Information
A propos Al-Sabil
Numéros en texte
intégral
Numéro 12
2021| 12
ماذا عن باب أرطه؟ محاولة للبحث عن باب مدينة تونس المفقود
عبد العزيز الدولاتلي
الملخّص
يعود الفضل لأبي عبيد البكري، المؤلف الأندلسي الذي عاش في القرن الحادي عشر للميلاد والذي ترك لنا وصفا دقيقا لمدينة تونس ولضواحيها، بموافاتنا بأسماء أبواب المدينة الخمسة التي كان يتم بواسطها التواصل مع الخارج خلال العصر الوسيط المتقدم. أربعة من بين تلك الأبواب نعرفها المعرفة الجيدة وهي: باب السقائين (المتحول فيما بعد إلى باب السويقة) في الشمال، باب الجزيرة في الجنوب، باب البحر وباب قرطاجنة في الشرق. أما الباب الخامس الذي كان يفتح على الغرب وهو باب أرطه فيشوبه غموض كبير من حيث ضبط موقعه بكل دقة في السور الغربي وكذلك بالنسبة لتسميته ونسبته لأرطه. فما عسى أن تكون أرطه؟ هل تعني مكانا ما يقع بالجهة الغربية الذي منح اسمه للباب مثلما تسمى باب قرطاجنة بمدينة قرطاج العتيقة التي كان يفتح عليها وتسمى باب الجزيرة بجزيرة شريك وهي الوطن القبلي؟
على هاته الأسئلة وغيرها حاولنا الإجابة مستغلين شتى أصناف الوثائق: المراجع التاريخية والجغرافية والوثائق الطبغرافية والطبونمية والخرائطية. وعلى أساس ما توصلنا إليه من استنتاجات بموجب دراسة عدد من المواقع المستجيبة عن قريب أو عن بعيد للمعايير التي تم ضبطها مسبقا، انتهى بنا الأمر إلى تمييز موقعين: الأول هو أوتينا وهي أوذنه حاليا الواقعة عل بعد 22 كم من تونس على طريق زغوان والثاني هو طنبذة وهي المحمدية الواقعة عن مسافة 15 كم في ضاحية تونس الغربية. ودون الجزم لفائدة هذا الموقع أو ذاك اتجه الرأي، في انتظار ما قد يخالف ذلك، نحو افتراض أن موقع طنبذة هو الذي قد يكون أرطه البكري الذي تسمى به الباب الغربي لمدينة تونس. ذلك الباب الذي انقطع ذكره منذ القرن الحادي عشر للميلاد بعد أن تم التخلي عنه ثم إزالته تماما ربما في خضم الأحداث الخطيرة التي تلت هجرة بني هلال وعلى أقصى تقدير إثر فتح عبد المؤمن بن علي لمدينة تونس وتشييده غربيها في سنة 555/1160 للقصبة.
الكلمات المفاتيح
باب أرطه، مدينة تونس، أبواب المدينة، المحمدية، أوذنة.
Résumé
Al-Bakri, l’auteur andalou du milieu du XIe siècle à qui l’on doit une description détaillée de la médina de Tunis et de ses environs, est le premier à avoir indiqué les noms et les emplacements des cinq portes grâce auxquelles la cité du haut moyen âge communiquait avec l’extérieur. Parmi ces ouvertures quatre nous sont bien connues : Bāb al-Saqqā’īn (devenue plus tard Bāb Suwayqa) au Nord, Bāb al-Ğazīra au Sud, Bāb al-Baḥr et Bāb Qarṭāğanna à l’Est. Seule la porte ouvrant vers l’Ouest du nom de Bāb Arṭa est restée énigmatique quant à son emplacement exact sur le rempart occidental ainsi qu’à son attribution à Arṭa. Qui est Arṭa ? S’agissait-il d’une localité située à l’Ouest de la ville qui aurait donné son nom à la porte qui porte son nom à l’exemple de Carthage (Bāb Qarṭāğanna) ou du Cap Bon, Ğazīrat Sharīk (Bāb al-Ğazīra) ?
C’est à ces questions que l’article tente de répondre en faisant appel à divers types de documents : sources historiques, géographiques, topographiques, toponymiques, cartographiques. Après avoir passé à l’examen attentif un certain nombre de toponymes répondant de près ou de loin aux critères préétablis, deux sites furent sélectionnés : le premier Uthina (l’actuelle Oudhna) située à 22km de la capitale sur la route de Zaghouan, le second Ṭunbuḍa (l’actuelle Muḥammdiya), située à 15 km dans la banlieue Ouest de Tunis. Loin de trancher clairement en faveur de l’une ou de l’autre éventualité, l’auteur conclut sur une hypothèse qui reste à vérifier : que Ṭunbuḍa serait plutôt l’Arṭa évoquée par Al-Bakri dont on aurait attribué le nom à la porte occidentale de Tunis. Cette dernière dont on n’a jamais plus entendu parler depuis le XIe siècle, aurait disparu dans la tourmente de l’invasion hilalienne ou au plus tard à la suite de la conquête de Tunis par le calife almohade Abdelmoumen et la construction de la Kasbah en 555/1160.
Mots clés
Bāb Arṭa, médina de Tunis, portes de Tunis, Mohamadiya, Oudhna.
Abstract
Al-Bakri, an Andalusian author of the mid-11th century, to whom we owe a detailed description of the medina of Tunis and its surroundings, is the first to have revealed to us the names and the locations of the five gates through which the city of the early Middle Ages communicated with the outside world.
Among these openings four are well known to us: Bāb al-Saqqā’īn (later Bāb Suwayqa) in the North, Bāb al-Ğazīra in the South, Bāb al-Baḥr and Bāb Qarṭāğanna in the East. Only the door opening to the west by the name of Bāb Arṭa has remained enigmatic as to its exact location on the western rampart as well as its attribution to Arṭa. What was Arṭa supposed to be? Was it a location the west side of the city which would have given its name to the gate after the example of Carthage (Bāb Qarṭāğanna) or Cape Bon, Ğazīrat Sharīk (Bāb al-Ğazīra)?
These are the questions that the article attempts to answer by drawing on various types of documents: historical, geographical, topographical, toponymic, and cartographic sources. After probing a number of toponyms which corresponded more or less to the pre-established criteria, two sites were selected: the first Uthina (the current Oudhna) located 22km from the capital on the road to Zaghouan, the second Ṭunbuḍa (the current Muḥammdiya), and located 15 km in the western suburbs of Tunis. Far from deciding clearly in favor of one or the other possibility, the author concludes with a hypothesis which remains to be checked: Would Ṭunbuḍa rather be the Arṭa mentioned by Al-Bakri, and whose name would have accordingly been attributed to the door in the western part of Tunis. The latter, which we have never heard of since the 11th century, would have disappeared in the turmoil of the Hilalian invasion or, at the latest, following the conquest of Tunis by the Almohad caliph Abdelmoumen and the construction of the Kasbah in 555/1160.
Keywords
Bāb Arṭa, Medina of tunis, gates of Medina, Mohamadiya, Oudhna.
المرجع لذكر المقال
عبد العزيز الدولاتلي، « ماذا عن باب أرطه؟ محاولة للبحث عن باب مدينة تونس المفقود»، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 12، سنة 2021.
URL : https://al-sabil.tn/?p=12668
نص المقال
يعود الفضل لأبي عبيد البكري (ت 487 /1094) في كتابه « المسالك والممالك » حيث ترك لنا وصفا لمدينة تونس من أكثر الأوصاف زخما بالمعلومات بالمقارنة مع غيره من الجغرافيين والمؤرخين السابقين أو المعاصرين. فهو أول من ضبط موقع المدينة في محيطها الطبيعي مع الأسماء القديمة لبعض المواقع الطبيعية والعمرانية والمعمارية كمواقع الأبواب في الأسوار وما كان يجاورها بالداخل ويقابلها بالخارج من الأماكن القريب منها والبعيد1.
وهو ما تأكدنا منه عندما تولينا دراسة مدينة تونس في العهد الحفصي2 فتعرضنا لأوضاعها في الفترات السابقة لاسيما فترة حكم بني خراسان (449/1057-555/1160) أي حينما كان مؤلفنا بصدد وضع كتابه الذي انتهى منه في سنة 460/1067 والذي استغرق إعداده ما لا يقل عن خمس عشرة سنة.
ومع أن المؤرخين قد أجمعوا على أنه لم يتجشم عناء السفر من الأندلس إلى إفريقية وإلى غيرها من الأقاليم والبلدان التي اعتنى بوصفها بكل دقة، متحدثا عن طبيعتها وعن عادات وتقاليد شعوبها وعن أبرز أعلامها ومعالمها، فمن المؤكد أنه اعتمد على مؤلفات جيدة وربما أيضا على شيوخه. « والراجح » كما يقول عبد الرحمان علي الحجي « أن يده استطاعت الوصول إلى كتابات ووثائق جغرافية ربما لم تصل إليها يد آخرين »3. فاكتفى إذن بنقلها عن غيره دون ذكر من تحملوا أعباء الترحال والتجوال ومشاق التدوين. فلا نتعجب إذن أن تعود معلوماته إلى عهود سابقة لعصره وبالتأكيد وعلى أقل تقدير إلى النصف الأول من القرن الخامس/الحادي عشر.
وهذا هو الوصف الذي أفادنــا به والذي سنعتمده في بحثنــا عن « باب أرطه الغربي المفقود » : ومدينة تونس في سفح جبل يعرف بجبل أم عمرو ويدور بمدينتها خندق حصين ولها خمسة أبواب: « باب الجزيرة قبلي ينسب إلى جزيرة شريك ويخرج منه إلى القيروان ويقابله جبل التوبة… » « وبشرقي مدينة تونس المينى والبحيرة التي ذكرناها وسبخة… وربض المرضى خارج عن المدينة وبقبلي ربض المرضى ملاحة كبيرة منها ملحهم وملح من يجاورهم. »4. « وبشرقيها أيضا باب قرطاجنة دونه داخل الخندق بساتين كثيرة تعرف بسواقي المرج وباب السقائين جوفي نسب إلى السقائين لأن بيرا تعرف ببير أبي القفار (أو الفقار) تقابله … وهناك قصور لبني الأغلب وبساتين…و باب أرطه غربي تجاوره مقبرة تعرف بمقبرة سوق الأحد. ودون الباب من داخل الخندق غدير كبير يعرف بغدير الفحامين »5.
على ضوء هذه الشهادة تبدو مدينة تونس في أواسط القرن الخامس/الحادي عشر (مثال1) محاطة بخندق خارجي فسيح الأرجاء يحتضن الأسوار عن بعد من مسافات تختلف حسب الاتجاه: شاسعة من جهتي الشمال والشمال الشرقي بما يفسح المجال لبساتين مجهزة بالنواعير (سواني المرج أمام باب قرطاجنة) وأخرى تخترقها السواقي جنبا لجنب مع قصور بني الأغلب (أمام باب السقائين)، وأقل اتساعا نسبيا من الجهة الغربية أين يوجد « غدير كبير ». ولا نعلم هل يستمر الخندق أم لا من جهتي الجنوب أين يفتح باب الجزيرة ومن جهة الشرق أين باب البحر.
أمّا الأسوار فقد كانت تفتح على الخارج كما يشير إليه هذا النص، بفضل أبواب خمسة، واحد منها فقط وهو باب البحر لا يزال قائما إلى يومنا هذا بالقرب من مكانه الأصلي بعد إعادة بنائه في سنة (1878) وثلاثة وهي باب الجزيرة وباب قرطاجنة وباب سويقة، فقد تمت إزالتها مع أسوارها بداية من سنة 1830 ومع ذلك فإن مواقعها بقيت معروفة. يبقى الباب الخامس وهو « باب أرطه » الغربي، فعلى الرغم من المعلومات التي أتى بها النص من أجل ضبط موقعه، فإن تساؤلات عديدة بقيت عالقة بذهننا سنحاول الإجابة عليها في إطار هذا العمل من أهمها نسبة الباب إلى « أرطه » وما قد تكون « أرطه » وهل من صلة بين موقعها وموقع الباب المنسوب إليها.
والغريب أن هذا الباب الذي انفرد بذكره البكري لم يبق له أي أثر، لا في المراجع التاريخية ولا في الذاكرة الشعبية وكأنه أتى من محض خيال الكاتب. فهو لم يخلف بعد زواله، ربضا حمل اسمه كما هو الشأن بالنسبة لباقي الأبواب وكما هو الأمر عادة في العواصم وفي كبار الأمصار التي تنتشر بخارج مداخلها توسعات عمرانية تحمل اسمها. وقد كانت أرباض تونس في العهد الحفصي (628/1228-982/1574) (مثال2) من الأهمية حتى أن العبدري في سنة 688/1289، أعد كل ربض من الأرباض بمثابة « المدينة المستقلة بذاتها » حسب تعبيره6.
هذا وقد أشار البكري إلى وجود ربض « خارج عن المدينة » « قبلي ملاحة كبيرة » (سبخة السيجومي) اسمه « ربض المرضى » (المصابون بالأوبئة كما سبق أن افترضناه)7، نعتقد أنه إنما كان مجموعة سكنية أنشأت بعيدا عن « باب أرطه » لم يخول لها أن تعرف التوسع السريع الذي عرفته الأرباض الأخرى إلا مع صعود نجم دولة بني حفص وانتشار عمران عاصمتهم انتشارا هائلا شمل كل أجوار المدينة المحيطة بسورها. وقد افترض حسن حسني عبد الوهاب أن ذلك الربض هو المعروف بالمركاض الذي قد يكون قد احتضن، حسب رأيه، منذ العهد الأغلبي (القرن الثالث/التاسع أول دمنة أو مارستان8. ونحن نستبعد ذلك ونعتقد أنه بالأحرى حي التوفيق المنعزل عن المدينة على مشارف سبخة السيجومي غربي القصبة. أما ربض المركاض الذي ذكره المؤرخ التونسي فلم يكن له أي وجود قبل أيام الدولة الحفصية واكتساح الأرباض السلطانية المناطق الغربية في ظل القصبة الجديدة مثل اكتساحها المناطق الشمالية والجنوبية والشرقية. وما كان يعرف بـ “ربض الأشراف » الذي كان يقع في حي التوفيق الحالي أين توجد « روضة الأشراف »(مسجد الصفصافة، زاوية سيدي عبد الله حاليا) لشاهد على ذلك التوسع الغربي الهائل.
يشير الشريف الإدريسي (ت 560/1166)، في كتابه » نزهة المشتاق »9 الذي انتهى من إعداده في سنة 548/1154، أي قرنا تقريبا بعد كتاب البكري، إلى أن عدد أبواب تونس التي زارها في آخر أيام دولة بني خراسان، لا يتعدى الثلاثة فقط. وذلك، بدون أدنى شك، يعود لأسباب أمنية سعيا من الحكام الجدد للحد من المخاطر الجسيمة التي كانوا يتعرضون لها والتي أمست تهدد مدينتهم باستمرار بفرض استيطان بني رياح بالمعلقة بقرطاج إثر الهجرة الهلالية بداية من أواسط القرن الخامس/الحادي عشر. مما يعني أنهم بعد توليهم الحكم في سنة 449/1057 لم يجدوا بدا من إغلاق بابين من الأبواب الخمسة، من بينها، حسب اعتقادنا، » باب أرطه » فضلا بالطبع عن « باب قرطاجنة »، محافظين على الأبواب الثلاثة المتبقية التي لم يكن بالإمكان الاستغناء عنها لأهميتها الاقتصادية القصوى وبالنسبة لحركة التواصل مع الخارج.
وفي حين أن باب قرطاجنة قد أعيد فتحه إذ لم يبق أي مبرر للاستمرار في غلقه إثر هزيمة بني رياح تحت وطأة جيوش عبد المؤمن بن علي واستيلاء هذا الأخير على المدينة (555/1160) واستتباب الأمن في ظل حكم الموحدين الصارم، فإننا نتساءل هل أن الحكام الجدد وجدوا موجبا لإعادة فتح « باب أرطه » بعد أن أقروا بناء قصبة أمامه في أعلى ربوة « جبل أم عمرو » لإيوائهم ولمراقبة المدينة السفلى شرقا والسبخة الخلفية (السيجومي) وما جاورها من الأحياء غربا.
«... وباب أرطه غربي تجاوره مقبرة تعرف بمقبرة سوق الأحد. ودون الباب من داخل الخندق غدير كبير يعرف بـ « غدير الفحامين »: هكذا حدد البكري الأماكن التي كان يوجد بجوارها الباب أولها سفح « جبل أم عمرو » وثانيها « خندق حصين » وثالثها « مقبرة سوق الأحد » ورابعها وأخيرا « غدير الفحامين ». وإذا ما قبلنا بأن « سفح جبل أم عمرو » ليس إلا ربوة القصبة التي تنحدر من تحتها المدينة متجهة نحو دار الصناعة فالميناء فالبحيرة، فإننا لا نستبعد أن « الخندق الحصين » الذي « يدور » بالمدينة هو ذلك الخندق الوارد ذكره منذ أيام الفتوحات والذي نفترض أنه كان يأخذ مساره غربي شارع باب البنات الحالي ربما على مستوى باب العلوج موازيا من الخارج مسلك السور الداخلي المطابق لشارع باب البنات فبطحاء القصبة فشارع باب المنارة وباب الجديد (مثال 1).
أما المقبرة « المجاورة للباب » والمنسوبة لسوق أسبوعية، هي « سوق الأحد »، فلا نعرف عنها شيئا. كما أننا نستبعد أنها كانت« روضة الأشراف » السالفة الذكر لابتعادها عن السور ولظهورها في فترة متأخرة عليه. وبالتالي يبقى لنا اختياران: إما المقبرة الواقعة بداخل السور على جزء كبير من واجهته الغربية والتي نجهل انها كانت تحمل اسما مغايرا للاسم الذي عرفت به منذ القدم وهو مقبرة السلسلة (مثال 1). وإما، كما افترضناه سابقا10، المقبرة المطلة على المدينة من خارج السور المعروفة إلى تاريخ قريب بمقبرة سيدي أحمد السقاء. (مثال 2) وهو أبو العباس أحمد السقاء المتوفى في سنة 734 /1342 والمدفون على مشارفها11. ولعله قد أتى تغيير اسمها من مقبرة سوق الأحد ضمن ظاهرة تبديل أسماء الأماكن في المدن والقرى والأرياف الإفريقية بداية من القرن السادس/الثاني عشر، بأسماء الأولياء والصالحين. كما كان الحال مثلا بالنسبة لـ« جبل التوبة » الذي أشار إليه البكري والذي تحول إلى « جبل الجلاز » (مثال 2)، وهو الولي الصالح أبو عبد الله محمد الجلاز المتوفى في سنة 602/1205 الذي تروي عنه المناقب أنه اشترى من حاكم المدينة أراض في الجبل وحبسها على السكان لكي يدفنوا فيها أمواتهم بدون مقابل12.
و « غدير الفحامين » الواقع كما أشار إليه البكري « دون الباب من داخل الخندق » هو غير معروف أيضا، لم يذكره إلا هو ولا يمكن إلا افتراض موقعه من خلال ما لاحظناه طبوغرافيا من وجود منخفض في أسفل باب العلوج جنوبي حي القعادين13 الذي قد يتناسب مع مكان كانت تتجمع فيه المياه مكونة «غديرا » أو ما يشبه ذلك قد تمت إزالته مع اكتساح العمران وانتشار الربض الشمالي في تلك البقاع.
أما فيما يخص نسبة الباب إلى « أرطه » فالرائج، كما لا يخفى، أن تنسب الأبواب إما إلى ما يقابلها في الداخل من المنشآت والمعالم كنسبة « باب السقائين »، إلى السقائين الذين كانوا يرتادون « بير أبي القفار» (أو أبو الفقار؟) المقابل له ومعه السقايات والبساتين وقصور بني الأغلب إلى أن تغير بباب السويقة نسبة للسوق الصغيرة التي أقيمت أمامه عندما اكتسح العمران المنطقة. وإما إلى ما يقابلها في الخارج من المدن والقلاع والمقاطعات والطرقات المؤدية إليها. وباب الجزيرة أحسن مثال على ذلك وقد تسمى نسبة لـ «جزيرة شريك» التي كانت عاصمتها آنذاك منزل باشو، وهي الوطن القبلي حاليا، ذي الثروات الكبرى، التي كانت تشكل أول وأطول مرحلة بين تونس والقيروان عاصمة الولاية الاسلامية. أما شريك فهو « أحد العاملين عليها في القديم وهو والد قرة بن شريك والي مصر من قبل الوليد بن عبد الملك »14. وبالتالي فإن الباب الغربي، إن هو تسمى بـ « باب أرطه » فذلك نسبة لما يقابله من الطرقات المؤدية إلى مكان ما كان يعرف بـ « أرطه ». فما هو ذلك المكان؟
يقول البكري عند حديثه عن الحملة التي قام بها حسان بن النعمان في حوالي سنة 78/697 لفتح مدينة تونس: « روى جماعة عن أبي المهاجر قال: سار حسان بن النعمان إلى « أرطه» فقاتل الروم« بفحص تونس » ... فدخلها (يعني تونس) فحرق وخرب وبنى فيها مسجدا وبقي هناك طائفة من المسلمين »15. هذا النص يؤكد ارتباط « باب أرطه » بموضع يحمل الاسم « أرطه »15(مكرر). فما عسى أن يكون ذلك الموضع القديم الواقع في اتجاه الغرب الذي سار إليه القائد العربي قبل أن يشتبك مع العدو « بفحص تونس»؟ وما هو « فحص تونس »؟ وما هي الطريق المؤدية من « أرطه » إلى « فحص تونس » إلى تونس وبابها « باب أرطه »؟
الغالب على الظن، كما يجوز استنتاجه من أقوال المؤرخين، أن حسان قصد تونس انطلاقا من القيروان، مركز القيادة ومقر تجمع الجيوش العربية، متخذا إحدى الطريقين الرئيسيتين (مثال 3). إما الطريق الساحلية التي تنتهي أمام « باب الجزيرة » ذات المراحل الثلاثة وهي « الدواميس » (ما بين النفيضة والحمامات) ثم « منزل باشو »، عاصمة جزيرة شريك وأخيرا باب الجزيرة. وإما الطريق الداخلية ذات المراحل الثلاثة أيضا وهي: « منستير عثمان » (في مفترق الطرقات واحدة نحو تونس والأخرى نحو باجة)، ثم « فندق شكل »، (في ضواحي زغوان) وأخيرا تونس16.
والأرجح أنه فضل الطريق الداخلية الأكثر أمانا عن الطريق الساحلية التي لم يزل الروم يسيطرون على المدن والحصون والقلاع التي كانت تحرسها لاسيما بالقرب من ضواحي قرطاج الجنوبية أين توجد مدينة رادس Maxula الشديدة الخطورة آنذاك. وإن صح ذلك، فلن يكون، بطبيعة الحال، « باب أرطه » إلا في منتهى تلك الطريق الداخلية كما لن يكون موقع « أرطه » إلا في محطة كانت من الأهمية السياسية أو الاستراتيجية أو الاقتصادية ما خول لها أن يتسمى باسمها باب من أبواب ثاني مدينة بإفريقية بعد القيروان: مدينة تونس. تلك القاعدة البحرية الخطيرة خلال القرن الثاني/الثامن التي سرعان ما تحولت في القرن الموالي إلى قطب سياسي وديني وثقافي شديد المنافسة لعاصمة بني الأغلب. فتسمى إذن الباب باسم تلك المحطة تماما مثلما تسمى باب الجزيرة بجزيرة شريك (الوطن القبلي) وهي المرحلة الأولى في الطريق الساحلية بين تونس والقيروان، وتسمى باب قرطاجنة لوقوعه أمام الطريق المؤدية إلى قرطاج. فما عسى أن تكون تلك المحطة الواقعة قبل نهاية الطريق ما بين القيروان وتونس؟
بعد عبور وادي نبهانة على قنطرة رومانية، يمر المسلك الداخلي القديم ما بين جبل فكيرين وجبل زغوان إلى أن يصل إلى الفحص الذي كان يعرف بـ « فحص أبي صالح » ذلك القائد الذي فتح المدينة الرومانية المجاورة ذات البعد الاستراتيجي (Thuburbo Majus). ثم يواصل طريقه إلى المحمدية الواقعة على بعد 15 كم من تونس، وهي « طنبذة » العرب المعروفة بقلعتها البيزنطية المنيعة الواقعة على مفترق الطريقين المؤديتين إلى كل من تونس وقرطاج17. فهل هي « أرطه » البكري؟ هذا احتمال غير مستبعد كما سنرى. ولكن هنالك احتمالات أخرى لا بد من التعرض إليها.
قبل الوصول إلى « طنبذة » (المحمدية) في اتجاه تونس، يعترض سبيلنا منعرج على اليسار يؤدي إلى أوذنه موقع » أوتينا » (Uthina) الروماني الذي كان يعد من أهم المواقع على الطريق الرومانية الرابطة بين زغوان وتونس17(مكرر). وقد كان سكنها في العصور القديمة قوم ينتمون إلى قبيلة « هوراتيا »18 (Horatia وهي تسمية تذكرنا عن قرب من حيث النطق العربي من « أرطه » التي نبحث عن موقعها. فهل سمى العرب المدينة القديمة باسم متساكنيها؟ وبالتالي قد تكون « أوتينا » هي « أرطه »؟ هذا احتمال ثان غير مستبعد كذلك18(مكرر). إلا أن البكري أشار إلى وجود مدينة أخرى تحمل اسما شبيها بأذنه وهو «أدنه» بينها وبين مدينة طبنه، عاصمة الزاب مرحلتان19. وحسب محمد الطالبي20 فإن هذا الاسم «أدنه» بفتح الألف « محرف حرفه البكري » والاسم الحقيقي هو « أربة » بل « أزبه » كما يقول 21Paul Louis Cambuzat.
« أربة » أو « أزبه » أو « أدنه » هي، حسب هذا المؤلف، نفس المدينة التي تم تحريف اسمها والتي كانت تشكل في العهد الأغلبي قلعة حصينة، آخر معقل حدودي لدولة بني الأغلب غير بعيد عن طبنه المدينة الكبرى في الأطراف الغربية للدولة الأغلبية. فهل تسمى باب مدينة تونس بذلك الموقع النائي الواقع في أقاصي الإمارة الأغلبية؟ هذا افتراض ثالث سنرى مدى جديته.
وفي نفس الإطار الجغرافي تقريبا غير بعيد عن بغاية، توجد مدينة مجانة وبها قلعة تعرف بـ « قلعة بشر بن أرطاه » افتتحها (بشر بن أرطاه) عنوة، يقول البكري، « بعثه إليها موسى بن نصير »22. فهل سجل هذا القائد اسمه في أماكن أخرى، قد تم افتتاحها على يده لا نعرفها، كما سجله في هذا المكان؟ على سبيل المثــال موقع « أرطه » الذي قد يكون اسمـه الأصلي « أرطاه » في زمن ما إلا أن البكري حرفه إلى « أرطه » مسقطا الألف كما حرف « أربه » أو « أزبه » إلى « أدنه »؟ هذا ممكن لكنه يبقى افتراضا يصعب التثبت منه.
ويشير محمد حسن23 إلى وجود موقع ضمن « تجمعات سكنية صغيرة محصنة داخل الواحات مرتبطة باستغلال الأرض » بالڨطار قرب ڨفصة كان يحمل اسما لاتينيا هو « هرتوس » Hortus الذي تحول بالعربية إلى « أطس » . فهل « أرطه » هي أيضا تصحيف لنفس الكلمة اللاتينية Hortus أي المستوطنة أو المنشأة الفلاحية؟ الجدير بالملاحظة في هذا المضمار أن نفس هذه الكلمة اللاتينية هورتوس Hortus تقرأ في أعلى خريطة أغستينو فنسيانو Augustino Veneziano التي تم إعدادها بمناسبة حملة شارل الخامس على تونس في سنة 1535 (مثال 4)، جنبا لجنب مع كتابات أخرى بالألمانية تشير تقريبا إلى نفس المعاني ذات العلاقة مع الأعشاب مثل ((Lūstgarten أو (Lūstru) أو (Tiergarten). فهل من علاقة بين Hortus خريطة 1535 و« أرطه » البكري التي نحن بصدد البحث عن موقعها؟
يقول البكري عند حديثه عن حسان عند فتحه لتونس: « سار إلى « أرطه » … « فقاتل الروم في فحص تونس… فسأله الروم ألا يدخل عليهم وأن يضع الخراج عليهم ويقوموا له بما يحمله وأصحابه. فأجابهم على ذلك… فدخلها (أي تونس) »24. فما عسى أن يكون « فحص تونس » المشرف على « أرطه »؟
لا نعتقد أن المواجهة التي حصلت بين حسان بن النعمان والروم قد تمت بـ « فحص أبي صالح » Thuburbo Majus لبعد المسافة بينه وبين تونس التي تبلغ 57 كم. فهل تمت إذن بالأحرى بـ « فحص مرناق » الذي لا يفصله عن تونس سوى 22كم أين دارت رحى الحرب وبالتالي يكون البكري قد أخطأ فلم يسم « فحص مرناق » باسمه الحقيقي الذي خلدته الرواية شبه الأسطورية التي أتى بها هو بنفسه عندما تحدث عن غزوة قرطاج في حوالي سنة 78/697: « قالوا لما فروا (أي الروم أمام حسان بن النعمان) وبقي فيها (أي قرطاج) مرناق صاحبها ليس معه إلا أهله، بعث إلى حسان هل لك أن تعاهدني وولدي وتقطع لي قطايع أشترطها عليك وأفتح لك بابا فتدخل المدينة على من فيها. فأجابه إلى مسألته فاشترط عليه المنازل التي بين الجبلين (جبل الرصاص وجبل بو قرنين) التي يقال لها فحص مرناق وهي إذاك ثلاثمائة وستون قرية. ثم فتح لهم الباب فلم يجد بها أحدا غير ولده وأهله فتمم له حسان ما اشترطه »25.
نحن أمام احتمالات لا بد من ترجيح أقربها للواقع الجغرافي وللأوضاع التاريخية. فنستبعد منذ البداية الأماكن التي تم ترشيحها استنادا إلى تسميتها التي قد تذكرنا عن قريب أو بعيد بـ “أرطه » مثل » أربة » ذات المسافة البعيدة في أقاصي الحدود الغربية للإمارة الأغلبية، في حين نحن نبحث عن موقع على مشارف المدينة يطل على سهل غير بعيد يحمل اسم تونس ( » فحص تونس »). أما الافتراض الآخر وهو أن « أرطه » هي تحريف لـ « أرطاه » نسبة للفاتح بشر بن أرطاه، فهو حسب تقديرنا احتمال يصعب إثباته في غياب الوثائق التاريخية.
كما يصعب الجزم بأن كلمة Hortus المرسومة في أعلى الخارطة المنسوبة لأوغستينو فينيزيانو Augustino Veneziano و المؤرخة في سنة 1535 تشير إلى مدينة معينة لا إلى البساتين و الرياض و المغروسات الشاسعة الممتدة آنذاك غربي المدينة (Lūstgarten، Lūstru، (Tiergarten، قد تحول اسمها من اللاتينية إلى العربية بعد تصحيف بسيط فأصبح « أرطة » بضم الألف والطاء وسكون الراء و بتعويض اللاحقة اللاّتينيّة (us) بتاء التأنيث العربيّة (ة) على عادة العرب في نقل الأسماء الأعجميّة.
يبقى أمامنا اختياران بين موقعين يقعان على مسافة متقاربة من مدينة تونس: المحمدية « طنبذة » (حوالي 15كم) و أوذنه « أوتينا » (حوالي 22 كم). لو راجعنا خارطة منطقة تونس الكبرى وما يحيط بها من الجبال والأنهار والسهول جنوبي حمام الأنف، « منتهى الأرض المعروفة بمرناق » حسب تعبير التيجاني26، لتأكد لدينا أن فحص مرناق الذي تطل عليه « أوتينا » إنما هو جزء من سهول فسيحة الأرجاء تمتد إلى جهة الغرب مجتازة وادي مليان إلى المحمدية-« طنبذة »، المشرفة من فوق هضبتها على الطريق المؤدية إلى تونس.
من المؤكد أن « طنبذة » مهما تغيرت قراءتها بفتح الطاء والباء و الذاء وسكون النون (حسب قراءة حسن حسني عبد الوهاب استنادا إلى ياقوت الحموي27 أو بضم الطاء والباء (« طنبذ » حسب البكري أو « طنبذة » مثلما تردد ذكرها من قبل بقية المؤرخين) هي، كما بدا لنا، من أصل أمازيغي (tiənḅəḍ أو tiənḅəḍt) وتعني القناة المغطاة أو الثقب من أين يتسرب الماء28. ولا يخفى أن حنايا زغوان إلى قرطاج تخترق هذا الموقع في شكل قناة تحت الأرض. مما يشير إلى أن المكان قد اقتبس هذا اللقب نسبة للحنايا إثر بنائها (120-130م) في عهد الامبراطور الروماني هدريانوس. إلا أن المؤرخين، كما يقول محمد الطالبي29، « لم يعثروا عن أي أثر له (أي « طنبذة ») في أي أطلس »، مضيفا: « وما أكثر أسماء المواقع القديمة التي لا نزال نجهل أماكنها ». فهل تخفي التسمية البربرية المعربة موقعا رومانيا قد يكون «طنوبا » Thanuba أو « طنولادا » Thanulada الذين بحث عنهما شارل تيسو Tissot Charles في هذه الجهة بدون جدوى؟
مثل هذه الاحتمالات كثيرة ولا يسعها إلا أن تكون افتراضات تستحق الذكر في انتظار العثور على ما قد يؤكدها أو يستبعدها29(مكرر). والأهم هو أن نتأكد قبل كل شيء من أهمية الموقع الذي صنفه حسن حسني عبد الوهاب ضمن « أحواز تونس » كما يقول30. وقد ذاع صيته منذ الأيام الأولى من الفتح العربي، إذ ارتبط اسمه بالأحداث الخطيرة التي عرفتها إفريقية لاسيما المحاولات المتتالية التي قام بها الفاتحون من أجل الاستيلاء على أكبر وأخطر معاقل الروم آنذاك وهي قرطاج ورادس وتونس. وذلك ليس بالغريب نظرا لوجوده على الطريق الداخلية المؤدية من القيروان إلى كل من تونس وقرطاج. وقد ترك به حسان بن النعمان في إحدى حملاته على قرطاج محلة من الجند31. كما ورد اسمه بوجه خاص ضمن أسطورة من أساطير الأولين وهي أسطورة الخضر عليه السلام حسب رواية البكري حيث قال: « وببحر رادس خرق الخضر عليه السلام السفينة وأن الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا الجلندي ملك قرطاجنة فخرق الخضر السفينة ببحر رادس وقتل الغلام بطنبذ وهي اليوم تسمى المحمدية. وهناك فارق موسى الخضر عليهما السلام. وطنبذ على أميال يسيرة من تونس ». وبدوره أضاف التيجاني32. بعد إعادة رواية الخضر والسفينة: « وأن الجدار أقيم بطنبذة القرية المعروفة بالمحمدية على أميال من تونس ».
أورد البكري هذه الرواية ذات الطابع الديني إثر حديثه عن سقوط تونس من جديد بأيدي البيزنطيين بعد أن فتحها حسان (حوالي سنة 78/697) وموجة التأثر الشديد الذي أحدثه ذلك الخبر في بلاط الخليفة الأموي بدمشق عبد الملك بن مروان وصدور النداء المنسوب إلى أنس بن مالك وزيد بن ثابت وهو: « من رابط برادس يوما فله الجنة حتما »33.
ويبدو أن تلك الشهرة لم تفارق « طنبذة » بل ازدادت قوة على أيام بني الأغلب حيث كان الحكام الجدد يقرؤون للقلعة ولصاحبها حسابا وأي حساب إلى حد أن أحد كبار قادة القلعة وأكبر أثرياء الجهة وهو منصور بن الجسامى الطنبذي، المتحالف مع أهل تونس، كاد أن يقضي على بني الأغلب في أول اصطدام بينه وبين زيادة الله الأول في سنة208 /823 بالقيروان. ثم تكررت انتصاراته ومنها تلك التي شهدتها في السنة الموالية (209/824)34 السباسب الممتدة شمالي القلعة.
والجدير بالملاحظة في هذا الصدد أن العسكر الذي بعث به الأمير الأغلبي إلى تونس لإخماد نار الفتنة، اختار الطريق الغربية المباشرة المارة أمام القلعة قبل أن يلتحم بالثائرين الذين كانوا ينتظرونه جنوبي سبخة السيجومي أين دار القتال في واقعة شهيرة عرفت بواقعة السبخة. وليس من المستبعد أن الالتحام بين الفريقين قد حصل في مكان غير بعيد عن الذي التقى فيه جيش حسان بن النعمان بالجيش البيزنطي والذي أطلق عليه البكري خطأ أو صوابا اسم « فحص تونس « المتقدم على » أرطه ». فهل « أرطه » البكري هي « طنبذة العرب » و « طنبذة العرب » هي « طنوبا » أو « طنولادا » اللاتينيتان أو غيرهما من التسميات القديمة المندثرة؟
إذا قارنا بين الموقعين « أوتينا » و « طنبذة » المتقاربتين من حيث الأهمية الجغرافية إذ كلتاهما تقعان على نفس المسافة تقريبا من تونس وعلى نفس السهول العريضة الممتدة في جنوبها الأولى شرقي وادي مليان متقدمة أمام « فحص مرناق » والثانية غربيه متقدمة أمام فحص لا يستبعد أن يكون هو الذي أطلق عليه البكري « فحص تونس »، فإن الفوارق تبدو شاسعة بينهما من حيث الأهمية التاريخية والاستراتيجية. ذلك أن موقع « أوتينا »، على الرغم من الازدهار الذي شهده خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، فإنه لم يكن ذا شأن كبير في القرون الأخيرة من العصور القديمة كما أن العرب، مع أنهم استوطنوا به، فإنهم على ما يبدو لم يعيروه اهتماما كبيرا35.
على عكس « طنبذة » المقابلة في الضفة الغربية لوادي مليان التي أخذت مكانة استراتيجية ممتازة، كما أسلفنا، طوال القرنين الثاني والثالث/ الثامن والتاسع وربما إلى القرن الرابع أيضا حينما بدل الفاطميون اسمها بالمحمدية36. ولعل انحدارها بدأ مع أفول نجم القيروان وصعود المهدية إلى مراكز القيادة ثم انقسام البلاد إلى ملوك طوائف إثر هجرة بني هلال كما كان الشأن بالنسبة للكثير من المدن والقرى والقلاع والحصون الإفريقية حتى أن عددا كبيرا منها انقرض تماما.
فعلا، كل الشواهد تشير إلى أن الموقع لم يعد يتمتع بنفس الأهمية الاستراتيجية العالية التي كان يتمتع بها خلال الثلاثة قرون الأولى من تاريخ إفريقية وتونس. إلا أنه بفضل طيبة مناخه الطبيعي ووفرة مياهه وموقعه القريب من الحاضرة، لم ينفك يستأثر باهتمام الحكام بما فيهم الحفصيون الذين كان لهم به، على ما يبدو، مقر منيع يلجؤون إليه عند الحاجة. ففي سنة 680/1281 عظم شأن الدعي ابن أبي عمارة المسيلي فبايعه أهل القيروان ثم أهل المهدية وصفاقس وسوسة. ومن القيروان توجه إلى تونس فخرج إليه الخليفة أبو إسحاق إبراهيم بالمحمدية أين تمت المواجهة ربما بـ »فحص تونس » فهزم السلطان ونهب ما جمعه (بـ « منزل المحمدية ») كما يقول الزركشي37 من الذخائر والخيرات. وفي رحاب « منزل المحمدية »38 نفسه أخذ البيعة العامة أبو يحيى زكريــاء بن اللحياني القادم بجيشه من طرابلس قاصدا العاصمة (2 رجب 711/14 نوفمبر1311)39.
ومن بعد الحفصيين استقر به كبار القادة المراديين ثم الحسينيين إما للراحة والاستجمام كما هو الشأن بالنسبة للداي اسطا مراد (ح.1047/1637-1050/1640) الذي بنى به قصرا ثم تلاه الوزير يوسف صاحب الطابع (ت. في سنة 1230/1815)، أو للاستقرار مثل شاكير صاحب الطابع بداية من سنة 1252/
401836 إلى أن اختاره أحد البايات الحسينيين وهو أحمد باشا (1253/1837-1271-1855) لبناء قصر أراده على منوال قصر فرساي بفرنسا41. وكان لقصر باردو باب يدعى بباب المحمدية42. مما يؤكد ما كان للمكان من الأهمية بالنسبة للأسرة الحسينية الحاكمة.
الآن وقد استبان لنا، عن طريق التحاليل الجغرافية والتاريخية، الموقع الذي نرشح أنه قد يكون » أرطه » البكري43 والذي تسمى به أحد أهم أبواب تونس في العصور الأولى من انتصاب الدولة الإسلامية، مستعيرا منه هويته، علينا أن نبحث عن عنوان الباب بصفة أدق في السور الغربي مع الأمل أن نكون بذلك قد ألممنا بأهم عناصر « بطاقة تعريفه ».
لم تساعدنا التحاليل الطبونيمية والطبغرافية المستوحاة من وصف البكري على حصر موقع الباب إلا بصفة مبهمة ما بين بطحاء القصبة ومقبرة سيدي أحمد السقاء وباب العلوج. وهو مجال فسيح ليس بالدقة المرجوة. وفي انتظار ما قد يُعثر عليه من الوثاق في المستقبل، لا يسعنا إلا أن نكتفي بما يجوز استنتاجه من مرفولوجية المدينة الحالية (مثال 5) وهي كما لا يخفى تشكل بحد ذاتها وثيقة تاريخية ذات مرجعية لا يستهان بها، بالإمكان الاستناد إليها والاعتماد عليها مع اتخاذ ما يجب من التحريات بطبيعة الحال. وقد سبق أن استنتجنا من خلال قراءة خريطة المدينة وجود محورين يخترقانها واحد شمالي جنوبي يبدأ من باب سويقة وينتهي بباب الجزيرة وآخر شرقي غربي ينطلق من باب البحر مرورا بنهج جامع الزيتونة وينتهي في آخر ساحة الحكومة أمام بطحاء القصبة. هنا في نقطة التقاطع بين الساحة والشارع الذي أخذ مكان السور والبطحاء قد يجوز التنقيب عن الباب الغربي المفقود (مثال2 و5).
لاكتمال الصورة لا بد من أن نبحث عن مسالك الطرقات الخارجية التي كانت تنطلق من أمام هذا الباب متجهة نحو الغرب وآفاقه الواسعة إلى أن تم تحويل وجهتها إلى خارج القصبة الجديدة التي أقامها عبد المؤمن بن علي بعد فتح مدينة تونس في 555/1160. ولا نعلم إن وقع الاحتفاظ آنذاك بالباب من أجل تمكين المتساكنين من النفاذ أمام معقل الحكام الجدد ورمز سلطتهم أم على عكس ذلك، تم التخلي عنه لأمور أمنية تهدف إلى عزل المدينة عن القصبة وهذا هو الأرجح.
في مقدمة تلك المسالك يأتي بالطبع مسلك القيروان الداخلي الذي يصل من القيروان مرورا بالفحص («فحص أبي صالح ») إلى المحمدية (« أرطه » - « طنبذة »؟) إلى « فحص تونس » إلى أن يقترب منسبخة السيجومي أين يتفرع في اتجاهين رئيسيين واحد يحاذي السبخة شرقا والآخر يجانبها غربا. الأول يمر من المروج فالكباريه فالوردية إلى قصبة تونس والثاني يقتفي طريق سيدي حسين فحي الزهور فالملاسين فالرابطة أين كانت قصور بني الأغلب فباب العلوج فالقصبة.
ولا شك أن هذا الباب كان أيضا منتهى المسالك الكبرى القادمة من أقاصي الإمارة الإفريقية مثل بونة وتبسة إلى أدناها مثل باجة والكاف وطبرقة مرورا بمجاز الباب ملتقى الطرقات ذي الأهمية الاستراتيجية على وادي مجردة. تلك المسالك ذات الأصول الرومانية التي كانت تنتهي في سابق الأزمنة على تخوم الحاضرة الكبرى قرطاج، والتي تحولت وجهتها إلى تونس بعد أن أرتقت هذه الأخيرة منذ أوائل القرن الثاني/الثامن إلى قاعدة عسكرية وقطب اقتصادي وتجاري شديد المنافسة للقيروان.
الهوامش
1 أبو عبيد البكري ، 1857، ص 39-40.
2
عبد العزيز الدولاتلي ، 1976.
3 أبو عبيد البكري، 1968، ص 42.
4 كان من المفروض أن تتم الإشارة هنا إلى باب البحر، الباب الثاني في ترتيب البكري، إلاّ أنه من الأكيد أنه قد تم اسقاطه غلطا من طرف الناسخ. والسبخة هي المستنقعات المعروفة منذ القدم والتي كان يفتح عليها باب البحر قبل أن تتم إزالتها مع إنشاء المدينة الأوروبية.
5 أبو عبيد البكري، 1968، ص 39-40.
6 محمد العبدري 1968، ص 40.
7عبد العزيز الدولاتلي، 1976، ص 45.
8 حسن حسني عبد الوهاب ، 1972، ج1، ص 293.
9 الإدريسي، ص 81.
10 عبد العزيز الدولاتلي ، 1976، ص 45.
11 توفيق البشروش، 1999، ص 264.
12 توفيق البشروش ، 1999، ص 158.
13 عبد العزيز الدولاتلي، 1981، 45 ص(120).
14 عبد الله التيجاني ،1958، ص 11.
15 أبو عبيد البكري، 1968، ص 7.
15(مكرر) أنظر بالخصوص ما أضفناه استدراكا منأخرا ضمن التعليق عدد 43 أسفل هذا النص حيث أشرنا إلى موقع قديم يحمل اسم هورطا Horta ذكره الأب جان مسناج Jean Mesnage في كتابه:
Le christianisme en Afrique, déclin et extinction, 1915, p. 55
16 أبو عبيد البكري، 1968، ص 37. أنظر أيضا:
Mohamed Talbi, L’Emirat aghlabide 184-296/800-809. Histoire politique, Librairie d’Amérique et d’Orient, Adrien-Maisonneuve, Paris, 1966, p 173.
17 محمد الطالبي، 1966، ص 171-172.
18 Saida Ben Mansour, 1993, p.4.
18(مكرر) ينفي أحمد مشارك المختص في التاريخ القديم حسب ما أفادني به مباشرة أن هوراتيا Horatia هو اسم قبيلة بربرية بل هو اسم لإحدى الدوائر التابعة لروما.
21 Paul-Louis Cambuzat, 1986, T2, p. 21.
22 نفس المصدر السابق، ص .145 هنالك افتراض بأن هذه القلعة إنما هي قلعة سنان بجهة القيروان.
28 Jean Delheure, 1984.
29(مكرر) على سبيل المثال الموقع الذي استكشفناه مؤخرا و لم يتسن لنا التقق من هويته وهو الموقع الحامل لاسم هورطا Horta الذي ذكره الأب جان مسناج Jean Mesnage في كتابه : Le christianisme en Afrique, déclin et extinction, 1915, p. 55. (انظر بالأسفل الملاحظة عدد 43).
31 Mohamed Talbi, 1966. المالكي (رياض) ،جI، ص 37.
34 Mohamed Talbi, 1966, p 170-175.
35 انظر بوجه خاص: Saida Ben Mansour, 1993, p 4.
36 قام الفاطميون بإعادة تسمية المسيلة (الجزائر) بالمحمدية أيضا (البكري ص59). و توجد محمدية ثالثة بالمغرب الأقصى غير بعيد عن الدار البيضاء. Ahmed M’charek, Deux cités voisines d’Afrique procondulaire :Uthina/Oudhna et Thimida Regia/Mohammedia. Enquete archéologique et historique (résumé), Paris, le 11 décembre 2004. كما أن الأستاذ إبراهيم شبوح المختص في التاريخ و اللآثار الإسلامية يِؤهل موقع أذنة Uthina على موقع طنبذة-المحمدية لعدة أسباب من أهمها أن أرطة إنما هي تصحيف لأذنة قام به أحد النساخ في أوائل القرون الوسطى و قد يكون البكري نفسه هو صاحب التصحيف. هذا و قد عثرت أخيرا و هذا المقال مودع للنشر على معلومة بالغة الأهمية كان علي أن أضيفها هنا في انتظار التثبت من مصداقيتها ملحقا وهي أن موقعا يحمل اسم هورطا Horta ذكره الأب جان مسناج(Jean) Mesnage في كتابه: Le christianisme en Afrique, déclin et extinction, 1915, p. 55.
ضمن ثلاثين إبراشية كانت موجودة في مكان ما بين وادي مجردة و مليان ما في سنة 646 أي سنة قبل غزوة عبد الله بن سعد لإفريقية في سنة 27 هـ الموافق ل647 ميلادي.
17(مكرر) الجدير بالذكر أن الخارطة التي أعدها الراهب بونتنكار Table de Peutinger من مدينة كلمار Colmar في سنة 1265م وهي نسخة من خارطة رومانبة قدبمة تضبط طرقات و مسالك الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثالث م لا تشير لأي موقع يحمل إسم طنبذة أو ما شابهه و لا حتى اسم تميديا ريجيا Thimida Regia الذي يعتقد الأستاذ أحمد مشارك أنه اسم طنبذة الروماني الأصلي. على عكس أذنة Uthina المشار إليها بكل دقة على مسلك تونس Thuni، قرطاج Karthago، رادس Maxula ف Uthina و أخيرا الفحص Thuburbo Majus
19 نفس المصدر السابق، ص 59.
20 محمد الطالبي، 1966، ص .125.
23 محمد حسن، 1999، ص 299.
24 محمد حسن، 1999، ص 37.
25 محمد حسن، 1999، ص 37.
26 عبد الله التيجاني، 1958، ص 11.
27 حسن حسني عبد الوهاب، 1972، ج 3، ص 283 . ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج 6 ص 61.
29 Mohamed Talbi, 1966, p. 171-172.
30 حسن حسني عبد الوهاب، 1972، ج 3، ص 283.
32 عبد الله التيجاني، 1958، ص 8.
33 عبد الله التيجاني، 1958، ص 37.
Habib Ben Hassen et Louis Maurin, Oudna(Uthina), la découverte d’une ville antiquede Tunisie, INP, 1998.
37 الزركشي، 1966، ص 46 . ابن أبي دينار، 1967، ص 139.
38 الزركشي، 1966، ص 62.
39 نفس المصدر السابق، ص 62.
40 أحمد ابن أبي الضياف، 1985، ج 4، ص 70.
41 نفس المصدر السابق.
42 ابن أبي ضياف، 1985، ج 4، ص 109.
43 لم ينل هذا الافتراض موافقة محمد مشارك الأستاذ الجامعي المختص في التلريخ القديم الذي يرى أن طنبذة ليست إلا تميديا ريجيا الرومانية Thimidia Regia أي الموقع المعروف حاليا بالمحمدية و لا يمكن بأية حال أن تكون نفس الموقع الذي تحدث عنه البكري في أواسط القرن الحادي عشر أي أرطة.
المصادر والمراجع
ابن أبي دينار، 1967، المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس، المكتبة العتيقة، تونس.
ابن أبي الضياف أحمد، 1985، اتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، دولة أحمد باي، تحقيق أحمد عبد السلام، تونس 1985، ج 4.
البكري أبو عبيد،1857، المسالك والممالك، جزء المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، مكتبة المثنى، بغداد.
البكري أبو عبيد، 1968، المسالك والممالك، الجزء الخاص بجغرافية الأندلس وأوروبا، دار الإرشاد.
الدولاتلي عبد العزيز، 1976، مدينة تونس في العهد الحفصي، تونس.
العبدري محمد، 1968، رحلة العبدري، جامعة محمد الخامس، الرباط.
التيجاني عبد الله، 1958، رحلة التيجاني، المطبعة الرسمية، تونس.
عبد الوهاب حسن حسني، 1972، ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية التونسية، مكتبة المنار، تونس.
البشروش توفيق، 1999، موسوعة مدينة تونس، البرنامج الوطني حول المدن التونسية، السلسلة التاريخية، تونس.
حسن محمد، 1999، المدينة والبادية بإفريقية في العهد الحفصي، تونس.
الزركشي، 1966، تاريخ الدولتين الموحدية والحصفية، المكتبة العتيقة، تونس.
Ben Mansour Saida, 1993,Uthina, ANP.
Ben Hassen Habib et Maurin Louis, 1998, Oudna(Uthina), la découverte d’une ville antique de Tunisie, INP, Tunis.
Cambuzat Paul-Louis, 1986, L’évolution des cités du Tell en Ifrikiya du VIIe au XIIe siècle, Office des publications universitaires, Alger.
M’charek Ahmed, 2004, Deux cités voisines d’Afrique procondulaire :Uthina/Oudhna et Thimida Regia/Mohammedia. Enquete archéologique et historique (résumé), Paris.
Talbi Mohamed,1993, L’Emirat aghlabide 184-296/800-809, Histoire politique, Librairie d’Amérique et d’Orient, Adrien-Maisonneuve, Paris 1966.
Delheure (Jean), 1984, Dictionnaire mozabite-français, publié avec le concours du CNRS par SELAF, Paris 1.
الكاتب
عبد العزيز الدولاتلي
أستاذ متميّز ـ المعهد الوطني للتراث.