Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

Numéros en texte
intégral

Numéro 17

2024 | 17

معطيات أثرية وهندسية جديدة حول قناة جلب المياه زغـوان- قرطاجة وروافدها

منية عديلي

الفهرس

الملخّص

لا مراء في أنّ المركّب المائي زغوان - قرطاجة، قد كان من بين أهم المعالم المائية خلال الفترة القديمة لا على مستوى شمال افريقيا فقط انما على مستوى المجال الروماني القديم، فإضافة إلى تعدد المنابع التي تزود القناة بالماء وطول المسافة التي تعبرها، يتميز هذا المعلم بأضخم وأطول جسر مائي بقناطر مركبة وهو الذي يشق سهول أريانة وسكرة، غير أنّ هذا الجزء من المعلم على أهميته الهندسية و إعجاب مستكشفي خرائب قرطاجة به خلال الفترة الوسيطة وكذلك الحديثة لم يحظ بعد تخريبه وطمس ملامحه بدراسة علمية دقيقة وشاملة تسمح بالتعرّف على أغلب مكوّناته الهندسية و المعمارية وتسمح بالتعريف به. وتأتي هذه الدراسة لتقدم لمحة عامة عن المسار العام لشبكة القنوات المائية وكذلك لعرض الاكتشافات الأثرية الجديدة والمعطيات بالوثائق التاريخية التي توصّلنا إليها بخصوص الجسر الذي يشق سهول أريانة وسكرة والذي أطلقنا عليه اسم "الجسر المائي الكبير".

الكلمات المفاتيح

قناطر- الحنايا - معبد المياه – سكرة - قرطاجة.

Résumé

L’aqueduc romain de Zaghouan-Carthage est le plus imposant ouvrage hydraulique antique en Tunisie, et l’un des plus importants dans l’Empire romain. Outre le nombre important de sources d’eau captées et la longueur de son parcours, l’aqueduc se distingue par l’architecture de ses ouvrages d’art, notamment le pont-aqueduc à deux étages, qui traversait les plaines de L’Ariana et de La Soukra. L’architecture impressionnante de ce pont-aqueduc a fait le plaisir du regard des géographes arabes qui avaient visité les ruines de Carthage à l’époque médiévale et a attiré l’attention des visiteurs et des historiens pendant la période moderne. Mais, à cause de sa destruction, ce pont tomba dans l’oubli et il est resté jusqu’ici peu connu, malgré qu’il soit le plus proche de Carthage. Dans le présent travail, nous donnerons un aperçu du tracé général de l’aqueduc de Zaghouan-Carthage tout en portant un intérêt particulier au « Grand pont-aqueduc » dans les plaines de L’Ariana et de La Soukra ; nous présenterons les résultats de nos recherches, qui ont permis d’ajouter de nouvelles données archéologiques et historiques au dossier scientifique de cet ouvrage d’art.

Mots clés

pont-aqueduc - temple des eaux –source - La Soukra – Carthage.

Abstract

The Zaghouan-Carthage Roman Aqueduct is considered one of the most important ancient water works in Tunisia, and as one of the most important in the Roman Empire. In addition to the large number of collected water sources and the long route of the transportation system, the canal is distinguished by the architecture of some of its parts, especially the canal bridge with compound arches that crosses the plains of L’Ariana and La Soukra. The dazzling architecture of this bridge delighted the eyes of Arab geographers who visited the ruins of Carthage in the medieval period and attracted the attention of visitors and historians in the modern era. But due to its destruction, this bridge fell into oblivion, and remains unknown until now despite being the closest to Carthage. In this work, we will give an overview of the general route of the Zaghouan-Carthage Canal with special attention to the Grand Bridge Canal in the plains of L’Ariana and La Soukra; we will present the results of our research, which made it possible to add new archaeological and historical data to the file of this large water bridge.

Keywords

aqueduct - bridge-aqueduct - Carthage- La Soukra

المرجع لذكر المقال

منية عديلي، « معطيات أثرية وهندسية جديدة حول قناة جلب المياه زغـوان- قرطاجة وروافدها »، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 17، سنة 2024.

URL : https://al-sabil.tn/?p=14273

نص المقال

المقدمة

تذكر الدراسات أنّ الإمبراطور الروماني هدريانوس حين زار قرطاجة الرومانية سنة 128 بعد الميلاد، وجد أهلها يشكون شحّ الماء وندرته فأمر بعض مرافقيه بالبحث عن عيون بعيدة يمكن من خلالها تزويد المدينة بالماء على غرار مدينة روما. فقادتهم رحلة البحث عن تلك العيون المتفجرة والمياه المتدفقة إلى زغوان، وهي مدينة تقع على مسافة حوالي 60 كم جنوب قرطاجة. ومن هناك، شيّدوا بالحجارة الكبيرة والصغيرة قناة تمتدّ على طول 132 كم ينساب فيها ماء زلالا حتى يصل إلى المدينة. ظلّت مياه زغوان تطفأ ظمأ سكان قرطاجة الرومانية طيلة قرون، وأضحى المعلم المائي الناقل للمياه رمزًا من رموز الحياة فيها وسببًا من أسباب قوّتها ومنعتها. لذلك، كانت قناتها هدفًا لأعداء المدينة كلّما نشبت حربا أو استهدفتها غارة. وحتى بعد أفول نجمها، ظلّت هياكل البنيان أو الحنايا التي كانت تحمل القناة تشهد على عبقرية الإنسان التي تخترق الزمن وقدرته على مغالبة الطبيعة، تثير إعجاب الرحالة والجغرافيين. ولا زال هذا المعلم إلى اليوم يشدّ إليه انتباه المسافرين ويثير فضول كلّ من رآه. ومع هذا، فإنّ هذا الأثر المائي لم يلق من الدراسات بقدر ما لقيه من اهتمام الناس به وإعجابهم. إذ لا يوجد إلى حدّ يوم الناس هذا دراسة علمية تسلّط الضوء على مختلف جوانبه التاريخية والتقنية والهندسية والقانونية. كما أنّ المعلومات التي وفّرتها الدراسات العلمية غير كافية حوله، لأنها في نظرنا تبقى مجزّأة إذ غالبًا ما يقع التركيز على قسم من المعلم دون غيره من المكوّنات و لو أنّ المنبع و بالخصوص معبد المياه قد كان لهما الحظّ الأوفر رغم أنّ هذا الأخير لا يمثّل الجزء الأهم من الناحية الهندسية1.

وتأتي هذه الدراسة لعرض مختلف نتائج المسح الميداني والاكتشافات الجديدة التي توصّلنا إليها بخصوص المسار العام لشبكة القنوات المائية التي كانت تزود عبر نظام مائي واحد مدينة قرطاجة الرومانية بالمياه العذبة. وسيقع التركيز خلالها على الجزء الأخير من مسار القناة الممتد على المجال الواقع بين منطقة رأس الطابية وموقع قرطاجة. وذلك استنادًا إلى المعطيات الأثرية والتاريخية التي وردت بمصادر العصرين الوسيط والحديث.

1. لمحة عامة عن المنبع المتشعب لقناة جلب المياه زغوان-قرطاجة

قادت رحلة البحث عن الماء المكتشفين الى السفح الشمالي لجبل زغوان2 حيث عين الماء العذبة المعروفة برأس العين. وهي نبع يقع على ارتفاع 295 م أُقيم حوله معلما ضخما يعرف بمعبد المياه (صورة 1) تودّدًا لها وطمعا في تواصل عطاءها. ويتخذ هذا المعلم شكل نصف دائرة يتخلّله رواقان جانبيان تتوسطهما في العمق غرفة صغيرة أعدت للحوريات (كائنات أسطورية تشرف على حماية المجاري المائية في الميثيولوجيا اليونانية والرومانية)3. وتطل ساحة المعبد التي تفصل الرواقين على حوض ماء يؤكّد الخصوصية المائية للمبنى و يتم الوصول إليها عبر مدرجين جانبيين4. ومن هذا الموضع، ابتدأ إنشاء القسم الرئيسي لقناة جلب المياه التي ستغذي مدينة قرطاجة الرومانية المطلة على البحر لكنها جافة. ولمّا كان للماء قداسة لدى الرومان حتى وإن لم يكن وليد الحاجة إليه، فإنّهم لم يكتفوا بماء عين واحدة وبحثوا في المناطق المجاورة عن عيون أخرى متفرقة وشيّدوا قنوات محكمة البناء ينساب فيها الماء حتى يصل إلى القسم الرئيسي (صورة 2). فغير بعيد عن معبد المياه، تم جلب مياه عــين عياد. كما توجّهوا جنوبًا في رحلة اختيار جديدة كانت نتيجتها انتقاء عين جوقار وهي عين متدفقة لا تقل وفرة عن منبع رأس العين، فأحاطوها ببناء وجعلوا مياهها تسري في قناة مبنية بالحجارة تتجه ناحية الشمال الشرقي لتلتقي بعد مسافة قصيرة بالماء النابع من عين بنت سعيدان التي بُني لها رافد حجري صغير لا يتجاوز طوله 200 م مزود بخزان تصفية5.

ومن هذا الموضع، ينساب ماء المنبعين في قناة واحدة تقترن بعد حوالي 33 كم بالقناة المتأتية من معبد المياه، ثمّ يتّخذ الماء سبيله عبر الحنايا المعروفة منذ الفترة الوسيطة بـ"حنايا قرطاجة" (صورة 2). وقد أسفراقتران القناتين، عن بروز اسم "مـقرن" الذي ظلّ راسخًا في الذاكرة الجماعية ويشمل اليوم منطقة شاسعة بولاية زغوان. وعلى بعد بعض الكيلومترات شمال موضع مقرن، ترتبط الحنايا بقناة جديدة تجلب الماء من منبع "عـيـن الجور". وهكذا اجتمعت مياه العيون الخمسة وتدفقت داخل قناة مبنية بالحجارة ومجهّزة من الداخل بميلاط عازل للماء. وهي تتبع مسارًا متعرّجًا أحيانا ومستويًا أحيانا أخرى، يتغيّر بتغيّر طبوغرافية المجال الذي تعبره مع المحافظة دائما على سرعة جريان الماء داخلها فنجدها تعبر المجال السهلي على سطح الأرض مباشرة أو على عقود صغيرة وقد يرتفع بنيانها في بعض المواضع وتحتجب تحت الأرض أحيانًا.

.صورة 1. السفح الشمالي لجبل زغوان: معبد المياه بزغوان
.المصدر : صورة الكاتبة

2. المسار العام للقناة الرومانية زغوان- قرطاجة

تقع زغوان على بعد حوالي 60 كلم عن مدينة قرطاجة، لكن وفقا للقانون الهندسي المعتمد عند نقل المياه في القنوات المبنية والذي تحدث عنه في القرن الأول قبل الميلاد المهندس الروماني فيتروفيوس6، فإنّ مسار القناة يجب أن يكون أطول و لذلك بلغ امتداده مسافة حوالي 132 كم. وهذا الإجراء يضمن تعديل سرعة جريان المياه المنقولة تجنّبًا لتفجر هيكل البناء بسبب قوّة الدفع وكذلك تفاديا لتكدّس الترسبات عند الجريان البطيء (صورة 2). فمسار الحنايا ينطلق من ولاية زغوان باتجاه ولاية بن عروس ثمّ يمتدّ عبر ولاية تونس ومنوبة ثمّ أريانة، قبل أن يعود مجدّدا إلى ولاية تونس حتى يبلغ موقع مدينة قرطاجة. وعلى طول هذا المسار، تمّت تجزئة المعلم وفق التقسيم الإداري للبلاد التونسية وأخذ كلّ جزء من الأجزاء الأكثر حفظًا اسم المجال الذي يمتدّ عليه سواء بالمجال الريفي أو الحضري. ولنا فيما يلي ونحن نتتبع المسار أمثلة عن ذلك.

.صورة 2. مسار قناة جلب المياه زغوان - قرطاجة وروافدها
.المصدر : رسم الكاتبة

1.2. القناة الرومانية زغوان - قرطاجة بولاية بن عروس : حنايا المحمدية

كانت المحمدية تعرف خلال الفترة القديمة باسم " تيميداريجيا"(Thimida Regia)7، ثمّ حرّفت التسمية خلال العصر الوسيط إلى " طنبذة " قبل أن تبرز تسمية المحمدية في الفترة الزيرية8. وهي تشتمل على نواة حضرية يطوقها حزام ريفي تمتدّ على قسم من مجاله الحنايا في خطّ مستقيم من الجنوب إلى الشمال على طول حوالي 20 كم. وللحفاظ على منحدر ثابت للقناة وضمان سيلان المياه بسرعة ثابتة و متساوية، تمّ تكييف هياكل الحنايا مع الخصائص الطبوغرافية المميزة لهذه المنطقة والتي تغلب عليها السهول الممتدّة على ضفّتي وادي مليان9 وبعض المرتفعات الجبلية التي لا يتجاوز ارتفاعها 250 م .وقد اتسم مظهر الحنايا نتيجة لهذه الضرورة، بالعلو و الضخامة و الجمال في بعض المواضع. وتعتبر قنطرة المبنى الواقعة على وادي مليان، الجزء الأكثر ارتفاعًا حيث يبلغ علوّها 34 م ويمتدّ طولها على 126 م. وقد بُنيت دعاماتها في البداية بالحجارة المقولبة كما بنيت القناة المسقوفة بقبو طولي، بحجارة صغيرة متقاربة الحجم ومرصوفة أفقيا. لكنّ عمليات الإصلاح والترميم التي طالت هذا المعلم منذ الفترة الفاطمية وحتى خلال الفترة المعاصرة من أجل إعادة استغلاله، قد جعلت مكوّنات الجدران غير متجانسة (صورة 3).

.صورة 3. قناة جلب المياه زغوان - قرطاجة بالمحمدية
.المصدر : صورة الكاتبة

يجرّنا الحديث عن حنايا المحمدية إلى العودة على الأهمية التي كان الرومان يولونها للمياه. ففي هذه المنطقة من ولاية بن عروس بحث علماء الهندسة والماء عن منابع إضافية يمكنها أن تغذي مجرى القناة الرئيسية. وقد وجدوا هذا الرافد في عين سيغلَ (Aïn Sigal) الواقعة على ارتفاع 191 م عند السفح الشمالي لهضبة سيدي بوحجبة. وجعلوا له قناة يمتدّ مسارها على حوالي 4.5 كم، حسب الخرائط الأثرية في نهاية القرن التاسع عشر. و لم تضف دراسة لويس موران (Louis Maurin) لهذا المعلم في أواخر القرن العشرين معطيات جديدة باستثناء الوصف المقتضب لبعض المكوّنات المعمارية التي عثر عليها في محيطه10. بعض الإضافات جاءت أيضا من خلال الدراسة التي قدّمتها الباحثة الراحلة نايدي فرشيو حول منابع مياه قناة زغوان-قرطاجة و أفردت فيها قسمًا لقناة "عـين سيغل"11. وفي إطار عملية التوثيق والتدقيق الميداني لمسار هذا الرافد من المنبع إلى المصب والتي قمنا بها خلال سنة 2021، لاحظنا أن ملامح المبنى الروماني حول المنبع قد اضمحلت نتيجة بناء محطة الضخّ المائي الحالية. أمّا القناة، فقد تضرّرت بسبب الإهمال وفقدت بعض أجزائها لاسيما بفعل الأنشطة الفلاحية وأعمال التجهيزات العامة مثل الطرقات وغيرها. ولم يبق من مآثر الهيكل القديم سوى أجزاء متفرقة تشهد عن كونها كانت قناة متوسطة الحجم يصل عرضها إلى0.45 م ويزيد ارتفاعها عن 0.30 م محمولة أحيانا على جدار قليل الارتفاع مشيّد بالحجارة الصغيرة (صورة 4).

.صورة 4. بعض من بقايا القناة التي كانت تنقل مياه عين سيغل
.المصدر : صورة الكاتبة

أمّا القناة الرئيسية فقد تواصل مسارها باتجاه الشمال مرورًا بمدينة المحمدية ثم منطقتي برين والعطار وصولاً إلى سيدي حسين. وعلى طول هذا المسار، ينخفض ارتفاع القناة أحيانا ويرتفع أحيانا أخرى فنجدها محمولة على جدران أودعامات غير مرتفعة وقد تختفي تحت الأرض في بعض المواضع حتى أنه لا يمكن تتبعها إلّا عبر أثر علو قبوها أو عبر الفوهات المتعددة والمتتالية به (صورة 5) والتي هي مكوّنًا من مكوّناتها الهندسية الأصلية12.

(أ)
(ب)
.صورة 5. (أ): القناة من الداخل، (ب): فوهة القناة
.المصدر : صورة الكاتبة

2.2. القناة الرومانية زغوان قرطاجة بولاية منوبة: حنايا وادي الليل

لعل أوّل ما يشدّ الانتباه عند دخول مدينة وادي الليل من جهة صنهاجة بولاية منوبة، هي الهياكل الأثرية لقناة جلب المياه التي استعارت اسم المدينة لتصبح " حنايا وادي الليل". ويمتدّ مسار هذه الحنايا في اتجاه الشمال، حيث تتوالى الدعامات المتوجة بعقود ترفع القناة التي تعبر مدينة وادي الليل في شموخ. في هذه المنطقة، يمكن الوقوف على ملامح الحنايا وقراءة تاريخها دون عناء لأنّ العديد من أجزائها الأصلية لازالت حالتها الإنشائية سليمة وحتى الأقسام التي تمّ إصلاحها تبدو كأنّها تتباهى بجمال بنائها المرصوف بعناية ودقة (صورة 6).

ومع ذلك، فإنّ أجزاء كثيرة قد طالتها أيادي العابثين وفعل الزمن حتى بدت مهترئة وواهنة. وهذه الأجزاء التي سُلبت منها حجارتها الكبيرة و نقلت لغاية تشييد معالم مدينة تونس خلال العصر الوسيط و قصور منوبة خلال الفترة الحديثة، هي اليوم هياكل تستجدي الترميم وهي ترمق غير بعيد نحو الشمال سلسلة الدعامات الشامخة والأكثر ارتفاعا التي أعيدت لها الحياة في زمن المستنصر بالله الحفصي (1228- 1249م)13.

لكن حنايا وادي الليل التي أحاطت بها البناءات، أصبحت مهدّدة في جزء كبير منها بالاندثار كما اندثر الجزء الذي كان يربط بين وادي الليل وأريانة مرورا بحي التضامن والمنيهلة وباردو 2 في المواضع الذي يحتلّه اليوم المبيت الجامعي والمنطقة العسكرية برأس الطابية. في هذه المناطق، لا تبرز الشواهد الأثرية إلّا في الأراضي الفلاحية المنبسطة الممتدّة بين وادي الليل وحي التضامن. وقد عثرنا على بعض الأجزاء المتفرقة من هذه القناة خلال أعمال المسح الميداني التي قمنا بها سنة 2010، لكنّها مطمورة تحت الأرض ولا يبرز منها إلّا قبوها الطولي(صورة 7) المزود بمنافذ تهوئة اسطوانية الشكل.

.صورة 6. الحنايا بوادي الليل
.المصدر : صورة الكاتبة
.صورة 7. أثر قناة زغوان- قرطاجة بين وادي الليل وحي التضامن
.المصدر : صورة ورسم الكاتبة

عند السفح الجنوب الشرقي لجبل عمار، يوجد رافد آخرمن روافد قناة جلب المياه زغوان -قرطاجة. وتمتد قناة هذا الرافد حسب المسار المحدّد بالأطلس الأثري للبلاد التونسية14، والذي ينص على أنها تحت الأرض، على مسافة حوالي 1 كم من الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي إلى أن تلتقي بالقناة الرئيسية في نقطة قد تكون على ارتفاع 60 م على مستوى سطح البحر. ولم تسفر أعمال المسح الميداني لهذه المنطقة، التي لا زال جزء منها فلاحي والجزء الآخر قد اكتسحته المباني الحديثة، عن بقايا أثرية لهذه القناة رغم حضورها في ذاكرة بعض الذين سألناهم وذكروا أنّها قناة كبيرة الحجم مبنية بالحجارة.

3.2. القناة الرومانية زغوان-قرطاجة الممتدة بين رأس الطابية وأريانة

يتواصل امتداد مسار القناة من جبل عمار باتجاه قرطاجة متبعًا طبوغرافية المجال الذي يخترقه. وقد حدّد الأطلس الأثري للبلاد التونسية المواضع التي يمرّ عبرها وضبطها وفق رفوعات طبوغرافية مرفوقة بمخطّط بياني. وتظهر الحنايا في هذا المخطّط وهي تتجه ناحية الجنوب الشرقي وصولا إلى باردو 2 حيث موضع الحي الجامعي ثم تتجه شرقا مع بعض الانعطافات وصولا إلى رأس الطابية. ولئن لم تتوفر لدينا معطيات حول المكوّنات الإنشائية لهذا الجزء من القناة، فإنّ الاعتماد على المعطيات الواردة بالخرائط الطبوغرافية قد يفيدنا في توضيح الصورة. فمنطقة باردو2 ورأس الطابية تعتبر منطقة انخفاض طبوغرافي مقارنة بالمجال السابق الذي يصل فيه الارتفاع إلى 60 م وكذلك اللاحق الذي يبلغ فيه الارتفاع 66 م، إذ لا يتجاوز أعلى ارتفاع بها إلى 45 م على مستوى سطح البحر. وهي مؤشّرات تؤكّد أنّ هذا الجزء من القناة كان محمولًا على دعامات وعقود على امتداد مسافة تقارب 6 كم.

بعد اجتياز موضع رأس الطابية، يختفي مسار القناة ليبرز ثانية بجهة المنزه التاسع و من هناك يتجه شمالًا ثمّ ينعطف بعد حوالي 2 كم ناحية حي النصر15 مرورا بالمنزه السابع (صورة 8 و9) قبل أن يأخذ منعطفا جديدًا باتجاه المنزه الثامن على مقربة من المعهد النموذجي16. ومع أنّنا لا نمتلك معطيات حول تقنية بناء هذا الجزء من القناة الذي يمتد على مسافة حوالي 4 كم، إلّا أنّ ما يمكن ملاحظته هو أنّه كان يتبع مسارا جبليا على ارتفاع يتراوح بين 66 و56 م. وهو في اعتقادنا اختيار يرتبط أساسًا بالخصائص الطبوغرافية والجيولوجية للمجال الواقع بين رأس الطابية وقرطاجة وكذلك بمسألة سيلان الماء داخل الساقية. ففي هذا المجال، توجد بحيرة تونس التي تمثّل عائقًا طبيعيًا يمنع مرور القناة، كما أنّ امتداد المنخفضات على طول المسافة الفاصلة بين رأس الطابية وقرطاجة (حوالي 17 كم) والتي تصل أحيانًا إلى مستوى 1 م فقط، باستثناء هضاب الجبل الأحمر، وكذلك ارتفاع مستوى موقع خزانات المعلقة بقرطاجة (30 م)، يفرض بالضرورة تركيز دعامات وقناطر بارتفاع يزيد عن 20 م. ومن جهة ثانية، فإنّ التربة الرملية وقرب المائدة المائية ببعض مناطق المجال تتطلب ممّا لا شك فيه حلولا هندسية استثنائية ومواد بناء إضافية. ولهذه الأسباب وقع الاختيار على مسار أقلّ تكلفة وعناء.

أمّا من الناحية التقنية، فقد روعيت إلى جانب الخصائص الطبوغرافية، تدابير تقنية وهندسية تسمح بانسياب الماء وفق أنظمة مدروسة تتعلق خاصة بكميات المياه المتدفقة وسرعتها.

.صورة 8. مسار قناة جلب المياه زغوان-قرطاجة بين رأس الطابية وأريانة
.المصدر : الأطلس الأثري للبلاد التونسية
.صورة 9. مسار قناة جلب المياه زغوان-قرطاجة بالنسيج الحضري بين رأس الطابية وأريانة

4.2. القناة الرومانية زغوان -قرطاجة بمدينة أريانة

لم يلق هذا الجزء من الحنايا حظّه من الاهتمام والصيانة، إذ لم تتجاوز أشغال الترميم التي قام بها المهندس الفرنسي خلال الفترة الحفصية، موضع جنان أبي فهر (البطوم). وبسبب هذا الإهمال، اقتلعت حجارته خلال العصر الوسيط واستعملت للبناء في مدينة تونس، كما استغلّت في الفترة الحديثة لبناء القصور بالضواحي. ولم تسلم بقية مآثره من الهدم خلال الفترة المعاصرة بعد أنّ أصبحت تشكّل عائقًا أمام التوسّع العمراني لمدينة أريانة. ولهذه الأسباب دخل في طي النسيان والإهمال وتغافلت عن ذكره معظم الدراسات.

و قد مكنّتنا عملية المسح الأثري التي تمّت خلال سنة 2015 17 بمنطقة أريانة العليا من اكتشاف جزء من مسار هذه القناة لم تسبق الإشارة إليه أو توثيقه18. وهو يقع شمال مقبرة سيدي الجبالي بموضع مرتفع يشرف على مدينة أريانة العتيقة من جهة الشرق وعلى موضع مستشفى محمود الماطري من الناحية الشمالية ومنطقة المنزه الثامن من الجهة الغربية. وما يمكن استنتاجه بخصوص هذا المسار، أنّه ينطلق من المنزه الثامن في اتجاه الشمال- الشمال الشرقي، متبعًا كما هو الشأن بمنطقة المنزه التاسع والسابع وحي النصر، المرتفعات وصولًا إلى هضاب أريانة العليا المطلة على المدينة وتحديدا إلى موضع خزانات المياه التي أحدثت خلال السنوات القليلة الماضية. وحسب البقايا الأثرية، فإنّ القناة في هذا المستوى تغير اتجاهها لتنعطف نحو الجنوب الشرقي(صورة 10) متبعة خط التلال الذي يبدو أنه تم تسطيحه للغرض.

.صورة 10. مسار الحنايا من المنزه التاسع الى قرطاجة (السهم يشير الى جزء المسار بهضاب أريانة العليا)

من الناحية الأثرية، تتكون الحنايا التي تحمل القناة في جزئها الشمالي من سلسلة من الدعامات المبنية بالحجارة الصغيرة،إلّا أنّ عدد كبير منها قد تمّ دمجه اليوم في أسس البناءات الحديثة ممّا يجعل دراسة مكوّناتها الهندسية أمر صعب. ومع ذلك، فقد توصّلنا إلى إحصاء 21 قاعدة أو دعامة مشيّدة بالحجارة الصغيرة على امتداد القسم الأول من المسار المكتشف تختلف حالة حفظها من موضع إلى آخر. وتتخذ هذه الدعامات شكل مكعّبات قليلة الارتفاع (0.10 – 1.70م) وتتفاوت أبعادها وتتقلّص كلّما اتجهنا جنوبًا (صورة 11).

تعتبر الدعامتان الأولى والثانية شمالا هما الأكثر وضوحا (صورة 13)، حيث يصل طول الأولى إلى 3 م (شرق -غرب) وعرضها 2.30 م (شمال- جنوب)، في حين يصل طول الثانية إلى 3.46 م (شرق - غرب) وعرضها 2.20 م (شمال- جنوب) وتفصلها عن الدعامة الأولى مسافة 1.55 م. كما يتراوح طول الواجهات الغربية لمختلف الدعامات في وضعها الحالي بين 2.50 م و1.45 م. وتتراوح المسافة التي تفصل بينها بين 1.27 م و1.66 م وقد مُلأ مجالها بالتراب ممّا يؤكّد أنّها أسس للقناة وليست جسرًا. أمّا الجزء الأخير من المسار،فهو يتكون في وضعه الحالي من جدار من الحجارة الصغيرة يمتدّ على طول 40 م ويصل عرضه إلى 2.50 م، تمّ تشييده لحمل القناة التي لازالت بقاياها وخاصة الميلاط العازل الذي كان يغطي القاع فوق سطحه المنبسط. وقد كان الجدار مطمورا في الفترة القديمة تحت الأرض، إلّا أنّ انجراف التربة من الجهة الغربية والحفريات العشوائية، أدّت إلى بروز بعض أجزاءه التي يصل ارتفاعها إلى حولي 1 م.

ما يمكن ملاحظته بخصوص هذا الجزء، هو الاختلاف الواضح في هندسة البناء بين القسمين الأول والثاني. وهو ناجم عن الخصائص الطبوغرافية والجيولوجية للموضع، إذ يتميز خط التلال بوجود منخفض بين هضبتين يتطلّب تهيئته بجدار أو جسر لتمرير القناة. إلّا أنّ الطابع الجيولوجي للتربة الذي يجعلها سريعة الانجراف وخاصة من الناحية الغربية للمسار المحاذي للمنحدر، فرض عند تشييد القسم الأول ضرورة تزويد قاعدة الهيكل بسلسلة من الدعامات أغلبها مطمور تحت الأرض (صورة 11). أمّا في القسم الثاني للمسار، فإنّ وجوده على مستوى مرتفع تطلب فقط بناء أسس قليلة الارتفاع لحمل القناة (صورة 14).

.صورة 11. مسار القناة بأريانة العليا
.المصدر : صورة الكاتبة
.صورة 12. الواجهة الغربية لدعامتين
.المصدر : صورة الكاتبة
.صورة 13. الدعامتان الأولى والثانية شمالا
.المصدر : صورة الكاتبة
.صورة 14. الجزء الجنوبي لمسار القناة بأريانة العليا
.المصدر : صورة الكاتبة

بعد المرور عبر سلسلة هضاب أريانة العليا التي يصل فيها الارتفاع على مستوى سطح البجر إلى 57 م، تعبر القناة سهول أريانة المنخفضة التي يتراوح فيها الارتفاع ما بين6 و 12 م ثم تمرّ عبر سهول سكرة التي ينخفض فيها الارتفاع على مستوى سطح البحر إلى ما بين 1و6 م إلى أن تصل إلى المعلقة على جسر يزيد طوله عن 12 كم.

اندثرت مكوّنات هذا المعلم بسبب الزحف العمراني بمدينة أريانة حتى لم يبق منها سوى دعامة وحيدة عثرنا عليها في إطار عملية المسح الميداني التي قمنا بها (صورة 15). وهذه الدعامة التي يطلق عليها الأهالي تسمية " صمعة البلارج" لاحتوائها فيما مضى على أعشاش لطائر اللقلق وللتميّز بارتفاعها عن بقية المباني، تقع على مسافة 700 م تقريبًا من مسار القناة بأريانة العليا، بمحاذاة نهج سيدي الجبالي من الجهة الجنوبية. إلّا أنّ هذا الأثر الوحيد يكاد يفقد ملامحه بعد أن تمّ دمجه مع المباني الحديثة. ورغم علوّه الذي يزيد عن7 م، فإنّنا لا نتبيّن منه عدى الجزء العلوي الذي بُني بالحجارة الصغيرة وكذلك الكبيرة المقولبة والتي لازالت آثارها بارزة على الواجهة الشمالية.

صورة 15. بقايا الحنايا بمدينة أريانة
.المصدر : صورة الكاتبة

لقد مكّننا اكتشاف هذه الأجزاء من المكوّنات المعمارية للقناة من تتبّع مسارها ومن إثراء ملف البحث العلمي حولها بمعطيات جديدة ارتبطت بتقنيات بنائها ومكوّناتها المعمارية والهندسية. ومع ذلك، يبقى السؤال المطروح في هذا المستوى، هو عن كيفية نظام جريان المياه داخل القناة من فوق هضاب أريانة العليا نحو منخفضات سهول أريانة؟ وهو سؤال تظلّ الإجابة عليه رهينة القيام بحفريات أو أسبار على طول هذا القسم من المسار. إلّا أنّما يمكن ملاحظته، هو أنّ فارق الارتفاع بين المجالين يصل إلى حدود 44 م وكذلك المسافة الفاصلة بينهما لاتتجاوز 350 م. وهي عبارة عن جرف شديد الانحدار خاصة في المستوى العلوي منه. وهذه الخاصية الطبوغرافية للموضع لا تسمح بإقامة قناة دون تزويدها بمعلم مائي معدل لسرعة السيلان حسب النظام الهندسي القديم المعتمد لتعديل سرعة انسياب المياه داخل القنوات المبنية.

لم تكشف عملية المسح الميداني بهذا الجرف عن لقى أثرية أو بقايا في علاقة بمعلم مائي خاص بتعديل سرعة انسياب الماء (خزان/ بئر) على مستوى خط القناة وإنّما فقط بعض الحجارة التي انفصلت عن مبنى القناة في جزئه العلوي. إلّا أنّه وعلى مسافة قصيرة من سور مقبرة الجبالي عند موضع يتوسط السفح، شدّ انتباهنا أكمة صغيرة من تراب لاحظنا أثناء معاينتها وجود هياكل أثرية مبنية بالكاد تبرز من تحت التراب (صورة 16). وقد تمّ اتلاف عدّة أجزاء منها بسبب الحفريات العشوائية بطريقة جعلت حالتها الإنشائية سيئة إلى درجة يصعب معها تحديد أبعادها أو شكلها. كما تؤكد صور الأقمار الصناعية وجود مبنى مستطيل الشكل مزود من جهة الشرق بمبنى نصف دائري (صورة 17)، لكن لا يمكن الجزم بانتمائه فعلا للنظام المائي موضوع الدراسة في ظل غياب الحفريات.

صورة 16. بقايا معلم أثري
.المصدر : صورة الكاتبة
صورة 17. تموضع مسار الحنايا والمعلم المائي (؟) بهضاب أريانة العليا

5.2. القناة الرومانية زغوان - قرطاجة من سكرة إلى قرطاجة: الجسر المائي الكبير

بعد عبورها منطقة أريانة، تخترق القناة المحمولة على جسر سهول سكرة شرقًا في اتجاه مدينة قرطاجة في خط مستقيم ثم تنعطف ناحية الجنوب الشرقي في مستوى منطقة سيدي داود وتتواصل على امتداد حوالي 1100م دون أن نعلم لها مستقر.

اختفى جسر الحنايا بمنطقة سكرة ولم يعد يشهد على وجوده سوى بقاياه المختلفة المتناثرة والتي من ضمنها، بعض الهياكل التي تجاوز ارتفاعها 3 م وأجزاء الجدران الصغيرة التي تمّت إزاحتها عن موضعها عند القيام بأشغال التهيئة لإنشاء البناءات الحديثة.

ورغم قربه من الموقع الأثري بقرطاجة، فقد ظل هذا الجزء طيلة عقود، بعيدا عن اهتمامات الباحثين ولم يبح بأسراره إلّا بفضل المسح الأثري الميداني وأعمال الحفر التي قمنا بها خلال سنتي 2015 - 2016. حيث تمكنّا عقب ذلك من تحديد وضبط الإحداثيات الجغرافية لمسار الحنايا. وقد اعتمدت نتائج هذا العمل من قبل المعهد الوطني للتراث للتقيّد بها وأخذها بعين الاعتبار عند التعامل مع ملفات رخص البناء وفي تحديد مواضع الأسبار عند الاقتضاء. وهو ما أسفر عن اكتشاف عدد من قواعد الدعامات التي كانت تحمل القناة والتي تميزت بتقاربها وبأهمية أبعادها مقارنة ببقية الحنايا على طول المسار، حيث يتراوح طول أضلعها بين 6.80 و8 م ويزيد عمقها تحت الأرض عن 3 م، في حين يتراوح طول المسافة الفاصلة بين كل قاعدتين بين 2.90 و3.70 م19.

لا مراء من أنّ الخصائص الجيولوجية لمنطقة سكرة التي تغلب عليها التربة الرملية وكذلك قرب المائدة المائية، قد كان لهما تأثير على هندسة البناء في هذا الجزء من المسار. إذ لا سبيل لحلّ مشكلة انعدام الصلابة والانجراف الذي يهدّد التربة سوى تركيز أسس كبيرة تمكّن من تثبيت جسر القناة وتضمن سلامته. كما أنّنا لا نستبعد كذلك العوامل الطبوغرافية وتحديدا فارق الارتفاع بين سهول سكرة التي تشكل منخفضًا طبوغرافيًا يتراوح ارتفاعه بين 1 و 6 م وموقع خزنات المياه بالمعلقة الذي يصل ارتفاعه إلى حوالي 30 م. وهو فارق يفترض بناء جسر بارتفاع يزيد عن 25 م يرتكز على قواعد مهيأة لحمل ثقل البناء.

في غياب الشواهد الأثرية، لا يمكن تقديم تصوّر هندسي واضح لهيكل جسر القناة الذي كان يعبر سكرة في اتجاه مدينة قرطاجة. إلّا أنّه بالإمكان استثمار المعطيات الواردة برسومات وخرائط القرن السادس عشر المتعلّقة بالحملة الإسبانية التي قادها الإمبراطور شارلكان وحلفائه ضدّ مدينة تونس. حيث تبرز مختلف هذه الوثائق القناة وهي تعبر سهول سكرة وصولا إلى قرطاجة محمولة على جسر مكوّن من طابقين: طابق سفلي يتأّلف من عقود نصف دائرية ترتكز على دعامات مستطيلة الشكل وآخر علوي أقل ارتفاعًا مكوّن كذلك من عقود نصف دائرية يحمل فوق سطحه هيكل القناة.

صورة 18. نقش على النحاس لFransHogenberg زمن الحملة الفرنسية على تونس في سنة 1535م

صورة 19. مقتطف من الصورة عدد18

ما يمكن أن نخلص إليه هنا على إثر ما تجمع لدينا من معطيات أثرية ووثائق أرشيفية وكذلك بالرجوع إلى النصوص التاريخية للفترتين الوسيطة والحديثة هو أنّ الجغرافيين والرحالة العرب لم يغفلوا عن ذكر الجزء الأخير من مسار قناة زغوان-قرطاجة، بل أثار إعجابهم بفضل علوّه وضخامة بنيانه. فكيف لبناء ظل صامدا إلى حدود القرن السادس عشر أن لا يشهده زوار ومستكشفي خرائب مدينة قرطاجة طوال هاتين الفترتين. و ما يمكن أن نخلص إليه أيضا أنّ إعجابهم بالحنايا لم يكن، خلافا لما هو شائع، يخص فقط الجسر المائي على وادي مليان وإنّما الجسر المائي الكبير ذو القناطر المتراكبة الممتدّ على مسافة طويلة و الذي كشفت عن جزء منه الحفريات الأثرية بسهول سكرة20. فقد ذكر البكري في وصف مدينة قرطاجة فيما نقله عن محمّد بن يوسف الوراق (ت.363 هـ/ 973م) بأنّها:" قناة عظيمة تغيب مرّة تحت الأرض وتكون في موضع آخر في قناطر فوق قناطر حتّى تساوي السحاب..."21. وهذه إشارة إلى أنّ الجسور ذات الطوابق كانت توجد بأكثر من موضع وهي متشابهة في الهندسة والعلو حتى وإن لم يصلنا منها سوى جسر القناة على وادي مليان والجسر الذي يعبر أريانة وصولا إلى قرطاجة.

أمّا الإدريسي الذي أنهى تأليف كتابه في أواخر شهر شوال 548هـ/1153م، فقد ذكر أنّ:"من عجائب البناء بقرطاجنة الدواميس... و كان الماء يجري إلى هذه الدواميس من عين شوقار التي هي بقرب القيروان... على عدّة قناطر لا يحصى لها عدد و جري الماء بوزنة معتدلة و هذه القناطر قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيرًا و ما كان في بطن الأرض و أخاديدها كان في نهاية العلو و هذا من أغرب شيء أبصر على وجه الأرض..." 22. و ذكر صاحب كتاب الاستبصار أنّ: "من عجائب الدنيا بنيان القناة التي كان يأتي فيها الماء المجلوب من عين جفان إلى مدينة قرطاجنة... وهي قناة عظيمة كان يأتي عليها ماء كثير يقوم بخمسة أرجاء23 أو أكثر....تغيب مرة تحت الأرض في المواضع المرتفعة فإذا جازت على المواضع المنخفضة تكون على قناطر فوقها قناطر حتى تساوي السحاب علوا وهي من أغرب بنيان في الأرض"24.

و في بدايات القرن الرابع عشر، أشار التيجاني وهو يتحدّث عن حصن الجم إلى الحنايا وتحديدا التي بقرطاجة قائلًا: " فنزلنا بالحصن المعروف بالجم وهو أعظم حصون افريقية وأشهرها على القدم وليس بإفريقية بعد الحنايا التي بقرطاجنة بناء أضخم منه ولا أعجب"25. و لم يخف ابن أبي دينار خلال القرن السابع عشر إعجابه بهذا البنيان و اعتبره فخر أهل إفريقية، حيث قال: "وهذه الحناية من أعجوبة الدنيا وإذا افتخر المصريون بالأهرام يفتخر أهل افريقية بهذه الحناية على مصر ...هذا البناء من اغرب الأبنية" 26.

3. مكان وصول القناة بمدينة قرطاجة الرومانية

أوصلت مياه العيون المتفرقة وخاصة تلك التي بزغوان إلى مدينة قرطاجة الرومانية عبر هذا النظام المائي العظيم والمميز بعلو قناطره المركبة وامتدادها. ومع أن جريان الماء نحو المدينة لم ينقطع طيلة قرون فإننا من الناحية الأثرية لا نعلم له مستقرا. ففي هذا الشأن، أشارت بعض الدراسات العلمية الحديثة إلى منشآت مائية متفرقة داخل موقع قرطاجة الأثري كخزانات المعلقة وصهاريج برج جديد أو كحمامات أنطونيوس وغيرها. إلا أن الإشارات غير مؤكدة لغياب الشواهد الأثرية. ومن وجهة نظرنا لا نرى معلما يكفي لتخزين كميات المياه الكبيرة التي يتم جلبها خاصة إذا ما ازداد منسوب مياه العيون المائية خلال موسم الشتاء الممطر من كل سنة27. لكن، اعتمادا على المعطيات الواردة ببعض مصادر الفترة الوسيطة نستنتج أن هذا النظام المائي كان مزود عند وصوله مدينة قرطاجة بمنشئة مائية استخدمت لتعديل جريان الماء وتوزيعه داخل النسيج الحضري للمدينة. أطلق أبو عبيد البكري على هذه المنشئة اسم 'المصنع" حيث ذكر أن " في وسط المدينة (قرطاجنة) صهريج كبير حوله في وقتنا هذا ألف وسبعمائة حنية قائمة سوى ما انهدم منها، وكان يجري إلى هذا المصنع الماء المجلوب من عين جقار إلى قرطاجنة"28. نستنتج من خلال تسمية "المصنع" أن الصفة الوظيفية لهذه المنشئة المائية لا ترتبط بتخزين الماء أو استهلاكه إنما لها وظيفة أخرى جاءت أكثر تحديدا في كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار. فقد ذكر صاحب الكتاب وهو يتحدث عن قرطاجنة "وفي وسط المدينة صهريج كبيرحوله في وقتنا هذا نحو ألف وسبعمائة ساقية قائمة بسوى ما تهدم منها، وكان يقع فيها الماء المجلوب في هذه القناة ويخرج من هذا الصهريج إلى بعض تلك المواجل"29. وإضافة إلى تحديد دور هذه المنشئة وذكر بعض المعطيات الهندسية فإن صاحب الكتاب يضيف معطى عن نظام جريان الماء بين قناة الجلب والمنشئة المائية والتي يشار الى مثيلاتها في أنظمة جلب المياه القديمة بقصر المياه، حيث أن حركة الماء لا تتمثل في السيلان أو الجريان انما الوقوع من فوهة القناة نحو المنشئة وهو ما يفيد ان القناة جلب المياه زغوان - قرطاج كانت على ارتفاع مقارنة بمكان تموقع قصر المياه.

الخاتمة

إضافة إلى تعدد المنابع التي تزود القناة الرومانية زغوان – قرطاجة بالماء وإضافة إلى طول المسافة التي تعبرها، فإن هذا المركّب المائي يتميز بأضخم وأطول جسر مائي بقناطر مركبة وهو الذي يشق سهول أريانة وسكرة، غير أنّ هذا الجزء من المعلم على أهميته التاريخية و إعجاب مستكشفي خرائب قرطاجة به لم يحظ بعد تخريبه وطمس ملامحه بدراسة دقيقة و شاملة تسمح بالتعرّف على أغلب مكوّناته الهندسية و المعمارية وتسمح بالتعريف به. ولعلّ ما توصّنا إليه من نتائج إثر عمليات المسح الميداني بهضاب أريانة العليا وسهول سكرة إضافة الى المعطيات بالوثائق التاريخية التي اعتمدناها، قد يكون اللبنة الأولى لمشروع دراسة أثرية وهندسية شاملة يكون الهدف منها توضيح المسار وإعادة تصوّر الهيأة الأصلية للمعلم.

الهوامش

1 خصصت الباحثة نايدي فرشيو وقتا طويلا لدراسة المعلم المائي، موضوع البحث، بمنطقة زغوان وعين جوقار وقد أثرت الملف العلمي بكثير من المعطيات التي دونتها بعدّة مقالات نشرت بمجلات علمية مختلفة وقد أوردنا بعض أعمالها بالقائمة البيبليوغرافية المصاحبة لهذا النص.
2 يعتبر جبل زغوان من أشهر المرتفعات بالبلاد التونسية، حيث يصل طوله إلى 1300م. وقد ذكره الحموي فيما نقله عن البكري أنّه : "بالقرب من تونس في القبلة جبل زغوان، وهو جبل منيف مشرف يسمى كلب الزقاق لظهوره وعلوّه واستدلال السائرين به أينما توجّهوا، فإنّه يرى على مسيرة الأيام الكثيرة، ولعلوّه يرى السحاب دونه، وكثيرا ما يمطر سفحه ولا يمطر أعلاه، وأهل إفريقية يقولون لمن يستثقلونه: أثقل من جبل زغوان"؛ياقوت الحموي، 1988، ج.03، ص. 144.

3 BrigitteLe Guen, Maria Cecilia d’Ercole et Julien Zurbach, 2019, p. 23.
4 Naïdé Ferchiou, 1999, p.70-71.
5 Ibid, p.73.
6 Vitruve, De l’architecture, VIII.
7 Mohamed Benabbès, 2004, p.396- 397 ; Ahmed M’Charek, 2006, p.190-194 ; Charles Tissot, 1888, p. 590.

8 محمد الطالبي، 1985 ، ص. 196- 198؛ ابن عذاري المراكشي، 1983، ج. 1، ص. 267؛ الهادي روجي إدريس 1992 ، ج.01، ص. 165- 166.
9 يعتبر وادي مليان الذي كان يعرف في الفترة القديمة بـاسم " كاتادا"، ثاني أهم مجرى مائي بالبلاد التونسية بعد وادي مجردة. وهو ينبع من السفح الغربي للسلسلة الظهرية بمنطقة ربع سليانة ويحمل هناك تسمية " وادي الكبير" ويتواصل مجراه وصولًا إلى مصبّه الواقع جنوب مدينة تونس. ومع أنّ هذا الوادي يتمتع بنظام متوسطي، إلّا أنّ عدد روافده قليل خصوصًا في الجزء الذي يعبر منطقة المحمدية. وهذه المنطقة تقلّ فيها الجداول الصغيرة التي عادة ما تنساب في مواسم الأمطار، حول هذا المجرى انظر:

Monji Bourgou et Ameur Oueslati, 1987, p. 43- 49.
10 Atlas Archéologique de la Tunisie, 1892 (Feuille N° 28) ; Louis Maurin, 2003, p. 36- 37.
11 Naïdé Ferchiou,1999, p.73.

12 هذه الملاحظات تمكّنا من تسجيلها سنة 2010 من خلال أعمال المسح الأثري بالمجال الذي تغطيه الخارطة الطبوغرافية (تونس عدد 20). وذلك في إطار مشروع الخارطة الرقمية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية بالبلاد التونسية.
13 ابن الشماع، 1984، ص. 67؛ ابن القنفذ القسنطيني، 1968، ص. 127، 251.
14 الأطلس الأثري للبلاد التونسية، الخريطة الاثرية رقم 13، عدد 61.
15 الأطلس الأثري للبلاد التونسية، الخريطة الاثرية رقم 13، عدد 57.
16 الأطلس الأثري للبلاد التونسية، الخريطة الاثرية رقم 13، عدد 58.
17 قمنا خلال سنة 2015 بدراسة حول مسار قناة جلب المياه زغوان- قرطاجة بمنطقة سكرة، تمكّنا بفضلها من الكشف بكل من أريانة العليا والنسيج الحضري لمدينة أريانة عن معطيات أثرية ذات صلة بالنظام المائي موضوع الدراسة.
18 أتقدم بشكري للزميل و الصديق نزار بن سليمان على النقاش وتبادل المعلومات حول هذا الجزء من المسار وذلك على اثر زيارته له سنة 2020.

19 Monia Adili, 2022, p.100.
20 Monia Adili, 2022,p. 87- 107.

21 أبو عبيد البكري، 1992، ج. 2، ص.702- 703.
22 الشريف الإدريسي،1992- 1993، ص. 286- 287.
23 أشرنا سابقا إلى أنّ القناة كانت تنقل مياه سبعة عيون متفرقة ولأنّ المسافة الفاصلة بين عين جوقار وعين بنت سعيدان متقاربة وكذلك المسافة بين معبد المياه وعين عياد، فإنّ المياه تأتي فعلا كما أشار الكاتب من خمسة أرجاء.
24 مجهول، الاستبصار في عجائب الأمصار، 1985، ص. 14.
25 أبو محمّد عبد الله بن محمد بن أحمد التيجاني، 1981، ص 57.
26 ابن أبي دينار، 1993، ص. 20.
27 محمد اللواتي، 2017، ص.26-27 و35.
28 أبو عبيد البكري، 1992، ج. 2، ص.702- 703.
29 مجهول، الاستبصار في عجائب الأمصار، 1985، ص. 14.

المصادر والمراجع

المصادر و المراجع باللغة العربية

ابن أبي دينار، المؤنس في أخبار إفريقية وتونس، مكتبة الميسرة، ط. 03، بيروت، 1993.

ابن الشماع، الأدلّة البينية النورانية في مفاخر الدولة الحفصية، الدار العربية للكتاب، 1984.

ابن القنفذ القسنطيني، الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، تحقيق محمد الشاذلي النيفرو عبد المجيد التركي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1968.

ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في ذكر إفريقية والمغرب، الدار العربية للكتاب، ط.03، 1983، ج. 1.

أبو عبيد البكري، المسالك والممالك، الدار العربية للكتاب، بيت الحكمة، تونس، 1992، ج. 2.

أبو محمّد عبد الله بن محمد بن أحمد التيجاني، رحلة التيجاني، الدار العربية للكتاب، ليبيا- تونس، 1981.

الشريف الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثّقافة الدّينيّة،1992- 1993.

مجهول، الاستبصار في عجائب الأمصار، نشر و تعليق الدكتور سعد زغلول عبد الحميد، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985.

محمد الطالبي، الدولة الأغلبية 296 - 184 /909 - 800 التاريخ السياسي، تعريب المنجي الصيادي، مراجعة وتحقيق حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، ط.02،1985 .


الهادي روجي إدريس، الدولة الصنهاجية، تاريخ إفريقية في عهد بني زيري من القرن 10 إلى القرن 12، تعريب حمادي الساحلي، دار الغرب الإسلامي، ط.01، بيروت- لبنان 1992، ج.01.

محمد اللواتي، "وثيقة أرشيفية حول توزيع مياه عيون زغوان وجقار بمدينة تونس خلال فترة حكم محمد الصادق باي 1859-1881، افريقية، عدد24 ، 2017، ص. 25-49.

ياقوت الحموي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1988، ج.03.

Sources, ouvrages et articles en langue française

ADILI Monia, 2015, « Les patrimoines culturels de l’eau, l’exemple de la Tunisie. Etude de cas N°1. Le complexe hydraulique de Zaghouan-Carthage », Les patrimoines culturels de l’eau en Moyen-Orient et au Maghreb, éd. ICOMOS, pp. 110-113.


ADILI Monia, 2022, « Tronçon de l’aqueduc Zaghouan-Carthage dans la région de La Soukra (L’Ariana, Tunisie) », Africa, 25, pp. 87-107.

BENABBES Mohamed, 2004, L’Afrique byzantine face à la conquête arabe. Recherches sur le VIe siècle en Afrique du Nord, thèse de doctorat inédite, Université de Paris X.

BOURGOU Mongiet OUESLATI Ameur, 1987, « Les dépôts historiques de la vallée du Kébir-Miliane (Nord-Est de la Tunisie) », Méditerranée, N° 60, pp. 43- 49.

FERCHIOU Naïdé, 1999, « Les aqueducs de Zaghouan à Carthage et leurs structures complémentaires. Note préliminaire », Africa, 17, pp. 69-86.

FERCHIOU Naïdé, 2003, « Le nymphée d’Aïn Jouggar et l’aqueduc de Kaoussat (Tunisie) (décembre 2000) », Africa, Nouvelle série. Séances Scientifiques I, pp. 71-86.

FERCHIOU Naïdé, 2008, « Le grand nymphée de Zaghouan : Matériaux et techniques de construction », Africa, 22, pp. 189-199.

FERCHIOU Naïdé, 2008, Le Chant des Nymphes. Les aqueducs et les temples des eaux de Zaghouan à Carthage, éd. Nirvana.

FERCHIOU Naïdé, 2009, « Les nymphées de Zaghouan et de Jouggar : recherches préliminaires sur les travaux d’aménagement du grand aqueduc alimentant Carthage à l’époque des Sévères », dans Contrôle et distribution de l’eau dans le Maghreb antique et médiéval, EFR, pp. 199-233.

LE GUEN Brigitte, D’ERCOLE Cécilia Mariaet ZURBACH Julien, 2019, Naissance de la Grèce : De Minos à Solon : 3200 à 510 avant notre ère, Belin, coll. « Mondes Anciens ».

MAURIN Louis, 2003, Bir Mcherga 028, CNSAMH, Tunis.

M’CHAREK Ahmed, 2006, « Deux cités voisine d’Afrique proconsulaire, Uthina / Oudhna et Thimida Regia / Mohammedia: enquête archéologique et historique», Revue Archéologique, Nouvelle Série (Fasc. 1), pp.190-194.

RAKOB Friedrich, 1969-1970, « Le sanctuaire des eaux à Zaghouan », Africa, III-IV, pp. 133-178.

RAKOB Friedrich, 1979, « L’aqueduc de Carthage », DA, n° 38, pp. 34-42.

SAUMAGNE Charles, 1928-1929, « Notes de topographie carthaginoise, I, La « Turris Aquaria » (d’après les fouilles de 1926) », BCTH, pp. 629-639.

TISSOT Charles, 1888, Exploration scientifique de la Tunisie : géographie comparée de la province Romaine d’Afrique, T. II, Paris, pp. 590.

VITRUVE, De l’architecture, livre VIII. Texte établi, traduit et commenté par Louis Callebat, Paris, 1973.

الكاتب

منية عديلي

مكلفة بالبحوث الأثرية والتاريخية بالمعهد الوطني للتراث

Retour en haut