا تروم التعرّض لكافة مراحل التشكّل التي طرأت على المجال الريفي إبّان الفترة المذكورة، وإنما تناول الحركية العمرانية من خلال زاوية طرح أثرية ومعمارية استنادا إلى هذا المثال. وقد اعتمدنا لذلك على وثائق إدارة الأشغال العامة التي خلفتها الفترة الاستعمارية وتطبيق عدد من المقاربات المنهجية واستغلال وثائق ونصوص جديدة، كمصدر من مصادر تاريخ هذه المنطقة في الفترة الحديثة مع إفراد القرن التاسع عشر بعناية خاصة نظرا لأهميته على مستوى الإشكاليات المطروحة. كما طرحنا المعطيات الميدانية مع تخصيص جزء للقيام بجرد المساحات المزروعة والضيعات التابعة لهنشير « سيدي الشويقي » ثم كان البحث في تاريخ إنشاء القرية ومراحل تطوّرها وألحقنا ذلك بدراسة أهم مكوّنات النسيج العمراني.

1. هنشير « سيدي الشويقي »: الموقع والحدود الجغرافية

تطلق هذه التسمية، « هنشير سيدي الشويقي »، على مجال جغرافي واسع، وهي ذات مدلول غير ثابت لكونه عرف تسميات مختلفة يبدو أنها تزامنت مع عمليات عقارية يصعب تحديد ماهيتها في ظلّ المعطيات المتاحة حاليا. كما شهد أيضا تداولات عديدة ودورية بين الامتداد والتقلص وفقا للتحوّلات السياسية وواقع السيطرة على المجال الذي عرفته المنطقة عبر تاريخها.ونتبيّن من خلال « توجّه »2 أمر به القاضي المالكي في عام 1260/ 1844. وتولّى الأمر عنه مساعده صالح القسنطيني وبإشراف أمناء الفلاحة أبي عبد الله محمد ابن أحمد الحناشي ومحمود بن محمد جعفر وذلك بطلب من « الحضرة العلية »3. وردت تفاصيله في طيات وثيقة استرعاء أبرمت في التاريخ بشهادة العدلين محسن محمد ومحمد يونس بن محمد تميمي، أن الهنشير يقع جوفي طبربة بقرب من « خنقة البواله » وكان يعرف قديما بـ » هنشير تباس » أو « هنشير سيدي سالم التباسي » وهو مسجّل بإسم المحبس4. ثم أصبح يعرف بـ « هنشير سيدي الشويقي » نسبة للولي الصالح بالمكان « سيدي الشويقي ». وقد تمّ، في تاريخ لم نضبطه بعد، تحبيس « ماشيتين » من الهنشير لفائدة ضريح هذا الوليّ. ويحده قبلة طريق يعرف بـ « مسرب أبي النوايل »، ويتجه شرقا ليصل إلى طريق « خنقة البواله » التي تمر عبر الهنشير. ويسامته من جانب الطريق الشرقية جسر يفصله عن سانيتين مشجرتين بكرم العنب والتين. تقع احداهما جوفي الجسر المذكور ويشملها حدّ الهنشير ثم يمرّ الحد عبر رصفة تعرف بـ « رصفة السواني » ويتواصل إلى حدود تخم « سانية بوصوره » ووادي « سيدي سالم التباسي ». ويحده شرقا طريق « كدية بازين ». ويحده جوفا جبل « البواله » إلى أن يتصل بالوادي المجاور لـ « سيدي صوره ». ويحده غربا طريق تفصله عن هنشير برج التوتة من حقوق الحرمين الشريفين. وهو « من الأملاك المعدودة من أملاك البايليك منسوبا للجانب المذكور وفي حوزة المقام وتصرّفه العام يتصرف فيه ملوك إفريقية سلفا عن خلف رحم الله السلف وبارك في الخلف بنيابة وكلايهم عنهم ولا يعلمونه خرج بإقطاع لأحد تفضلوا عليه بها ولا أحد ادعى بذلك في شي منه سوى ماشيتين بوسط الهنشير فيها ضريح الشيخ سيدي شويقي مميزة يسمعون أنها حبس الشيخ الشويقي المذكور وما زاد عن ذلك فللجانب المذكور لا يعلمون خروجه عن ذلك بناقل إلى الآن 5». قام بعد ذلك أحمد باشا باي 1837-1855 ببيع الهنشير لأبي العباس حميدة بن محمد عرف بيوض البنباشي بثلاثين ألف ريال تونسية صغرى وذلك في الثاني والعشرين من شهر شعبان من سنة 1260/5 سبتمبر 1844، بشهادة الكاتب أحمد بن أبي الضياف قايم مقام ومحمد بن سعيد. ثم قام المالك الجديد في رمضان من سنة 1871 ببيعه لزليخة بية ابنة حسين باشا باي عن طريق وكيلها اسماعيل « النائب بقمرق الدخان وفابريكة كساوي العسكر » بعشرين ألف ريال. فورثه عنها زوجها أحمد زرّوق وابنها محمد التيجاني زرّوق ووالدتها حنيفة. وقام الورثة في 20 محرم من سنة 1288 ببيع الهنشير المذكور عن طريق الوكيل ابراهيم بن علي القماطي لـ »المركانتي قستيل اكيلي قستيل نوفو » Achille Castel Nuovo بعشرين ألف ريال. فقام بتوثيقه لصالح « الشركة العقارية لهنشير شويقي ». وتمت أثناء هذه العملية إعادة ضبط حدود هذا العقار كما يلي:

يقع هذا الهنشير على مدى سبع أميال غرب مدينة طبربة على الطريق الرابطة بين مدينة تونس وجهة ماطر. وتبلغ مساحته ألفين وثمانمائة وأربع وستين هكتارا. ويمتد حد هذا العقار في حال ولوجه من ناحية طبربة مع تخم هندي من غربي القبلة يمتد إلى الجوف الشرقي. ويفصل التخم المذكور بين السواني المشجرة بالعنب التابعة لهنشير « سيدي الشويقي » وبين السواني المغروسة والتي هي على ملك محمد برابه وحمزة الخياط. ثم يتصل الحد المذكور بالطريق المارة الموصلة إلى تونس التي تصبح منتهى الحد من تلك الناحية. ثم يقطع وادي « بوصوره » ويشمل سانية « بوصوره » ثم يرتفع مع أعالي وادي « بوصوره » من الجهة اليسرى وتبازيع الماء التي هناك هي الحد الفاصل بين هنشير الشويقي وهنشير بوغمرين. ويتواصل الحد قواما ويخلّف من غربيه على مسافة مائة متر تقريبا « كدية » عالية تعرف بـ »بوفوار دي بارط ». ثم يمر قليلا مع سبيل ممتد باستقامة إلى أن يتصل برأس الجبل الفاصل بينه وبين هنشير بوعلي. ويتابع الحد إلى أن يتصل بالحافة اليسرى لوادي بوحوالة. ثم يمتد حتى يتصل بـ »حور الجودي » حيث توجد أفران الجير. ثم يتخذ الحد اتجاها جوفي-شرقي إلى حدود السواني المحاذية للطريق المؤدية من طبربة إلى سيدي الشويقي ومن باب قابس إلى أفران الجير حيث يحده هنشير برج التوتة وسواني تابعة للحبس6.

ويمثل هذا المجال جزء من سهول مجردة السفلى. ويعتبر هذا الفحص من أكثر أراضي البلاد خصوبة وذلك بفضل نهر مجردة وروافده التي تشكل ما يقارب عشر الموارد المائية بالبلاد. وتكون هذه السهول وحدة مجالية تشترك في كثير من الخصائص الطبيعية، فهي تتشابه من حيث البنية والتضاريس. وتخترقها نفس السلاسل الجبلية من الناحيتين الشمالية والجنوبية. وتنحصر بينهما مجموعة من الهضاب والربوات القليلة الارتفاع. وتتميّز المنطقة عموما بوسط غريني وتصنّف التربة إلى تربة طينيّة وتربة غرينيّة وتربة طينيّة غرينيّة ذات خصوبة مرتفعة تساعد على استقبال كل أنواع الغراسات والزراعات. أمّا الأمطار فتتوزّع موسميّا ويتراوح معدّلها بين 300 و400 مم/سنة. وتبدأ الأشهر الممطرة من سبتمبر وتتواصل إلى غاية شهر أفريل ويبلغ المعدّل الشهري للتساقطـات بالمنطقة 47.2 مم. ويبلغ معدّل الحرارة في هذه الفترة 20 درجة. وتساعد الأشهر الأولى من السنة على تحضير الزراعات الشتوية والأشهر الصيفية على الجني. وتتغيّر سرعة وقوّة الرياح حسب المواسم، فتهب في الشتاء رياح قوية من الشمال والشمال الغربي. وتسيطر صيفا رياح الجنوب والجنوب الغربي ورياح الشهيلي7.

صورة 1. موقع هنشير سيدي الشويقي

ويختصّ هذا الهنشير بامتداد كبير وأطراف شاسعة. تتوزّع أراضيه بين الحبس والملك الخاص ومالكوه والمنتفعين به كثيرون. يشوبه انحدار من الناحية الغربية إلى الناحية الشرقية. ويقدّر هذا الانخفاض بـ 3 أمتار8. ونتبيّن بالتالي أن الوسط الطبيعي هو الذي حسم إلى حد كبير في أمر هذا الهنشير وتحوّله من مجال زراعي إلى مجال عمراني-ريفي. كما أضفى المركز الاستيطاني بـهنشير « سيدي الشويقي » على المجال المحيط به أهمية قصوى وصيره مجالا « حيويا » مغريا يثير الاهتمام لتتوالى بذلك حركات الاستيطان والتعمير لتعمّ أرجاء فحص مجردة السفلى بأكمله. ويتوسّط هذا الهنشير مدينتي الجديدة وطبربة حيث يبعد حوالي ستة أميال عن الأولى من ناحيتها الجوفية. ويبعد عن الثانية من ناحيتها الغربية بستة أميال. ولكنه ارتبط بمدينة طبربة بصفته جزء مما يعرف بـ « وطن طبربة ». فقد استفاد الهنشير بفعل وجودها كمركز عمراني مشرف تكوّن مع « وطنها » وحدة مجالية متكاملة. ويتأكد ذلك من خلال الكتب الجغرافية والرحلات التي دأبت، حين تعرضها للمدينة، على الحديث عن ظهيرها، بما يدلّل عن وجود نوع من التكامل والارتباط بين المجالين. وقد انعكست هذه الثنائية على طبيعية المجال الزراعي الذي مثل بدوره مجالا « مخضرما » ريفيا-حضريا. ولم تكن هذه المنطقة إلى حدود القرن التاسع عشر سوى منطقة فلاحية ترتع فيها موسميا بعض الفصائل الرحل التي عرفت بممارسة الحل والترحال بين مناطقها الأصلية وبين شمالي البلاد. وكان الهنشير يمثل جهة استقطاب هامة لأغلب الفصائل البدوية نظرا لما يتميّز به من خصب ووفرة للماء والكلأ. وقد دأبت هذه المجموعات على قضاء فصلي الصيف والخريف وجانب من فصل الشتاء بهذه المناطق للمشاركة في موسم الحصاد وجني الزيتون. وكان لهذه المجموعات القبلية دور محوري في الحركية العمرانية التي شهدها الهنشير خلال هذه الفترة.

2. التحولات العقارية والعمرانية بهنشير « سيدي الشويقي » خلال القرن التاسع عشر

1.1. أصول التعمير بهنشير « سيدي الشويقي »: من « توبا » الرومانية إلى الهنشير

تعرف منطقة سهول مجردة السفلى عموما بأنها حاضنة عمرانية منذ الفترة القديمة. ولا يمثل موقع الشويقي استثناء في هذا الصدد. فقد كانت تحتل الموقع مدينة « توبا » الرومانية Thubba. وقد تعرّض لها الجيش الفرنسي في تقريره العام حول المنشآت المائية الرومانية بالبلاد التونسية الذي أتمّه في موفى القرن التاسع عشر والذي نشره بول قوكلار9. وقد تطرّق هذا التقرير إلى وجود صهاريج رومانية الأصل لجمع الماء كانت لا تزال طور الاستخدام. ويذكرها جون بيراس Jean Peyras ضمن قائمة الضياع والمزارع التابعة لريف قرطاج10. كما ذكرت الباحثة نادية فرشيو وجود خرائب لمدافن قديمة في الموقع11.

.صورة 2. هنشير « سيدي الشويقي » خلال الفترة الرومانية
Jean Peyras, 1975, p. 181-222 :المصدر

ويبدو أن هذا الموقع قد أهمل خلال الفترة الوسيطة. وطال الخراب معالمه ومزارعه. وطمست مخلفات الحقبة الرومانية وأعيد المكان إلى البداوة. فلا تمدنا مصادر هذه الفترة بمعطيات تذكر حوله. وتبقى بذلك ملامحه العمرانية غير واضحة كما ينبغي. وممّا لا شك فيه أن خصوبة المنطقة وثرائها دفع السلاطين الحفصيين إلى السيطرة على المجال والاستفادة منه. وهو ما تؤكده لنا بعض المصادر المتأخرة التي تورد أن هذا المجال عموما كان في تصرف « ملوك إفريقية »12. وربما تقاسموا استغلاله مع بعض أهل الحضر من البطانة والوجهاء بنحو غير مباشر عن طريق وكلاء ونظراء. ويبدو أن ذلك كان سببا في تردي البنية العمرانية القديمة بالجهة وتلاشيها وهو ما عمّق حالة التريّف التي ستتواصل على امتداد الفترة الحديثة، حيث تفيدنا وثائق الأرشيف بأن الهنشير لم يكن في أغلبه سوى مجال فلاحي ورعوي يحوي بعض وحدات استغلال وانتاج فلاحي ربما فرضت بعض الاستقرار ولو جزئيا على أرضه. وتعود الإشارات الأولى إلى وجود نواة عمرانية بالمكان إلى منتصف القرن التاسع عشر حيث تمدنا وثيقة الاسترعاء التي أمر بها أحمد باشا باي سنة 1844 بتفاصيل عن بعض ملامحها13. فقد كان الهنشير إبّان التاريخ يضمّ « آبار معينة وعيون » ومباني مخصصة للسكنى وأخرى للاستغلال الفلاحي، وسواني معدة لإنتاج الخضر وأخرى لإنتاج العنب وأراضي للحبوب وأخرى « بيضاء »14 إضافة إلى شعراء وأحراش وغابات جبلية. وكانت به دارا معدة لسكنى صاحب الملك، وفندق يسمى « الفندق الأعلى » يشتمل على اصطبلات تسع خمسين رأسا من الخيل ومائة من البقر وعلى مخازن وأماكن لخدمة أرباب الصنائع وعلى سبعة بيوت و »حوش » للخيل يسع أحد عشر رأسا ومخزنا لحفظ المحاريث وبيتان اثنان لم يذكر النص وجه استغلالها، ونرجح أنها كانت تستخدم لإيواء العمال إن وجدوا. كما يوجد « حوش » آخر يسع مائتي ثور وبه بيتين و »حوش » للبقرات يشتمل على بيت وأربعة اصطبلات تتسع لستة وعشرين بقرة « حلابات » وست وثلاثين « عجلة ». كما نصّت الوثيقة على وجود « برطلان » اثنان يسعان خمسة وأربعين بقرة، بالإضافة إلى « حوش الهلال » الذي يشتمل على محل مسقف يستعمل « لحفظ الفراض من الغنم، وعلى قهوة عربية وعلى اصطبلين لربط احدى وعشرين رأسا من الخيل وعلى خمسة وثلاثين بيتا للخدامه، ومحل يسمى « كشك الجزايرية » يشتمل على ثمانية بيوت » 15.

كما أشارت الوثيقة إلى وجود عدة زراعات وغراسات: « ثلاث سواني مشجرة بالعنب عمر الشجرة من ست إلى اثني عشر عاما، سانية مزروعة بأنواع الخضر، على وادي غبطة أرض مغروسة حوالي من مدة عام أو عامين، على وادي الزيتون ثلاث سواني مغروسة دوالي وسانيتان زيتون، على وادي بوصورة سانية مشجرة بالعنب وغيرها من الأشجار المثمرة (….) وأرض مغروسة بالشجر المسمى « اكليبتوس » وشجر الفلفل، وفي جهات مختلفة أرض مخدومة »16. ويعد ذلك إشارة صريحة إلى وجود نشاط زراعي متنوّع ومتواصل على امتداد السنة ويفترض وجود حد أدنى من اليد العاملة. كما أشارت نفس الوثيقة إلى وجود برج دون أن تتضمّن تفاصيل كافية عن مكونات المبنى وأوصافه. كما لم تذكر تاريخ تشييده ولا من قام بذلك أو من أمر به. ونفترض على ضوء ما توفر لنا من معلومات أن الأميرة « زليخة بية » ابنة حسين باشا باي (1824-1835) هي من قامت ببناء البرج المذكور أثناء فترة امتلاكها للهنشير والتي امتدت من سنة 1271/ 1855 إلى سنة 1288/ 1871. بيد أنه تعيقنا، حاليا، الدلائل المبهمة والمتفرقة والمبتورة التي توردها المصادر المتاحة بالجزم بوجود بنية عمرانية واضحة المعالم إلى حدود هذا التاريخ. كما لا يسعنا أيضا أن ننفي فرضية تجذّر النواة العمرانية المذكورة وامتداد أصولها إلى الفترة الوسيطة.

وعلى وجه العموم، سيطرت على هذا المجال خلال أغلب مراحل الفترة الحديثة الفلاحة الشاسعة التي لا تعتمد نظام المناوبة الزراعية ولا تحتاج إلى مجهود كبير وتقتصر على ترقب الغيث النافع فحسب. كما زادت السباخ المنتشرة في بعض أرجاء الهنشير ومشهد الأحراش المحاذي لها وتواجد بعض المرتفعات الغابية من إبراز حالة الترّيف العميقة التي كان عليها الهنشير إبّان هذه الفترة. وقد أدت الظرفية السياسية والاجتماعية المضطربة في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة أثناء ثورة 1864، إلى تفاقم الصعوبات التي لحقت بالفلاحة وطرق استغلال الأرض، فأتلفت المزروعات وأهلكت الغروس لتزداد بذلك المساحات الجرداء والأراضي البور اتساعا. وقد تركت هذه الظرفية الصعبة آثارها على « هنشير سيدي الشويقي » الذي كان في أغلبه أرض « بيضاء » في ظلّ اقتصار مهمة الوكيل على تفقده من حين لآخر وتحصيل إنتاجه إن وجد أو جمع كرائه من المتسوّغين له دون الاهتمام به مباشرة.

ولم يتجاوز التواجد البشري في الهنشير، باستثناء عدد يسير من العمال القارين فيه، مجرّد الحلول الموسمي لخيام وقطعان بعض القبائل الرحل وشبه الرحل الذين اعتادوا ارتياد المنطقة خلال مواسم الحصاد صيفا وجنيّ الزيتون شتاءا. وقد سعت السلطات الاستعمارية منذ حلولها بالبلاد على تحجيم هذه الظاهرة وتقليصها. فأرست ترسانة من القوانين العقارية حددت بها المجالات الرعوية والأراضي القبلية. كما سنت جملة من القرارات والأوامر تضبط مسار تحرك القبائل الظاعنة17. فتضاءلت بذلك التنقلات الموسمية المعتادة. ثم تلاشت رويدا وريدا ليبدو المشهد العام للمنطقة مغرقا في التريّف والخواء.

ونستشف بذلك أن هنشير « سيدي شويقي » ظلّ خلال أغلب مراحل الفترة الحديثة على هامش الدورة الاقتصادية متأرجحا بين حالتي الاستغلال والاهمال. وقد انعكس ذلك على بنيته العمرانية والمعمارية التي ظلّت غير واضحة المعالم وهشّة عموما. كما لم يتوفر لنا ما يفيد توسّع هذه النواة العمرانية المذكورة إلى حدود انتصاب الحماية الفرنسية والتفويت في هذا الهنشير بالبيع إلى بعض المعمرين الأجانب.

1.2. التدخل الاستعماري وتحوّل البنية العمرانية لهنشير « سيدي الشويقي »: من الهنشير إلى القرية الاستيطانية

عملت السياسة الفرنسية الاستعمارية منذ سنة 1881 وفق استراتيجية مدروسة تهدف لغرس بذور الاستيطان من أجل بسط سيطرتها على المجال حتى يتسنىّ لها اخضاعه ومن ثمة استغلاله. وقد ارتأت اتباع سياسة مرحلية تستجيب لمقتضيات كل فترة. وتجنبها الوقوع ثانية في نفس المصاعب التي واجهتها آنفا أثناء التجربة الاستيطانية بالجزائر. فخلقت مناهج وأدوات ووسائل من أجل تحقيق ذلك، فصاغت لذلك شروطا قانونية ومادية لإضفاء الصبغة الشرعية لهذا الوجود18. ونتج عن ذلك عدة تحولات هيكلية شملت كامل تراب الايالة. وظهرت أولى بوادرها في ريف مدينة تونس مستغلّة أراضي هناشر البايليك ومن ضمنها « هنشير سيدي الشويقي ». ولم تظهر هذه التغيرات دفقة واحدة وإنما تمّت على امتداد أطوار مختلفة. ونرصد في هذا الصدد مرحلتين حاسمتين:

        أ‌- مرحلة الاستعمار الحر وإنشاء النواة الاستيطانية الأولى

عرف الهنشير منذ التفويت فيه سنة 1871 لفرنسي يدعى فوسيي Fossiez واقعا جديدا غيّر من ملامحه الكثير. فقد استقر المالك الجديد مع عائلته في الهنشير وهو ما يؤكد وجود مباني صالحة للسكن ورثها عن المالك القديم. ولم تتوفر لنا معطيات تمكننا من رصد التحولات التي طرأت على الهنشير خلال هذه العشرية. ثم قام ورثته ببيع الهنشير لشركة عقارية سنة 188419 . قامت بتوثيقه بإدارة حفظ الملكية « دفتر خانة » سنة 1888 ليبدأ بذلك تاريخ طويل لهذا الهنشير مع حركة الاستيطان والتعمير. فلقد وجد المستعمر متسعا من الأرض والمجال تمكن من تشكيله وفق مآربه. بيد أن الشركة الاستعمارية المستثمرة لم تتمكن من استغلال ذلك الفضاء الخصب الواسع الامتداد والذي انعدمت فيه أبسط مقومات العمران على أكمل الوجوه دون السعي لتعديله وتطويعه لمتطلبات النشاط الجديد ومستلزماته، سيما وأنه كان فضاءا جغرافيّا بكرا لم يستغل بشكل جيد من قبل، فتعاطي المالكين الأصليين مع المجال كان محتشما ويقتصر على بذر بعض أقسام الهنشير في حين ظلّت المرتفعات والسباخ والغابة التابعة له دون استغلال البتة20.

تعرف الشركة المستغّلة للهنشير بـ « شركة هنشير شويقي ». ترأسها بول لوروا بوليو Paul Leroy Beaulieu. وأشرف على إداراتها المباشرة بول سوقان Paul Seguin. وقد ارتهن تعاملها مع الفضاء وتخطيطها له بمنطق الاستغلال الفلاحي أولا. بيد أن ذلك لم يمنع نشوء بوادر عمران جديد في ذلك المكان المقفر21. وتمثلت أولى تجليّات التعمير الاستيطاني في إنشاء مستغلة فلاحية على أرض الهنشير تقوم على زراعة الكروم وإنتاج الخمور. كما عمدت الشركة إلى استخدام جميع مكونات الموقع القديم. فاستعملت عددا من الصهاريج الرومانية كمخازن. واستعانت بحجارة الموقع الروماني القديم لتشييد المباني الجديدة. وتم اقتلاع عدد من الأعمدة والاحتفاظ بها في برج المكان. واستعملت أيضا ثلاثة آبار رومانية. وركزت مضخة ميكانيكية على أحدها. وكانت هذه الآبار كافية لتزويد الضيعة و »دواوير » العمال المحيطة بها بحاجتهم من الماء. وبلغ سكان الهنشير في هذا التاريخ 93 نسمة يتوزعون كما يلي: 03 فرنسين، 30 ايطاليا، 60 من السكان المحليين وهم جملة العاملين بالهنشير22.

وبلغت مساحة الهنشير، سنة 1901-1902، ثلاثة آلاف هكتار زرعت منها أربعمائة هكتار حبوبا، ومائة وخمسون هكتارا علفا، في حين تم تهجيع ثلاثمائة هكتار. كما ضمت المستغلة قطيعا هاما يتألف من اثنين وسبعين حصانا وبغلا، وأربعين ثورا للحراثة، وخمسمائة خروف « غربي « ، وخمسمائة خروف « تونسي » ومائة وخمسة وستين بقرة. وكان يعمل بالهنشير مائة وخمسين إيطاليا بصفة دائمة ويتمتعون بامتيازات على غرار الاقامة في مساكن توفرها الشركة تقع داخل حدود المستغلة. ويتكوّن باقي العمال من الأهالي والنازحين وبعض المهاجرين الجزائريين والفزانيين الذين يتم تشغيلهم فصلياً وكانوا يعانون من ظروف سكن مزرية ورثّة. فلم يستفيدوا كنظرائهم الأوروبيين من السكن المخصّص للعمال من طرف الشركة وكانوا يقيمون في أكواخ حقيرة وخيام بالية على مقربة من الضيعة23.

وقد تابعت الشركة تعزيز مساحة الهنشير الذي أصبح يبلغ سنة 1911 ستة آلاف هكتارا خصصت منها أربع مائة هكتارا لغراسة العنب. كما ازداد عدد العمال أيضا ليبلغ ثلاثمائة واثنين وتسعين عاملا من جنسيات أوروبية مختلفة مع غلبة واضحة للعنصر الإيطالي24.

وقد انخرطت الشركة المالكة للهنشير في حركة تعميرية حثيثة بهدف إحكام استغلال الهنشير أولا وتحسين ظروف إقامة العمال وحثهم على الاستقرار نهائيا بالمكان. فقامت بتركيز تعاونية للخمور يتمّ فيها عصر العنب وتخزينه. وقد ظهر هذا المعلم منذ نهاية القرن التاسع عشر في لوحة مائية نشرها شارل لالموند في كتابه25. ويتكوّن مبنى المعصرة من قسمين في شكل مستطيل. يستخدم الأول لاستقبال العنب وهرسه وتخميره في سبعة أحواض ضخمة مربعة الشكل ومبنية من الحجارة. وتكسو جدرانها طبقة ملساء من الملاط أحمر اللون. وتنحدر أرضيتها قليلا في اتجاه الشمال. وينتهي كل حوض بماسورة تتصل بقناة تنتهي إلى حوض خارج المبنى يستخدم لتجميع فواضل الترسبات. ويحتوي القسم الثاني على صهاريج طولية برميلية الشكل لتخزين الخمر وحفظه.

صورة 3. النواة الاستيطانية بهنشير « سيدي الشويقي » سنة 1899
Charles Lallemand, La Tunisie pays de protectorat français, Maison Quantin, Paris, 1892, p.228 : المصدر

ويوجد قبالة المعصرة بناء آخر مستطيل الشكل أيضا. يضم مساكن صغيرة متلاصقة كانت تستخدم لإيواء العمال القارين. ويسامته من غربيه مبنى يتكوّن من غرف ذات أقباء نصف برميلية وهي تمثل جزء من الفندق الذي أشارت إليه وثيقة الاسترعاء سنة 1844. وأثبتت تقارير الشركة فيما بعد استعماله لإيواء العمال في بداية استقرارها في الهنشير26. ولم يزد عمران الهنشير عن ذلك خلال هذه المرحلة وإلى موفى سنة 1929 تاريخ انتقال ملكية الهنشير إلى ملك الدولة. وأضحى بمقتضى ذلك تحت نظر الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار والتي ستعمل منذ 1932 على ترسيخ العمران الاستيطاني بالهنشير والذي سيتخذ شكلا رسميا.

        ب‌- مرحلة الاستعمار الرسمي وإنشاء القرية الاستيطانية

وعلى الرغم من التسهيلات الجمة التي حصلت عليها الشركات الاستعمارية وكبار المعمرين خلال هذه المرحلة، فقد وجد أن نظام الاستعمار الحر لم يشجع سوى العدد القليل من الفرنسيين على الهجرة والعمل في المجال الزراعي. وظلّ المجال الريفي خلال هذه الفترة غير مستغل بصفة مباشرة ومكثّفة. وبعد أن تبيّن لها قصور الاستعمار الحر عن بسط هيمنته على المجال، لم تتوانى الإدارة الاستعمارية الفرنسية في مباشرة عملية الاستغلال الاقتصادي والاستيطان بصفة رسمية لتبدأ بذلك فترة جديدة تعرف بفترة الاستعمار الرسمي أو الاستعمار المدعّم. فتنامت حركة التوطين على إثر الحرب العالمية الأولى. وكان تدخل الدولة المباشر يتمّ عن طريق الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار التي كانت تتولى الاشراف على هذه العملية. واستحدثت « مستوطنات » أو بالأحرى قرى استعمارية. وانبثقت من العدم تجمعات سكنية ما فتئت تكبر انطلاقا من عمليات « استنبات » لمزيج من المجموعات الاجتماعية مختلفة الأصول والجذور. كما كان المقصود من هذا التدخّل الرسمي للدولة في مجريات التوطين موازنة العنصر الإيطالي الذي تخطى كثيرا نظيره الفرنسي.

وكانت نتائج مرحلة الاستعمار الحر ضئيلة من الناحية العمرانية بالنسبة لهنشير « سيدي الشويقي ». فلم يكن ذلك من أولويات الشركة. فقد اكتفت باستغلال جزء من الهنشير بصفة مباشرة وسوّغت الباقي. ثم تغيّرت وتيرة استغلال الهنشير منذ تحوّله لملك الدولة الخاص استنادا إلى الأوامر والقرارات الصادرة في هذا الشأن والتي اهتمت بتقنين وتنظيم بيع أراضي ملك الدولة الخاص لفائدة الاستيطان الاستعماري. ونحص » بالذكر أمر 24 جانفي 1914، وأمر 2 جويلية 1923، وأمر 1 جويلية 1924، وأمر 25 أفريل 1927، وقرار 1 أوت 1924، وقرار 10 فيفري 271925.

فتمّ تقسيم الهنشير تحت اشراف الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار سنة 1932 إلى 59 مقسما عمرانيا. ووقع الاحتفاظ بستة منها لإنشاء مباني مدنية28. وانطلقت عملية التفويت في هذه المقاسم وبيعها في 25 أفريل 1932 مع الالتزام بالشروط المقررة في مثل هذه العمليات29. كما قامت الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار بتوطين عدد من المعمرين الأوروبيين أعطيت لهم الأولوية في اختيار المقاسم الخاصة بهم. وقد أمهل المستفيدين مدة سنتين لإنجاز جملة من الأعمال الضرورية للاستقرار. نذكر منها تسييج الأرض بجدار أو بنبات الصبار وإقامة مباني لا تقل قيمتها عن 15000 فرنك. كما منعوا من التصرف في هذه العقارات بالبيع أو الكراء دون إذن الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار ولمدة عشرين عاما30.

.صورة 4. مثال تقسيم هنشير « سيدي الشويقي » سنة 1932

وأدت الحركة العمرانية والبشرية إلى تطور المشهد العقاري بهنشير سيدي الشويقي خلال الفترة الممتدة بين سنتي 1920 و1945. فقد تحوّل ما كان عقارا ذا صبغة فلاحية بالأساس الى قرية استيطانية تامة الملامح تتخلل المسافات الفاصلة بينها الملكيات الفلاحية والضياع الخاصة31. وقد شكّلت اليد العاملة القارة والموسمية النواة الأولى لمسار التمركز والتوطن السكّاني في هذا الهنشير. وقد حصل الأوروبيون العاملون بشركة الخمور على أهم المقاسم الواقعة في محيط مركز القرية. وقد أحصيناهم في الجدول التالي:

5
صورة 5. محاور القرية الرئيسية وأقسامها

واتخذت القرية المستحدثة نمطا مختلفا لا يشبه كثيرا القرية الأوروبيّة وهو شكل أملته خصائص الموقع الطبوغرافية ومخلفات مرحلة الاستيطان الحر التي لم تخضع لمثال مسبق وتحتم على الادارة الاستعمارية فيما بعد مراعاة ذلك. فاستقرّ مركز القرية الجديد على مقربة من شركة الخمور وغير بعيد عن زاوية « سيدي الشويقي » أي على أطلال الموقع القديم « توبا ». وشكّلت الطريق الرابطة بين هضبة الكنيسة وأسفل هضبة زاوية « سيدي الشويقي » والتي تتقاطع مع الطريق المؤدية شمالا لجهة ماطر وجنوبا لمدينة طبربة، المحور الرئيسي للقرية الاستعمارية المستحدثة. كما شكل المسلك الرابط بين شركة الخمور وزاوية الشويقي المحور الثاني الذي قسّم مركز القرية إلى أربعة أقسام رئيسية.

ثم تراصفت المساكن على طوله وفي كلتا الجهتين مشكلة بذلك بنية عمرانية أفقية مستقيمة. ثم تتوزّع المسالك المؤدية لمختلف أرجاء الهنشير حيث انتشرت الضيعات الخاصة. وقد احتوى مركز قرية الشويقي بالإضافة إلى مقر الشركة المستغلة للهنشير ومخازن الخمور، مركز بريد وتلغراف ومركز طبي يشرف عليه الطبيب المسمى Chomienne ومدرسة مختلطة ومجانية يديرها المدعو Menneteau ومركز جندرمة ومطعم. وبلغ عدد سكانه 516 يعمل أغلبهم بالشركة.

.صورة 6. مكونات مركز قرية « سيدي الشويقي » (شركة الخمور، الكنيسة، زاوية « سيدي الشويقي والمقبرة)

ولا تزال المنطقة تحتفظ بعدد من الضيعات في طور الاستغلال على غرار ضيعة المعمر روجوري ROGERET، ودي تراباني DI TRAPANI وسيراكوزا SIRACUSA وضيعة المشرف الإداري على الشركة بول سوقان SEGUIN وهي الأقدم في المنطقة. وتقع هذه الضيعة على الطريق التي تصل مدينة تونس وطبربة بجهة ماطر. وتتفرع عنها على مستوى مفرق القرية مسالك فرعية تربط منطقة الشويقي بجهة الجديدة وشواط التي ترتبط بدورها بطريق غار الملح وبنزرت. ومن الناحية الشمالية الشرقية نجد طريق تصلها بعين ترقلاّش وبرج حبيب ومنها إلى قرعة المبطوحة فمنزل راشد وبنزرت. كما تصل الطريق المتجهة غربا، والتي تمر بضيعة المعمّر روجوري ROGERET، بمنطقة برج العامري لتتصل فيما يليه بكامل الجهة الشمالية الغربية.

.صورة 7 و 8. موقع ضيعة بول سوقان والطرق والمسالك المتصلة

ثم اتسع هذا العمران مماّ فرض ربط هذا المركز العمراني الناشئ بالمدينة بشبكة من الطرقات بالإضافة إلى إحداث هياكل إدارية لمتابعة شؤون هذه القرية. كما كان ذلك دافعا للاهتمام بمشروعات الري للتكثيف الزراعة في هذا الريف الخصب والممتد على مقربة من وادي مجردة. وتمّ في هذا الإطار شق الترع وإقامة الجسور وتهيئة المعابر والقنوات. وقد كانت خدمة نقل بالعربات متوفرة بين مركز الهنشير ومدينة طبربة بمعدل رحلتين في اليوم32.

.صورة 9. مخطط ضيعة بول سوقان

الخاتمة

نتبيّن من خلال هذا البحث حول مرحلة مركزية من مراحل تشكل التوطن الحضري بريف مدينة تونس خلال الفترة الحديثة والحقبة الاستعمارية، بأن جملة التحولات الهيكلية التي مسّت هذا المجال الجغرافي نجمت عن قوة الحضور الاستعماري المرتبط بالاستغلال الزراعي والذي يبرز جليا من خلال متابعة توزيع مراكز القرى الاستعمارية بريف مدينة تونس. وتعكس التوسعات العمرانية التي شهدها التجمع السكاني المستحدث بالشويقي نتيجة تظافر عدة عوامل اقتصادية وبشرية في أن واحد والتي أدت إلى بروز أشكال عمرانية مختلفة، أهمية التدخل الرسمي للدولة في مجال التوطين والعمران خلال الفترة الاستعمارية.

ويمكن حصر التوسع العمراني للهنشير في مرحلتين:

       • بدأت المرحلة الأولى سنة 1888 وتواصلت إلى حدود سنة 1929. اتبعت الشركة الفلاحية خلالها حركة إعمار وتعمير استمرت زهاء نصف قرن وفق وتيرة غير مستقرة ومتغيّرة في أغلب الأحيان على حسب معايير وقواعد تتماشى ومصلحة الشركة. ولم تكن نتائج هذه المرحلة ذات أهمية على مستوى التوطين والعمران. كما كان التوسع العمراني غير مخطط له. وتألّفت عناصره بطريقة تراكمية بطيئة وشحيحة وفي اتجاهات غير محددة. فلم تتغيّر ملامح الهنشير خلالها كثيرا عمّا كان خلال أواسط وموفى القرن التاسع عشر.

       • وتلتها المرحلة الثانية سنة 1932، حيث بدأ رسميا تقسيم الهنشير وتعميره تحت إشراف الدولة عن طريق الإدارة العامة للفلاحة والتجارة والاستعمار. وتواصلت هذه المرحلة بنفس الوتيرة تقريبا إلى حدود سنة 1945. وانتشرت خلالها في أرجاء الهنشير ضيعات استعمارية متفاوتة الأهمية والحجم كان أغلب مالكوها عمال بالشركة المالكة. وإن أفرزت انبثاق تجمعات سكانية من العدم، ولئن نجحت في إرساء النواة الأولى لمراكز سكانية هامة بحكم ما ترتّب عنها من حركة نزوح مكثفة باتجاه الهنشير نظرا للتسهيلات الكبيرة التي منحتها الادارة الاستعمارية لصغار المهاجرين الفرنسيين والأوروبيين وحركة التشييد التي قامت بها الشركة الاستعمارية المستغلة للهناشر، إلا أن هذا المركز لم يتسنّ له الارتقاء إلى صفّ المدن وظلّ إلى موفى الفترة الاستعمارية مجرد قرية استعمارية صغيرة تعرف أكثر باسم « الدشرة ».

الهوامش

1 Beya Abidi-Belhadj, 2016, p. 217-232.

2 اختبار معاينة.
3 المقصود بها الباي.
4 أرشيف الملكية العقارية، ملف 9. وأ.و.ت.، س. د، ص. 73، م. 4.
5 أرشيف الملكية العقارية، ملف 9. وأ.و.ت.، س. د، ص. 73، م. 4.
6 أرشيف الملكية العقارية، ملف 9.
7 محمد القاسمي، 1987، ص. 13.
8 أ. و. ت.، س. د، ص. 73، م. 4، و. 60.

9 Gauckler Paul, 1899, p. 66.
10 Jean Peyras, 1975, p. 181-222.
Leroy-Beaulieu, Paul, 1911, p. 402-3.
11 Naïdé Ferchiou, 1987, p. 13-69.

12 أرشيف الملكية العقارية، ملف 9. و أ.و.ت.، س. د، ص. 73، م. 4.
13 أرشيف الملكية العقارية، ملف عدد 9.
14 وصف يطلق على الأراضي البور.
15 أرشيف الملكية العقارية، ملف عدد 9.
16 أرشيف الملكية العقارية، ملف عدد 9.


17 Marouane Lajili, 2010, p. 113-133.
18 Marouane Lajili, 2010, p. 69-90.
19 François Dornier, 2000, p. 377.
20 Marcel Larnaude, 1925, p. 560-563.

21 أرشيف الملكية العقارية، ملف عدد 9.

22 P. De Beaumont (dir.), Bulletin annuel de l’Association des colons de la région de Tebourba, imprimerie de l’Association Ouvrière, Tunis, 1902.
23 Bulletin annuel de l’Association des colons de la région de Tebourba, sous la direction de P. De Beaumont, imprimerie de l’Association Ouvrière, Tunis, 1902.
24 François Dornier, 2000, p. 377.
25 Charles Lallemand, 2000, p.36.
26 P. De Beaumont (dir.), Bulletin annuel de l’Association des colons de la région de Tebourba, imprimerie de l’Association Ouvrière, Tunis, 1902.
27 Marouane Lajili, 2010, p. 183.

28 أ.و.ت.، س. E، ص. 252، م. 6.
29 الرائد الرسمي 25 مارس 1932.
30 أ.و.ت.، س. E، ص. 252، م. 6.

31 Beya Abidi-Belhadj, 2014, p.11-32.
32 P. De Beaumont (dir.), Bulletin annuel de l’Association des colons de la région de Tebourba, imprimerie de l’Association Ouvrière, Tunis, 1902.

المصادر والمراجع

الأرشيف الوطني التونسي:

– السلسلة « د »، صندوق 73، ملف 4.

– السلسلة » E » ، صندوق 252، ملف 6.

– أرشيف الملكية العقارية، ملف 9.

Ammar Leila (dir.), 2011, Formes urbaines et architectures au Maghreb aux XIXe et XXe siècle, CPU, Tunis, 2011.

Abidi-Belhadj Beya,
– 2014, « Chaouat : mutation de la campagne tunisienne à l’époque coloniale », in Rawafed, n°19, p.11-32.
– 2016, « Henchir Djedeïda aux XIXe-XXe siècles : enjeux fonciers et mutations urbaines à l’époque coloniale », Al-Sabîl : Revue d’Histoire, d’Archéologie et d’Architecture Maghrébines [En ligne], n°1. URL : http://www.al-sabil.tn/?p=1944

De Beaumont P. (dir.), 1902, Bulletin annuel de l’Association des colons de la région de Tebourba, imprimerie de l’Association Ouvrière, Tunis.

Decker-David, 1912, Rapport générale de la Commission d’amélioration de l’agriculture indigène, Saliba & fils éditeurs, Tunis.

Dornier François, 2000, Les catholiques en Tunisie au fil des jours, Imprimerie Finzi, Tunis.

Ferchiou Naïdé, 1987, « Le paysage funéraire pré-romain dans deux régions céréalières de Tunisie antique (Fahs-bou Arada et Tebourba-Mateur) : Les tombeaux monumentaux », Antiquités africaines, Volume 23, Numéro 1, p. 13-69.

Gauckler Paul, 1897-1901, Enquête sur les installations hydrauliques romaines en Tunisie, Impr. rapide, Tunis.

Samaali Hamouda, 2011, Etudes de l’évolution de l’occupation et de l’utilisation du sol dans le delta de Medjerda par télédétection et systèmes d’informations géographiques, thèse de doctorat, Faculté des sciences humaines et sociales, Tunis.

Lallemand Charles, 1892, La Tunisie pays de protectorat français, Maison Quantin, Paris.

Lajili Marouane, 2010, La législation coloniale française en matière de domaine de l’Etat en Tunisie 1881-1956, Tunis.

Larnaude Marcel, 1925, « L’habitation rurale des indigènes en Tunisie (faite par ordre Lucien Saint, résident général de France à Tunis) », Annales de Géographie, Volume 34, Numéro 192, p. 560-563.

Leroy Beaulieu Paul, 1911. Reprint 2013, L’Algérie et la Tunisie, London : Forgotten Books.

Peyras Jean, 1975, « Le Fundus aufidianus : étude d’un grand domaine romain de la région de Mateur (Tunisie du Nord) », Antiquités africaines, Volume 9, Numéro 1, p. 181-222.

Sethoum Hafedh, 1992, Pouvoir urbain et paysannerie en Tunisie, Editions CERES, production FNRS.

الكاتب

بية عبيدي بالحاج

أستاذ مساعد بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، مخبر الآثار والعمارة المغاربية-جامعة منوبة.

Retour en haut