Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

Numéros en texte
intégral

Numéro 11

2021 | 11

تحصينات طرابلس الغرب من القرن السادس عشر إلى 1835: دراسة من خلال المصادر الأدبية التاريخية والنقائش التخليدية

علي الشايب بن ساسي و مصطفى البركي

الفهرس

الملخّص

يهدف هذا العمل إلى دراسة تحصينات مدينة طرابلس الغرب من بداية القرن السادس عشر إلى نهاية الفترة القرمانلية على ضوء المصادر التاريخية. فقد شهد سور المدينة عبر التاريخ إضافات كبيرة، ح عمل الحكام العثمانيون، وبصفة متواصلة، على مزيد إحكامه بمجموعة من الأبواب والأبراج التي من شأنها أن تصدّ الهجمات البحرية المتكررة. وسنحاول في هذا البحث دراسة أهم العمائر ذات الصلة بالتحصينات من خلال الدراسات التاريخية واستئناسا بالنقائش التخليدية التي لم تعن بالاهتمام الكافي إلى حد اليوم.

الكلمات المفاتيح

تحصينات، برج، سور، طرابلس الغرب نقائش، فترة عثمانية.

Résumé

Ce travail vise à étudier les fortifications de la ville de Tripoli d’Occident dès le début du XVIe siècle jusqu’à la fin de la période des Qaramanli. Au fil des siècles, les Ottomans (1551-1911) ont toujours veillé à renforcer les fortifications des murailles par un ensemble de portes et de tours afin de repousser les attaques navales répétées. Dans cet article, nous tenterons d’étudier, d’un point de vue historique, les monuments les plus importants liés aux fortifications, notamment les inscriptions monumentales, qui n’ont pas fait, jusqu’aujourd’hui, l’objet d’une attention particulière.

Mots clés

Tripoli d’occident, fortifications, tour, murailles, épigraphie, période ottomane.

Abstract

This work aims to study the fortifications of the city of Tripoli from the beginning of the 16th century until the end of the Qaramanli. Over the centuries, the Ottomans were always careful to reinforce the fortifications of the walls with a set of gates and towers in order to repel repeated naval attacks. In this work, we will try to study, from a historical point of view, the most important monuments related to the fortifications, especially the monumental inscriptions, which have not been the object of particular attention until now.

Keywords

Western Tripoli, Ottoman Period, Wall, Fortifications, Tower, epigraphy.

المرجع لذكر المقال

علي الشايب بن ساسي و مصطفى البركي، « تحصينات طرابلس الغرب من القرن السادس عشر إلى 1835: دراسة من خلال المصادر الأدبية التاريخية والنقائش التخليدية »، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 11، سنة 2021.

URL : https://al-sabil.tn/?p=12347

نص المقال

المقدمة

يجمع الرحالة الذين مروا من القطر الليبي، خلال مختلف الفترات التاريخية، على متانة مدينة طرابلس الغرب وعظمة تحصيناتها، والتي لايزال جزء منها قائما إلى يوم الناس هذا. وقد أشادت مجموعة من الدراسات التاريخية والأثرية بالسور والأبراج التي شيدت في فترات متعاقبة كان للعثمانيين دور كبير في ترميم جملة من العمائر ذات الصلة بالمنشات الدفاعية أو بنائها. وقد حظيت التحصينات بشغف الدراسة والتمحيص منذ فترة الاستعمار الايطالي، حيث حاول الباحث الايطالي سلفاتوري أوريجما (Salvatore Aurigemma) إماطة اللّثام عن أغلب أجزاء السور وأبراجه، لتبقى دراسته مرجعا في ذلك1. وقد تتالت الدراسات التاريخية والأثرية الحديثة المهتمة بالعمائر التاريخية الطرابلسية، فظهرت حديثا بعض الدراسات القيمة والمهتمة في جزء كبير منها بالتحصينات، ونعني بذلك دراستي المهندس علي الميلودي عمورة الذي انصب اهتمامه حول المدينة وتحصيناتها محاولا وضع وصف دقيق للمعالم الدفاعية للمدينة وأهم إضافات كل حقبة من حقبات تاريخ المدينة2.

رغم أهمية تلك الدراسات التي اعتمدت في مجملها على الوصف المباشر والمصادر التاريخية الأدبية، فإنها غيبت في قسم كبير منها المصادر النقائشية. وسنسعى في هذه البحث إلى دراسة تحصينات المدينة بالاعتماد على المصادر والمراجع التاريخية الأدبية مستعينين بالنقائش التخليدية التي تم اكتشافها خلال الفترة المنقضية، وسنركز الاهتمام في هذه الدراسة خاصة على الفترة العثمان (1551-1835) وذلك بعد إعطاء لمحة عامة عن وضعية تحصينات طرابلس في الفترة الإسلامية المبكرة إلى حدود منتصف القرن السادس عشر.

1. ومضة تاريخية عن تحصينات المدينة من الفترة الإسلامية المبكرة إلى مطلع القرن السادس عشر

كانت مدينة طرابلس قبل الفتح الإسلامي محصنة بأسوار، وقد ورد ذلك في ذكر فتح المسلمين لها حيث تجمع المصادر على أن المدينة كانت جد محصنة من الجهات المطلة على اليابسة فيما خلا ذلك جهة البحر، ولذلك لم يتمكن المسلمون من اقتحامها بسهولة إلا بعد حصار دام فترة طويلة، تمكن الفاتحون خلالها من اكتشاف ثغرة في أسوار المدينة فتسللوا منها وفاجؤوا البيزنطيين المتحصنين بها. وعندما تم الفتح أمر عمرو بن العاص بهدم أسوار المدينة خوفاً من عودة البيزنطيين وتحصنهم خلفها. وبعد استتباب الأمور بطرابلس قام الفاتحون بإعادة بناء أسوارها من جديد، حيث قام عبد الرحمن بن حبيب والي إفريقية (سنة 132هـ/ 749-750م)، ببنائها من جهة البر ولم تحط طرابلس بسور من جهة البحر إلا أثناء ولاية هرثمة بن الأعين والي إفريقية (180هـ/ 796-797 م)3 الذي عهد ببنائها إلى أحد ثقاته زكريا بن قادم4.

وقد وردت العديد من الإشارات التاريخية لدى الرحالة والجغرافيين التي تشيد بتحصينات طرابلس ومتانتها. وفي هذا الصدد سنذكر أهم تلك الإشارات. حيث ذكر ابن خرادبة في كتاب المسالك والممالك أن طرابلس كانت في النصف الأول من القرن الرابع الهجري مدينة محصنة بقوله : « وأما طرابلس المغرب فهي من عمل إفريقية، وهي مدينة مبنية من الصخر على ساحل بحر الروم، خصبة واسعة الكورة حصينة جداً »5. ويذكر ابن حوقل، في كتابه وصف الأرض بأنها : » مدينة بيضاء من الصخر الأبيض على ساحل البحر، خصبة حصينة … »6، ويضيف المقدسي بوصفها في القرن الخامس الهجري في كتابه أحسن التقاسيم بقوله : « واطرابلس مدينة كبيرة على البحر، مسورة بحجارة وجبل، لها باب البحر وباب الشرق وباب الجوف وباب الغرب… »7، وامتدح البكري سورها في كتابه المسالك والممالك بقوله: « وعلى مدينة طرابلس سورضخم جليل البنيان… »8.

إن أدق المصادر التاريخية التي كتبت عن عمارة طرابلس بصفة عامة وأسوارها بصفة خاصة وأكثرها تفصيلاً هو كتاب « الرحلة » للتيجاني،9 الذي زار المدينة في الفترة ما بين 1306 و 1308م، والذي كان كاتباً للوزير الحفصي أبو يحيى بن أحمد اللحياني، حيث يورد : « ورأيت بسورها من الاعتناء، واحتفال البناء، ما لم أره لمدينة سواها، وسبب ذلك أن لأهلها حظا من مجباها، يصرفونه في رم سورها، وما تحتاج إليه من مهم أمورها، فهم لا يزالون أبدا يجددون البناء فيه، و يتدارکون تلاشيه بتلاقيه، ورأيتهم قد شرعوا في حفر خندق متسع يرومون أن يصلوه بالبحر من كلا جانبي البلد، وابتداء حفره من الركن الذي بين القبلة والمشرق وعارضهم في حفره هنالك موضع يعرفونه بالرملة، وهو حقف رمل متسع لاصق إلى جانب السور ولا يزالون أبدا يتكلفون نقله من ذلك الموضع فإذا جهدوا جهدهم في حمله ورميه في البحر إعادته الريح كما كان لا تقدمه عن موضعه ولا تؤخره »10. من خلال هذا الوصف المهم نستشف أن لأسوار طرابلس جزءًا من أموال الوقف تصرف على ترميمه وصيانته. هذا الإجراء تواصل العمل به خلال الفترة العثمانية، وهو ما نستشفه من العديد من وثائق الوقفيات التي لا تزال محفوظة بدار المحفوظات التاريخية والتي ترجع للعهدين العثماني و القرمانلي. يعد هذا الرحالة أيضا شاهد عيان على عملية إحاطة سور المدينة بخندق إمعاناً في تحصينها. وبالنسبة إلى هذا الأخير فان التيجاني يورد في رحلته مرورا بطرابلس (706-708 هـ / 1306 – 1308 م) بقوله : « ورايتهم قد شرعوا في حفر خندق متسع يرومون أن يصلوه بالبحر في كلا جانبي البلد وابتداء حفره من الركن الذي بين القبلة والمشرق »11. يبدو أن هذا الأمر قد بطل فيما بعد، ففي الفترة القرمانلية اقتصر على اتخاذه مقرا للحرس، حيث تشير توللي في رسالتها المؤرخة في سنة 1783 بقولها « حين تقصد نحو قصر الباشا تطالعك خنادقه أول الأمر وهي الخنادق التي يتمركز فيها حرس الباشا الخاص »12.

وفي مطلع القرن السادس عشر هُدّمت أجزاء كبيرة من أسوار المدينة عند اقتحامها من قبل الإسبان. ويوجد لدينا وصف لتحصينات المدينة وأسوارها من قبل ناتستينودي تونسيس وهو أحد العسكريين الإسبان الذين شاركوا في الحملة الاسبانية على مدينة طرابلس بقيادة القائد بدر دي نافارا سنة 131510.

2. الإضافات المعمارية العسكرية في فترة الإحتلال الاسباني
(1510-1530)

قام الإسبان الذين سيطروا على مدينة طرابلس لمدة عقدين من الزمن تقريبا بالعديد من الإصلاحات والإضافات على تحصينات المدينة وقلعتها. فوضعية سور المدينة قبل الاحتلال الاسباني لم تكن على نفس الهيأة التي كانت عليها بعد سنة 1510 مما أحدث تغييرا نسبيا في هيكلة المدينة وهو ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار. فعديد المنشآت التي تحدث عنها بعض الرحالة لم تكن تنتمي للنواة الرئيسية للمدينة الشيء الذي أحدث تقريبا في الجهة الشمالية من سورها، إذ يشير المهندس علي الميلودي عمورة إلى أن سور المدينة من هذه الجهة قد شهد تغييرات بعد الاحتلال الاسباني ومن المحتمل أن يتخذ السور مسارا غير المسار المتعارف عليه مرورا بحصن المندريك وصولا إلى ما يعرف بموقع سيدي الهدار. ومن المؤكد أنه كان يمتد من باب البحر وصولا إلى خزان الماء حاليا بالقرب من جامع سيدي المشاط. وفي الركن الشمالي الشرقي لسور المدينة أحدث الإسبان ما يعرف ببرج فرارا أو برج الإسبان14 وذلك بعد بناء برج المندريك15 (شكل 1).

وقد شهدت قلعة طرابلس أيضاً بعض الإضافات والتعديلات أثناء فترة احتلال الإسبان لمدينة طرابلس. فعندما قاموا باحتلالها سنة 1510 كان قد لحق بالقلعة وأسوار المدينة الكثير من الدمار مما حدا بهم إلى إعادة بنائها لتكون حصناً يحميهم من الأهالي الذين قاوموا ذلك الاحتلال بكل ما أوتوا من قوة. فقد جمع الإسبان الركام الناشئ من دمار أسوار المدينة والكثير من مبانيها وعملوا على تحصين القلعة بأسوار قوية ومدفعية ضخمة. في هذا الصدد يصف ليون الإفريقي حال طرابلس التي زارها سنة 1518م حيث يذكر بأن الإسبان قاموا بتجديد قصر طرابلس أي قلعتها وتجديد أسوارها16. وعلى الرغم من اختلاف الآراء بين الباحثين عن أصل بناء القلعة، فإن أقدم الآثار الباقية بها الآن تعود إلى الأعمال التي قام بها الإسبان الذين بنوا أو جددوا الحصن أو البرج الجنوبي الذي أسموه حصن القديس جورج، والذي يقابل حالياً شارع محمد المقريف، والذي يشبه في شكله مقدمة السفينة. كما بنوا الحصن الغربي الذي أسموه حصن القديس يعقوب والذي يقع حاليا قرب برج الساعة. وهذان الحصنان أو البرجان يواجهان المدينة حيث يسكن الأهالي المقاومون لهم. كما قام الإسبان أيضا ببناء البرج الشرقي حيث يبدأ شارع الفتح حالياً وأطلقوا عليه اسم القديس جاكمو وذلك تخليداً لذكرى اليوم الذي سقطت فيه مدينة طرابلس بأيديهم، حيث صادف ذلك اليوم عيد القديس يعقوب. أما الساحة الملاصقة لذلك البرج والمطلة على ميدان الشهداء اليوم فقد أطلق عليها الإسبان ساحة القديسة باربرا والتي يطل عليها مسكن الوالي ومخزن الذخيرة.

في سنة 1530 سلمت طرابلس إلى فرسان مالطة الذين ضلوا بها إلى حدود 1551 تاريخ قدوم العثمانيين. وقبل الموافقة على استلامها من الملك قدّم فرسان القديس يوحنا وصفا دقيقا عن حالة المدينة وتحصيناتها وما تحتاجه من إصلاحات. ولم تكن مدة إقامة الفرسان، والذين كان عددهم ثمانية، في طرابلس طويلة ولكن الوصف الذي كتبوه كان دقيقا. حيث جاء هذا الوصف مفصلا في آخر العهد الاسباني. وقد يكون من الأفضل نقل بعض النقاط مما جاء فيه لنلقي صورة عن حالة طرابلس الحقيقية في هذا العهد. جاء في هذا التقرير : طرابلس صافية الأديم وهواؤها صحي وهي غير معرضة للأمراض السارية، ويبلغ محيط سورها 3728 خطوة ثلثاه يطل على البحر والثلث الأخر يشرف على البر. وقد هدّم من الأسوار مائتا خطوة لتحصين القصر وإن الباقي من الأسوار مبني على الأساليب القديمة ويهدده الخراب. ويبلغ علو الأسوار قصبتين ونصف ( أي تقریبا 6 م)، أما الخنادق فضيقة وغير عميقة والمباني مهدمة. وفي طرابلس آبار وصهاريج للمياه وتشرف على الميناء والقصر على وجه الخصوص ومن المتحتم الإعتناء بإعادة بناء الأسوار وفقا للأساليب الحديثة ولذلك يجب استجلاب مواد من حجارة وجير وبلاط من بلاد أخرى . ولم يدخل الفرسان إلى القصر بسبب انتشار مرض بل قاسوا محيطه من الخارج فكان الجانب الذي يطل على میدان السراي اليوم يبلغ طوله 160 خطوة أما الجزء الذي يشرف على سوق المشير اليوم فيبلغ 200 خطوة. أسوار القصر خمس قصبات أي 12 مترا تقريبا ويحيط بالقصر خندق عرضه 44 خطوة. وجاء في قرار الفرسان الثمانية: وقد نخرت قواعد القصر من مياه البحر … ولكنه في حاجة ماسة إلى إصلاحات كبيرة وترميمات ضرورية وفي القصر بعض المطاحن اليدوية الجيدة17.

نستشف من خلال هذا الوصف الدقيق أن أسوار المدينة وقلعتها تحتاج إلى ترميمات وتعديلات وهو ما تعهدت به البعثة ناهيك وأنها أشارت إلى النواقص وطرق التدخل والمواد المزمع الإتيان بها. لكن لم نجد اثرا لهذه التدخلات بالمصادر الأدبية والأثرية مثلما كان الحال في الفترتين الاسبانية والعثمانية.

3. الترميمات والتعديلات لسور مدينة طرابلس خلال العهد العثماني الأول (1551-1711)

شهدت تحصينات عاصمة الإيالة خلال العهد العثماني الأول من سنة 1551 إلى حدود 1711، تاريخ انتقال السلطة إلى القرمانليين، تغييرات جذرية. فقد عُهد إلى الحكام الأوائل خاصة الاهتمام بالمشهد العمراني للنواة الرئيسة للمدينة ناهيك وأنها شهدت صراعات دامية بين الإسبان والعثمانيين قبل أن يستقر الوضع في النهاية لصالح القوات العثمانية. فمنذ البداية انكب الولاة الأوائل على ترميم قسم كبير من سور المدينة الذي تعرض إلى هجمات المدفعية الاسبانية وتمتينه. وفي منتصف القرن السادس عشر انكب اهتمام مراد آغا على ترميم السور، حيث يشير شارل فيرو أن هذا الوالي أول من اهتم بترميم السور الذي يكاد يكون حطاما جراء الصراع الذي نشب بين القوات العثمانية والإسبانية18. وفي الحقيقة كان هذا العمل استراتيجيا لصد الهجمات البحرية المحتملة، خاصة وأن الصراع العثماني الإسباني بالمتوسط لا يزال على أشده في تلك الفترة.

1.3. برج المندريك بين الأصول الإسبانية والتعديلات العثمانية

يقع برج المندريك في الشمال الشرقي لمدينة طرابلس عند مدخل المرفأ (شكل 1 و2). والمندريك اصطلاح بحري (تركية مندرك) بمعنى رصيف أو ميناء صناعي19. عرف هذا الحصن بعدة أسماء منها القلعة الإسبانية (كاستيلاجو). ويسميه ميلانوفيتش برج البحر أو القلعة البحرية في تقريره عن تحصينات طرابلس20. وكان الغرض من بناء هذا الحصن هو الدفاع عن مدخل الميناء وحماية السفن الراسية به. ويعرف في بعض الخرائط ببرج درغوث (fort Dragon) وفي البعض الآخر ببرج شارلكان (fort Charles-Quint) كما يطلق عليه أحيانا حصن الإسبان (شكل عدد 2) مثله مثل البرج الواقع في الركن الشمالي الشرقي للسور.

.شكل 1. الأبراج والأبواب لمدينة طرابلس
المصدر : عمل الباحثين

تضاربت الآراء حول تاريخ بناء برج المندريك حيث يرى أغلب الباحثين أن البرج بناه العثمانيون وتحديدا في فترة حكم مراد آغا (1551-1552)، في حين يرى آخرون أن البرج بني في فترة الاحتلال الاسباني للمدينة (1510-1530) حيث يرى شارل فيرو أن برج المندريك شيد على إحدى الجزر الصخرية الصغيرة من الجهة الشمالية أثناء فترة الاحتلال الإسباني للمدينة (1510-1530) للدفاع عن مدخل المرفأ وحماية السفن الراسية بين البرج والمدينة. ويضيف عمر محمد الباروني أنه عندما شعر الإسبان بان تحصينات طرابلس غير كافية لرد هجوم تركي كبير صرفوا اهتمامهم لإضافة أبراج أخرى لتحصينات المدينة وشرعوا في بناء برج المندريك عند مدخل الميناء21.

لكن الملفت للانتباه أن الأنصاري يرى أن المعلم شيده أحمد باشا القرمانلي22 وهو ما لا نعتقده، فلا يمكن أن يبقى الميناء والجهة الشرقية لسور المدينة طيلة الفترة العثمانية الأولى (1551-1711) عرضة للهجمات البحرية في ظل صراع دائم مع القوات البحرية الأوروبية خاصة منها الاسبانية. لذلك يمكن أن يكون تدخل أحمد باشا في إطار الترميم وهو ما أشارت إليه بعض المراجع23. كما قام عثمان باشا الساقزلي قبله بإعادة بناء ذلك البرج وتحصينه سنة في 1072 هـ/1661م24. وفي ظل غياب نصوص نقائشية نستند إليها، يمكن الاعتماد على الصور والخرائط والرسومات القديمة، وبذلك لا نستبعد فرضية بنائه في النصف الأول من القرن السادس عشر إلى حدود فترة حكم درغوث باشا. ومنذ تلك الفترة تتالت عمليات التعديل والترميم للمعلم ليصبح ضمن اهتمامات الحكام طيلة الفترة العثمانية. ولم يبق لهذا المعلم أي اثر ما عدا بعض الصور الأرشيفية التي تعود إلى بداية القرن العشرين وهي توضح بقايا للبرج (صورة 1) الذي لم يعد موجودا سنوات قليلة بعد الغزو الايطالي للمدينة.

.شكل 2. موقع برج المندريك
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس
.صورة 1. صورة أرشيفية لبرج المندريك (أوائل القرن العشرين)
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار- طرابلس

2.3. برج « الفرارا » بين الأصول الاسبانية والتدخلات العثمانية

يقع هذا البرج بالقرب من باب البحر في الزاوية التي يلتقي فيها الضلع الشمالي الشرقي مع الضلع الشمالي الغربي (شكل 1، صورة 2). عرف المعلم بعدة أسماء منها البرج الأحمر والبرج الإسباني (برج القديس بيتر) وبرج الفرارا وحصن درغوث باشا، حيث قام هذا الأخير بتطويره واستبداله بحصن أكبر وأقوى وتحويله إلى ما يشبه القلعة لدرجة أنه أصبح يضاهي القلعة من حيث الأهمية والموقع وحماية المدينة وباب البحر والميناء. من حيث الشكل جاء البرج مربعا دعمه درغوث بطابية وزوده بثمانية عشر مدفعاً، وله حاجز جيد جداً. وهذا البرج هو الذي احتله الجنود الأرنأوط الانكشارية عند محاولتهم الانقلاب على حكم محمد باشا القرمانلي ومنه قاموا باستهداف القلعة مقر سكن الباشا25. وتذكر المصادر أن هذا الحصن كان متصلا بالمدينة بواسطة جسر يفصله عنها في حالة رفعه. وقد ذكره النائب الأنصاري بقوله: « وفي أواسط شهر محرم سنة 1282هـ/ 1864 م احترق مخزن البارود (أو الجبخانة كما يعرف في الفترة العثمانية) الكائن بالبرج الأحمر وطارت أنقاضه وصخوره الهائلة في الجو بمن كان فيها من العساكر وعددهم نحو الثلاثمائة جندي، ووقعت بعض من تلك الصخور على البيوت المجاورة إليه فهدمت منها نحو الأربعين بيتا ، ومات فيها نحو المائة نسمة26 ».

.صورة 2. صورة أرشيفية لبرج فرارا 1914
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس

3.3. برج درغوث باشا

في ضل الصراع القائم بين العثمانيين والإسبان، وجه السلطان العثماني سليمان الأول (في 5 ديسمبر 1559) فرمانا إلى درغوث باشا (1552-1565) ينصحه فيه بتحصين ساحل طرابلس27. ويظل هذا الأخير من أهم الحكام العثمانيين الذين أولوا اهتماما واسعا بتحصينات المدينة، من خلال ترميمات لجزء هام من السور الشرقي وإصلاحات شملت الستارة الجنوبية الممتدة من القلعة وصولا إلى باب زناتة (باب الجديد حاليا)28.

أحدث درغوث باشا برج التراب في الجانب الشمالي الغربي من السور. سنة 1685 استخدمه الماريشال « دي استراي » أثناء إغارته على طرابلس29. يظهر من خلال موقعه بأن اختياره لم يكن اعتباطيا بل كان مدروسا جدا (أقصى شمال المدينة، شكل 1). فبهذا الانجاز أصبح السور الشمالي والمدينة بصفة عامة محميين من هجمات محتملة، لتصبح مدافع المعلم بمثابة دفاعات متقدمة. ويذهب بعض الدارسين، على غرار صلاح أحمد البهنسي30، أن هذا الحصن أحدثه مراد آغا وهو ما لم نجد له مبررا ضمن المصادر التاريخية، حيث اعتمد الباحث على ايتوري روسي31. رمم هذا المعلم في العهد العثماني الثاني وتحديدا سنة 1882، حيث زود ببعض المدفعية32.

4.3. دار البارود (975/ 1567-1568)

تعرف في بعض الخرائط باسم دار الجاروب وهي تسمية عثمانية. ويقع هذا المعلم بالركن الجنوبي الشرقي للمدينة بجانب باب المنشية المطل على سوق الخبز قديما وساحة الشهداء حاليا على مقربة من القلعة (شكل 1)33. فرغم قصر مدة إقامته بالمدينة ولتمتين التحصينات من جهة الجنوب (نهاية 1566 أوائل 1567)، فقد وضع قلج علي34 اللبنة الأولى لبناء دار البارود حيث تم بناؤها في سنة 975 هـ/1567-1568 م وهو ما نستشفه من خلال السطر الأخير من نص النقيشة التخليدية المثبتة في أعلى الحائط الجنوبي الشرقي للمعلم المطل بدوره على باب المنشية (صورة 4). وقد كتبت النقيشة بأحرف بارزة وبلغة عثمانية على محمل رخامي مستطيل الشكل (صورة 3)35. فقد كانت فترة حكم هذا الوالي قصيرة جدا أرسل من طرف حكومة الباب العالي للسيطرة على الأوضاع وإرجاع استتباب الأمن ناهيك وان الغزوات البحرية الاسبانية لازالت متكررة. وكمكافئة له أرسل قلج علي من طرف السلطان ليصبح واليا على الجزائر. لكن الملفت للانتباه أن نص النقيشة يشير إلى كون المعلم برجا (السطر الثاني). ويعود هذا حسب اعتقادنا أولا إلى عظمة تلك البناية ومتانة جدرانها وثانيا إلى كون درغوث باشا منذ أن قدم إلى طرابلس أولى اهتماما واسعا بتحصينات الجهة الجنوبية للمدينة.

        نص النقيشة

1- جهانده اولسون دولتيله مستدام على پاشا        جون شهر طربلوسى ايتدى ارم عد اب الله

2- شو رسمه محكم ايتمشدر أساس برج و باروسن      كه كورسه بر نظر شديد طرز بناسن اشدّاد

3- بو نامى بنده سى كوردكده انك ديدى تاريخينبه           بو برج يايك قلعهءِ على پاشا مى بو لاد

4- تمت في سنة 975

        ترجمة نص النقيشة36

1- ستضل دولة علي باشا مخلدة مزدهرة          منذ أن جعل مدينة طرابلس حديقة ….

2- لقد وضع أساسا متينا للبرج والأسوار         ماذا لو رأت النظرة الحازمة طراز مبناه الشديد

3- عند رؤية هذه الشهرة، قال عبده مؤرخا        برجا حسنا خاص بك، هذا حصن علي باشا من الأساس

4- تمت في سنة 975.

.صورة 3. نقيشة دار البارود
المصدر : بن ساسي (2009)

5.3. باب المنشية (989/1581-1582)

يعرف أيضا بباب البر وهو معلم يفتح مباشرة على سوق الخبز قديما وساحة الشهداء حديثا (صورة 4). يعتبر باب المنشية من أول الأبواب التي أنشئت خلال العهد العثماني الأول (1551-1711) وهو باب يربط نواة المدينة الرئيسية بريفها الذي أصبح بدوره مركزا حضريا، حيث شجع العثمانيون الأهالي للاستقرار به. فقد بنيت الدور والمساجد ليصبح المكان ملائما للاستقرار.

.صورة 4. باب المنشية وسوق الخبز
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس

استنادا إلى نص نقيشة المعلم المستطيلة الشكل (101 / 85 صم) ذات اللغة العثمانية والأحرف البارزة، فإن تاريخ بنائه يعود إلى سنة 989 هـ/1581-1582 م تحت إمرة جعفر باشا. في فترات متعاقبة، أدخلت على المبنى ترميمات عديدة مما ساهم في تغيير مكان النقيشة التي ثبتت على يمين المدخل على ارتفاع مترين ونصف. يشير شارل فيرو أن النقيشة كانت مثبتة أعلى الباب37. وقد أضيفت لها في الأسفل طغراء (صورة 5) السلطان محمود (1808- 1839). نعتقد أن هذه الإضافة قد كانت خطأ أو أن المعلم رمم في فترة حكم أحد الولاة القرمنليين (1711-1835). ينحدر جعفر باشا من أصول روسية استقر به المآل ليصبح سنة 1568 واليا على طرابلس الغرب. ويعد هذا الوالي أول من ساهم في اتصال العثمانيين بصحراء الإيالة الطرابلسية، حيث قام بحملة عسكرية على فزان، وبعد عودته منها انكب على تحسين الأوضاع بالعاصمة ومنها بناء هذا المعلم.

         نص النقيشة (صورة 5)

               1- ايلدى احيا بر باب عالى و جاى دلكشا

               2- صاحب المجد والعز حضرت جعفر باشا

               3- فكر تاريخ ايدوب ديدى جمله عقلا

               4- اولدى قوس قللى برابر بو طاق على

               5- في سنة 989.

        الترجمة الى العربية

               1- لقد بنا بابا مهيبا ومكانا لطيفا

               2- صاحب المجد والعز حضرت جعفر باشا

               3- عند التفكير في تاريخ بنائه قال جميع الناس الذين وهبوا العقل

               4- هذا القوس السامي يضاهي قمم كوكبة برج القوس؟

               5- في سنة 989.

.صورة 5. نقيشة باب المنشية
المصدر : بن ساسي (2009)

6.3. باب البحر (1613/1022)

في بداية القرن السابع عشر قام العثمانيون بتشييد مجموعة من العمائر ذات الصلة بالتحصينات. ويعتبر باب البحر ثاني الأبواب التي طرأت عليها تغييرات وترميمات تحديدا في العهد العثماني الأول38. وسمي بهذا الاسم لكونه يفتح على البحر قبالة الميناء (شكل 1). ولم يبق اليوم أي اثر للمعلم المذكور باستثناء لوحة تخليدية رخامية مستطيلة الشكل (66/47 صم) محفوظة بمستودع متحف السرايا الحمراء بطرابلس. وتضم النقيشة نصا في ستة أسطر كتب بخط النسخ البارز وباللغة العثمانية. وبالنظر إلى محتوى النص نستشف أن باب البحر جدد في فترة صفر داي (1606-1614) في غرة شوال 1022 الموافق لـنوفمبر 1613 (صورة 6).

        نص النقيشة

               1- هو الله

               2- چون مبارك تجديد ايلدى باب البحر

               3- حق تعالى قدرتندن ايليوب اكا نظر

               4- صاحب المجد المظفر ميرلوا حضرت صفر

               5- دايما خيراتله ياد ايلسون جمله بشر

               6- بتاريخ غرة شهر شوال المكرم سنة 1022

        الترجمة الى العربية

               1- هو الله

               2- منذ أن جدد باب البحر المبارك

               3- يرجو رحمه الله تعالى وبقدرته عند النظر إليه

               4- صاحب المجد المظفر أمير اللواء حضرت صفر

               5- كان ذكرا إلى الأبد من قبل جميع البشر (نظرا) لخيراته

               6- بتاريخ غرة شهر شوال المكرم سنة 1022

.صورة 6. نقيشة باب البحر
المصدر : بن ساسي (2009)

4. سور مدينة طرابلس وأبراجه في الفترة القرمانلية (1711-1835)

شهدت أسوار مدينة طرابلس العديد من الإضافات والترميمات خلال فترة حكم الأسرة القرمانلية للمدينة (1711-1835). وتعد فترة حكم كل من أحمد باشا القرمانلي (1711-1746) ويوسف باشا القرمانلي (1795-1832) الأكثر نشاطا من حيث عملية التشييد والتجديد عن باقي حكام الأسرة القرمانلية. ففي عهد أحمد باشا القرمانلي شهدت مدينة طرابلس نهضة عمرانية كبيرة، حيث ترك بصمة واضحة لا تزال ترى آثارها إلى اليوم في المدينة. واستنادا لما ذكره المؤرخ ابن غلبون فإن أعمال أحمد باشا القرمانلي المعمارية تنحصر في بناء الناعورة والحنايا والفسقية وتجديد الأسوار وبناء السوق الجديد (سوق الشيشمة، أي سوق سبيل جامع احمد باشا القرمانلي) وتجديد باب الخندق وتشييد المخازن والحواصل بداخل القلعة وتشييد بيوت أنيقة أيضا داخلها والتي كانت قبله شبه خراب حسب وصف ابن غلبون. ويضيف روسي عملاً آخر لم يذكره ابن غلبون وجده مدوناً في يوميات التاجر حسن الفقيه حسن وهو تشييده للبرج الذي يدافع عن الميناء، ولعله يقصد برج أبو ليلى وكذلك المسجد الكبير الذي عرف باسم أحمد القرمانلي. ومنذ توليه مقاليد الحكم، قام هذا الوالي أيضا بالعديد من الأعمال العمرانية ذات الصلة بالتحصينات. فابن غلبون يذكر أن أحمد باشا القرمانلي قام بتحصين أسوار المدينة وترميمها، وقد أوقف عليها أوقافاً كثيرة يفوق ريعها في العام على ألف وخمسمائة أو أقل بقليل39. وعلى الرغم من أن المؤرخ ابن غلبون لم يحدد العملة التي قدر بها ريع الأوقاف التي أوقفت على سور المدينة، إلا أن المبلغ يبدو كبيراً. ومن ضمن التعديلات والترميمات التي قام بها إصلاح حصن المندريك وتجديده الواقع عند مدخل الميناء والذي يطلق عليه أحيانا في بعض الخرائط ببرج درغوث أو حصن الإسبان. ويبقى برج أبو ليلى أو ما يعرف ببرج الفرنسيس من أهم العمائر الدفاعية العسكرية التي استأثر بها احمد باشا القرمانلي (1711-1745).

شهدت كذلك فترة حكم يوسف باشا القرمانلي انتعاشاً في الجانب العمراني للمدينة كان من أهمها إعادة تحصين طرابلس وتجديد أسوارها وبناء أبراج جديدة للدفاع عنها وقام بتزويدها بمدافع حديثة ذات قوة أكبر ومدى أبعد. كما شهدت فترة حكمه انتعاشاً اقتصادياً كان من أهم أسبابه كثرة الغنائم التي يتم الحصول عليها من الغزوات البحرية التي يقوم بها الأسطول الطرابلسي. وسنعود بالتفصيل في هذا القسم من المبحث على أهم العمائر الدفاعية التي أنجزت في تلك الفترة.

1.4. برج أحمد باشا القرمانلي

يقع هذا المعلم على بعد ما يقارب خمسين ذراعا عن السور الشمالي باتجاه برج التراب (شكل 1). ومن ضمن المصادر النقائشية النادرة والتي لها صلة غير مباشرة بالمعلم، نجد نقيشة جامع أحمد باشا القرمانلي40 التي يورد نصها (السطر الرابع) أيضا ذكر بناء ذلك البرج (صور 7 و 8). يذكر حسن الفقيه حسن أيضا أن بناءه يعود إلى سنة 1140 / 1727-1728 (« الحمد لله. بنى المعظم بالله سيدي أحمد باشا قرمانلي البرج الذي يلي المدينة غربيها من ياله البحر سنة ألف ومائتين وأربعين. »)41 وهو ما يراه أيضا روسي42.

.صورة 7. نقيشة جامع أحمد باشا القرمانلي
المصدر : بن ساسي (2009)

        نص النقيشة43

          1. بسم الله الرحمن الرَحيم                  وصَلَى الله عَلَى سَيدنا مُحَمد واله وصحبه وسلم

          2. الحَمْدُ لِلْمَوْلَى عًلى نِعَمِ نمَتْ           جَمُلَتْ بِطَلعت حَاكِم مُتَفَضِل

          3. هَوَ احْمَدُ الباشَا الذي اجرا لنَا          ماءًا يَسِيلُ إلى سَبِيلٍ منهَلِ

          4. وبَنَا لنا بُرْجًا وأسس جَامِعًا             فِي الحُسْن جاإ مِنَ الِطرَازِ الأول

          5. يَا ربنا واتممِ لَهُ الخَمْسُ الِتي           تُرجى بِميم المُلكِ في المسْتقْبلِ

          6. واجْعل جوابي اذْ دعوتُ مُوَرخًا      قل نَالت في الِفرْدَوس احضى مَنْزِل

                                                                         1149

ورد هذا البرج في خريطة عسكرية لتحصينات مدينة طرابلس التي رسمت سنة 1728م نشرها رودولفو ميكاكي في مقال له44، وهذا يؤكد على وجود البرج في تلك السنة، وهي الفترة التي ساءت فيها العلاقات الفرنسية الطرابلسية. وفي هذا الصدد يذكر شارل فيرو أن الطرابلسيين قد أشاروا على أحمد القرمانلي ببناء قلعة فوق الصخرة المقابلة لحصن درغوث باشا والواقعة على بعد حوالي مائة متر عن قلعة طرابلس في مقابل مقبرة النصارى، وقد تم الشروع في بناء ذلك الحصن وعرف فيما بعد بالحصن الفرنسي45.

للبحث عن أصل تسمية المعلم المذكور ببرج الفرنسيس، تتطلب منا الأمر العودة إلى دراسة الظرفية التاريخية لفترة بناء البرج حيث تورد المصادر أن أحمد باشا قرمانلي كانت تجمعه علاقات متميزة بالدولة الفرنسية، لكن ومنذ سنة 1827 توترت العلاقة بين الجانبين بسبب القرصنة46. وتحسبا لأي هجوم فرنسي محتمل، قام الوالي بتقوية الأسوار وتشييد البرج المذكور سنة 1140 / 1727-1728 وهو نفس التاريخ الذي ذهب إليه شارل فيرو إذ يضيف أن الباشا شيّد المعلم المذكور قبالة برج درغوث والمقبرة المسيحية وسمي منذ تلك الفترة ببرج الفرنسيس47. ونجد تلك التسمية أيضا ببعض الخرائط والصور (شكل 1) لكونها تتوافق مع الموقع الذي نصب عليه قائد الأسطول الفرنسي دي استري مدافعه عند قصفه للمدينة سنة 1685. وفي فترة بناء البرج تعرضت المدينة لهجوماتٍ عنيفةٍ أدى إلى تدمير أكثر من ثلث المدينة والتي من ضمنها الأسوار كما يذكر ميكاكي، إذ تضررت المدينة بشكل كبير، حيث تم استهدافها بأكثر من 1800 قنبلة، وقد تركزت ضربات الأسطول على قلعة طرابلس باعتبارها مسكن أحمد القرمانلي والتي أصابتها أكثر من 40 قنبلة لدرجة أن الباشا قد غادرها واستقر خارج أسوار المدينة إلى أن انتهى الهجوم48. وبعد انتهاء ذلك الهجوم تم إعادة تحصين المدينة من جديد حيث يذكر شارل فيرو أن أحمد باشا القرمانلي، بعد قصف الأسطول الفرنسي للمدينة سنة 1728م، شرع بالعمل في ترميم الأسوار والتحصينات البحرية بدون توقف. وقد تم تكليف الأسرى النصارى بذلك وخاصة الفرنسيين منهم49. لكن ظلت آثار ذلك القصف باقية إلى نهاية القرن الثامن عشر، حيث ذكر القنصل الفرنسي، سنة 1201 / 1786-1787 فترة حكم علي باشا الأول ابن محمد باشا قرمانلي، أن « … أسوار المدينة انهارت كلها والحصون أخذت في التداعي وليست طرابلس الآن سوى صحراء موحشة… »50. وفي سنة 1301 / 1883-1884، تم ترميم برج أبو ليلى وتوسعته ليسمى بالطابية العثمانية51.

عرف البرج في فترة حكم أحمد باشا القرمانلي بالبرج الجديد لكونه أحدث الأبراج المشيدة في تلك الفترة، كما عرف أيضاً ببرج أبو ليلى ويبدو أن هذا الاسم أحدث من الاسمين السابقين. وتذكر الروايات أن سبب تلك التسميه يعود لتشييده في ليلة واحدة، وهذا تفسير غير مقبول فإن المنطق يقول أن برجا بهذه الضخامة وبداخل البحر يصعب تشييده في ليلة واحدة52.

ذكر ميلانو فيش هذا المعلم في تقريره فبين أن هذا البرج يقع قبالة برج التراب من جهة البحر على صخرة كبيرة وشكله مستدير، ويجتاز إليه بواسطة جسر حجري، وهو يتولى الدفاع عن ذلك الجانب من المدينة، وهو بذلك يؤازر حصن الميناء (حصن المندريك) في حماية المدينة من السفن المعادية التي تبدو في الأفق، ولم يرد ذكر هذا البرج بعد وصف ميلانوفيتش في كتابات الرحالة والمؤرخين53. وعند احتلال القطر الليبي اهتمت السلطات الإيطالية بهذا البرج وقامت بصيانته، واستغلته في الحرب العالمية الثانية ونصبت به ثلاثة مدافع، ولذلك فقد تعرض للقصف من قبل قوات التحالف المعادية لإيطاليا. وفي سنة 1980 استعمل كمقر لنادي الغوص والرياضات البحرية54.

.صورة 8. برج أبو ليلي
المصدر : البركي (2018)
.صورة 9. باب برج أبو ليلي
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس

تمت دراسة المعلم من طرف الباحث سعيد حامد الذي قام بوصفه ورسم مخطط تفصيلي يبين أهم ملامحه والذي سنعتمد عليه في هذا القسم من عملنا55. ويتضح من هذا الوصف أن هذا البرج ذو شكل بيضاوي يبلغ قطره 37 مترا وله مدخل رئيسي (الصورة 9) يفتح باتجاه الجنوب ناحية برج التراب عرضه 1.3 مترا، وارتفاعه مترين يتم من خلاله الهبوط إلى الطابق الأرضي أو الصعود إلى الطابق العلوي فالمدخل يتوسط الطابقين المكونين للبرج : الطابق الأرضي يتم النزول إليه من خلال سلم حجري عرضه متر تقريبا وبه 8 درجات يقع على يمين المدخل الرئيسي، ويتكون هذا الطابق من أربعة مخازن56 (أ، ب، ج، د، شكل 3) : المخزن الأول (أ) عرضه مترين تقريباً وطوله حوالي 10 أمتار، وبه فتحتان للإضاءة والتهوية ، تقع الأولى في أقصى المخزن يمين الداخل، والثانية على يسار الداخل. ورغم ذلك فهو مظلم إلا أنه يكون أكثر إضاءة في فترة الظهيرة لأن الشمس تكون عمودية.

.57شكل 3. قطاع أفقي للدور الأرضي لبرج أبو ليلى

ومن المخزن السابق يتم الولوج المخزن الثاني (ب) عن طريق ممر عرضه مترا تقريباً وطوله حوالي 1.2مترا، عرض المخزن (ب) 2 مترا تقريباً ويبلغ طوله حوالي 9.9 مترا، ومن خلال هذا المخزن يمكن الصعود للطابق العلوي حيث توجد سلالم على يسار الداخل تؤدي إلى المخزن (ج) أو المخزن (د)، ومن الملاحظ انعدام فتحات التهوية به. والمخزنان (ج، د) يمتدان بشكل عمودي على المخزنين (أ، ب)، المخزن (ج) يبلغ عرضه مترين، وطوله 16.2 مترا، وتوجد به ثلاث فتحات للإضاءة والتهوية، الأولى عند مدخله والثانية في منتصفه والثالثة في نهايته، ورغم ذلك فهو مظلم ودرجة الرطوبة به مرتفعة، أما المخزن (د) فيقع مدخله تحت السلالم التي في المخزن (ب)، وعرض هذا المخزن متران تقريباً، وطوله 12.8 مترا، وبه فتحتان للإضاءة والتهوية الأولى عند مدخله، أما الأخرى ففي منتصفه، وهو بذلك أكثر ظلمة وأقل تهوية من المخزن الثالث (ج).

يحتوي الطابق العلوي من البرج على عدة حجرات متفاوتة الحجم (شكل 4) ويمكن الدخول إليها عن طريق مدخل يفتح ناحية الشمال أو الصعود إليه عن طريق السلالم التي في الدور الأرضي. وعلى سطحه ثلاثة أماكن دائرية كانت تستخدم كمواقع للمدافع، إلا أنه طرأت بعض التعديلات على هذا الدور حيث تم سد مدخل السلالم بجدار في فترة السبعينيات من القرن الماضي. كما أنه في شهر يناير 1981 حدثت عاصفة بحرية نتج عنها انهيار سقف الجهة الشمالية من البرج وطمرت نهاية المخزنين الطوليين (ج،د) وانهار موقع المدفع الأوسط. فقد البرج بعضا من معالمه، كما أضيفت له حجرتان على سطحه في تسعينيات القرن الماضي، كما تم بناء سلم حجري يؤدي من على سطح البرج إلى البحر.

.شكل 4. قطاع أفقي للطابق العلوي لبرج أبو ليلى

2.4. برج المجزرة بين التشييد والتجديد

ضعف الاهتمام بالتحصينات خلال ما يعرف بفترة الصراع بين أبناء العائلة القرمانلية على السلطة (1790- جويلية 1793). فقد لحقت بمدينة طرابلس عموما وبأسوارها خصوصا أضرار معمارية جراء صراع أبناء القرمانلي وحصار علي برغل للمدينة (1793)58، حيث أضعفت التحصينات ونشر الدمار بالمدينة وضواحيها59. وقد قام علي برغل بتسخير أهالي طرابلس لتحصين الأسوار ولم يستثن حتى الأطفال واليهود من العمل60.

في سياق اهتمامه بفترة يوسف باشا القرمانلي، يذكر رودولفو ميكاكي أن حصانة أسوار المدينة وقوة مدفعيتها كانت تحول دون اقتراب الأساطيل الأجنبية التي ترغب في ضربها بالقنابل، وبذلك تظل مدفعيتها غير ذات جدوى لبعدها عن المدينة. في هذا الإطار يسوق مثالا على ذلك فعندما قدم أسطول مملكة سردينيا للتفاوض مع الباشا وفرض شروطهم بالقوة أو أنهم سيقومون بضرب المدينة بالقنابل. لكن لم يعر يوسف باشا تهديداتهم أي اهتمام لثقته بقوة تحصينات المدينة. غير أن ذلك الأسطول عمل قام بخطوة جريئة كان من شانها أن يتسلل البحارة ليلا إلى الميناء ويضرموا النيران في السفن الرابضة في الميناء بعدما عجزوا عن ضرب المدينة بالقنابل61.

يعتبر يوسف باشا ثاني الحكام القرمانليين الذين اهتموا كثيرا بالاستحكامات بعد أحمد باشا. ويشير رودولف ميكاكي أن الباشا اتجه اهتمامه ومنذ البداية إلى ترميم السور المتداعي (السطر الثالث من النقيشة، صورة 12) وخاصة الجزء البحري منه62. لكن عكس بقية الحكام فإن اهتمامه قد انصب خاصة على الجزء المتاخم للقلعة والميناء شريان المدينة التجاري. ورغم أن هذا الجزء الشرقي طمست ملامحه منذ فترة الاحتلال الايطالي، فان الصور الأرشيفية والخرائط القديمة تمدنا بفكرة شاملة عن السور والأبراج والأبواب التي كانت موجودة هناك (شكل 1، صورة 10 و 11).

.صورة 10. : برج المجزرة منتصف القرن التاسع عشر
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس
.صورة 11. الحائط الشرقي لبرج المجزرة
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس

يعتقد عديد الباحثين أن يوسف باشا قرمانلي أمر بتشييد برج المندريك المحاذي للقلعة من جهة الغرب (صورة 10 و 11)، في حين يشير نص النقيشة التخليدية الخاصة بالمعلم63 أن عملية التدخل كانت لغاية الترميم (نص النقيشة، صورة 12). وهنا نجد أنفسنا أمام فرضيتين : تتجه الأولى إلى اعتبار البرج موجودا من قبل، في حين لا تستبعد الثانية إمكانية بناء المعلم فترة حكم يوسف باشا ومن ثم تجديده بعد بضع سنوات ناهيك وأن المدينة عرفت عديد الاضطرابات. وحسب رأينا نذهب إلى الفرضية الثانية ونعتبرها الأقرب، فالسطر الأول من نص النقيشة يشير إلى كون الباشا أسس برجا جديدا، في حين يشير السطر الأخير من نفس النص إلى أن التاريخ المنذكور هو تاريخ التجديد (1215هـ/1800-1801).

        نص النقيشة64

            1- إذا ما مررت ببرج جديد               فقف داعيا لأمير البلاد

            2- وقل له يوسف باشا نلت المنا          واهداك ربي سبيل الرشاد

            3- تجددت سورا وعمرت دورا           تنال قصورا بها في المعاد

            4- واومضت برقا واطربت ورقا؟        وأحييت بلقاء دار الجهاد

            5- والحقت عرجا واحصنت فرجا        وأسست برجا لحفظ العباد

            6- وقل ان ترد [فهم] تاريخه              وهبت الجمال وحزت المراد

            7-                                           جدد عــ 1215ـــام

.صورة 12. نقيشة برج المجزرة
المصدر : أرشيف مصلحة الآثار – طرابلس

3.4. برج الرايس، معلومات جديدة حول فترة بنائه

يشير حسن الفقيه حسن إلى أن بداية الاستعدادات لحضيرة البناء كانت في يوم 22 جمادى الثاني سنة 1232 / 21 نوفمبر 1816، حيث يقول « الحمد لله بداو في قضاء مصالح إلى البرج الجديد المبارك السعيد الذي محاذي برج المندريك وذلك على يد مصطفى قرجي رايس المرسى والحاج عمر فارس هو الذي واقف (أي المشرف) مثل طين وحجر وجير وشهبة65 وغيره مما أشبه ذلك وربنا يجعله مبروك سعيد على سيدنا »66. ويضيف الكاتب في اليومية 294 أن نهاية البناء كانت سنة 1235 / 1819، و يذكر أيضا » يوم الثلاثا 11 ربيع الأول 1235 (24/12/1819) قد تكامل67 البرج المذكور68 من جميع البنيان وتركيب مدافعه وغيره … ويوم الاثنين في 24 من شهر ربيع الأول في ثمانية ساعات غير خمس دقائق توجه الشيخ القاضي والعلماء وشيخ البلاد ورايس المرسى وختمو فيه ختمات القران ودعاء … وأطلق البرج الجديد 5 مدافع والمندريك 5 مدافع والحصار 5 مدافع … … »69.

يلاحظ أن الراوي كان دقيقا لدرجة انه أمدنا أولا بتفاصيل عن المواد الإنشائية للبرج كالحجارة والطين والجير والرماد وثانيا تفاصيل عن الأشخاص الذين أشرفوا ودشنوا المعلم الذي يشير بدقة لكونه بجانب برج المندريك وليس برج المجزرة كما تعتقد بعض الدراسات. وبالبحث في رسائل أحمد القليبي70 تمكنا من العثور على إحدى القصائد التي تشيد ببناء هذا المعلم (صورة 13)، وهي تذكر نفس التاريخ المذكور بإحدى يوميات الفقيه حسن. نعتقد أن هذه القصيدة كانت مشروع نقيشة من المزمع خطها على محمل من الرخام وتثبيتها بمدخل البرج أو بأحد جدرانه خاصة وأن القليبي قد عرف بنظم بعض القصائد للنقائش التخليدية أو الجنائزية في الفترة القرمانلية71. لكن المتعارف عليه كون يوسف باشا كان صاحب برج المجزرة ولم يعهد له بناء برج المندريك الذي بني ورمم في القرن السادس عشر وفي فترة أحمد باشا القرمانلي. فالمؤرخ المذكور الذي يسرد أحداث بناء هذا البرج يمدنا بتفاصيل دقيقة عن مكان المعلم أي بجانب برج المندريك وينعته بالجديد. وبالمقارنة بتاريخ تجديد برج المجزرة (صورة 12) يتضح لنا أولا أن المعلم (البرج الجديد) بني بعد سنوات وهو ما تتفق عليه مصادرنا التاريخية وبكل دقة (1235 / 1819-1820)، كما يذكر الفقيه حسن مجموعة الأشخاص المساهمين والساهرين على بناء البرج وخاصة منهم مصطفى قرجي ، لذلك لا نستبعد أن يكون المعلم هو نفسه « برج الرايس » الذي تشير إليه الوثائق التاريخية بذلك الاسم وموقعه يتوسط المسافة الفاصلة بين برج المندريك وبرج أبو ليلى وتسميته نسبة إلى المشرف عليه : مصطفى قرجي ريس الميناء. من خلال هذه التفاصيل التي تمكنا من جمعها، لا نستبعد موقعه بالمكان الذي حددناه على الخريطة المذكورة في مستهل البحث ( شكل 1).

صورة 13. صورة أرشيفية لقصيدة القليبي
المصدر : المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية72.

        نص القصيدة

              برج تجل مشيد الاركان / متناظر الاتقان في البنيان

              قد شاده فخر الزمان وكنزه / كهف الرياسة من بني قرمان

              رب المحاسن يوسف الباشا الذي / فاق الملوك بفعلة الاحسان

              يا رب بلغه المقاصد واكفه / شر العدا في السر والاعلان

              واقهر بهذا الحصن حزب عدوه / واجعله درع عصابة الايمان

              قد وافق التاريخ برج حافل / يرمي العدو بمدافع النيران 1235

رغم التعزيزات والترميمات لسور المدينة، بقيت الجهة الشمالية الشرقية المطلة على مقبرة اليهود ضعيفة بالمقارنة مع محيط السور. وقد ذكرت الآنسة توللي أن يوسف القرمانلي أثناء حصاره لمدينة طرابلس في حربه مع أبيه وأخيه، أراد أن يرسل جنوده للتسلل إلى المدينة عن طريق مقبرة اليهود القريبة من الأسوار، والتي كانت ضعيفة للغاية من هذه الجهة ولا يوجد عليها أي مدفع. وفي هذه الأثناء عززت حراسة ذلك الجزء وأحكمت تعزيزاته فأصبح آمنا73، لكن بقيت توللي تشيد بما قام به يوسف باشا لدرجة أن التحصينات أصبحت أكثر حصانة ومتانة من ذي قبل74.

5. المواد الإنشائية

تبقى معلوماتنا شحيحة فيما يتعلق بالمواد التي بنيت بها المعالم الدفاعية بمدينة طرابلس إذ أننا لم نعثر سوى على بعض الإشارات المبثوثة هنا وهناك75. ويذكر ميلانو فيتش في تقريره عن مدينة طرابلس وتحصيناتها في معرض حديثه عن برج التراب ما يلي: « وبسبب نقص الحجارة في البلاد فقد استعاضوا عنها بمزيج من التراب والطين والصلصال ، مع جزء من الجير فيما يسمى ضرب الباب، الذي بنوا به البرج المذكور (برج التراب) وقد بنيت كثير من الأعمال الأخرى بنفس الطريقة، ولا تزال تشاهد بعض الجدران المنهارة بالقلعة وقد استخدمت طريقة ضرب الباب في بنائها »76. وهذا الكلام نجد له صدى أيضا في يوميات الفقيه حسن عند حديثه عن المعالم التي بنيت في فترة يوسف باشا قرمانلي وتحديدا برج الرايس حيث يذكر القائمين على بناء المعلم واستعداداتهم بتحضير الطين والحجر والجير والشهباء (أي الرماد) استعدادا لبناء البرج77 وهي نفس تلك المواد التي بني بها برج أبو ليلى فهي المواد المتوفرة محلياً والتي شيدت بها أغلب تحصينات طرابلس فأساسات البرج قد شيدت بحجارة رملية يبدو أنها قطعت من محاجز منطقة قرقارش78. وقد كانت كتل تلك الحجارة ضخمة وذلك لمقاومة أمواج البحر، إذ أن البرج بني داخل مياه البحر على نتوء صخري، أما بقية أجزاء البرج فقد بنيت بالطريقة المعروفة بتقنية ضرب الباب، وهي خليط من الطين والحجر والجير والشهبة.

الخاتمة

في ختام هذا العمل، المهتم بتحصينات مدينة طرابلس الغرب منذ بداية القرن السادس عشر إلى بدية القرن التاسع عشر (1510-1835)، يمكن الخروج ببعض الملاحظات. و قد أجمعت المصادر التاريخية والمراجع ذات الاهتمام الأثري على كون المدينة تتمتع بأسوار وأبراج متينة. فمنذ بداية القرن السادس عشر أولى الإسبان ومن خلفهم اهتماما واسعا بالاستحكامات بغية مواجهة صدام محتمل مع غزو بحري. و منذ ظهور العثمانيين على الساحة زاد الاهتمام بالتحصينات، حيث أنشئت ورممت في بدايات الفترة العثمانية أبراج وأبواب تم تداول أغلبها بالمصادر التاريخية. فباستثناء برج درغوث باشا، فان البقية (دار البارود، باب المنشية، باب البحر) دعمت بأثر مكتوب مباشر ونعني بذلك النقائش. بالنسبة إلى النصوص النقائشية فإن جلها كتب باللغة العثمانية وهو ما يحيلنا، حسب اعتقادنا، إلى الأصول التاريخية لأصحاب تلك المعالم. بالنسبة للخط فان نقيشتي باب البحر وباب المنشية تشتركان في أسلوب الكتابة ونمطها (نسخي بارز).

بالنسبة للفترة العثمانية الأولى، لم نعثر على أثر لمعالم دفاعية أنشئت في الفترة الممتدة بين 1613 و1711. لكن لا نعتقد أن السور كان بمعزل عن الترميمات ناهيك وأن المدة ناهزت القرن إذ يشير شارل فيرو أن محمد باشا الساقزلي (1632-1649) وعثمان باشا الساقزلي (1649-1672) اهتما بترميم السور وأبراجه79. تواصل الاهتمام بالأسوار والأبراج في الفترة القرمانلية (1711-1835)، حيث أولى مؤسس الأسرة القرمانلية اهتماما واسعا بعمائر المدينة وخاصة منها الدفاعية خاصة وأن الإيالة في صراع دائم مع القوى البحرية الأوروبية فقام بإنشاء برج أبو ليلى تزامنا مع بنائه لجامعه الشهير بالمدينة. وتواصل هذا الاهتمام خاصة مع يوسف باشا القرمانلي الذي سخر كل إمكانيات الإيالة لترميم السور وبناء الأبراج. علاوة على المصادر التاريخية الأدبية، تمكننا من الاستعانة بمجموعة من النصوص النقائشية ذات الصلة بالعمائر الدفاعية. فعلى خلاف نقائش الفترة العثمانية الأولى فإن النصوص النقائشية القرمانلية كتبت أغلبها باللغة العربية وهو ما من شانه أن يدعم ما ذهبت إليه المصادر التاريخية حول أهمية هذه اللغة لدى الأسرة القرمانلية، حيث جعل أحمد القرمانلي اللغة العربية لغة البلاد الرسمية واعتمد على العنصر المحلي في إدارة شؤون البلاد80 .

الهوامش

1 Aurigemma, 1918.

2 الميلودي، 1993 و 2005.
3 التجاني، 1981، ص 239.
4 حامد، 1985، ص 38-39.
5 ابن خرادبة، 1989، ص 86.
6 ابن حوقل، 1992، ص 71.
7 المقدسي ،1991، ص 223.
8 البكري (د ت)، ص 7.
9 أبو محمد عبد الله بن محمد التيجاني.
10 التجاني، 1981، ص238.
11 التيجاني، 1958، ص 238.
12 توللي، 1984، ص 93. فيما يخص الخندق أنظر أيضا الزاوي، ص 126-127.
13 علي حامد، 1985، ص 41.
14 انظر القسم الخاص بهذا البرج « برج الفرارا بين الأصول الاسبانية والتدخلات العثمانية ».
15 انظر القسم الخاص بهذا البرج « برج المندريك بين الأصول الاسبانية والتعديلات العثمانية ».
16 الباروني، 1952، ص 62.
17 الباروني، 1952، ص 81-84.

18 Féraud, 1927, p. 98-113.

19 شمس الدين، 1306، مادة مندريك. انظر أيضا حامد، 1985، ص 48.
20 كابوفين، 1988، ص 299.
21 الباروني، 1952، ص 72.
22 الأنصاري ، د ت، ج 1، ص 294.
23 البهنسي، 2004، ص 103.
24 البهنسي، 2004، ص 103.
25 كابوفين، 1988، ص 296.
26 الأنصاري، د ت، ص 329. انظر أيضا التليسي، 1997، ص 166.

27 Rossi, 1968, p. 149.

28 البهنسي، 2004، ص 102.
29 رودولفو (د ت)، ص 41-44.
30 البهنسي، 2004، ص 102.
31 روسي، 1991، ص 183.

32 Féraud, 1927, p. 58.

33 يشار إليها بالخرائط العثمانية بدار الجاروب.
34 في نص النقيشة ذكر المؤسس باسم علي باشا و في المصادر التاريخية يعرف هذا الوالي باسم قلج علي.
35 لم نتمكن من اخذ المقاسات نظرا للارتفاع الكبير لمكان النقيشة.
36 تمت ترجمة النصوص العثمانية بالتعاون مع الباحث الفرنسي نيكولا فاتن (Nicolas Vatin).

37 Féraud, 1927, p. 79.
38 .Ben Sassi, 2014, p. 619, 621 et 631.

39 ابن غلبون، 2004، ص 301.

40 Ben Sassi, 2014, pp. 127-130.

41 الفقيه حسن، 2001، ص 658.
42 روسي، 1991، ص 288.

43 Ben Sassi, 2014, p. 127.
44 Micacchi, 1934- Xll.
45 Féraud, 1927, p. 135-137.
46 Féraud, 1927, p. 122-232.
47 Féraud, 1927, p. 228.

48 ميكاكي (د ت)، ص47-51.

49 Féraud, 1927, pp 138-141.

50 ميكاكي (د ت)، ص 108-109.
51 غالب الكيب، 1978، ص 179.
52 حامد، 2003، ص 133.
53 كابوفين، 1988، ص297، 298.
54 حامد، 2003، ص 136.
55 حامد، 2003، ص 136-138.
56 دهليز حسب تعبير الباحث سعيد حامد.
57 أضيفت المساقط للبرج المذكور بمقال الباحث سعيد علي حامد ضمن مدونة الميراث التي نشر على شبكة الانترنت بتاريخ 9/9/ 2010.
58 بخصوص مغامرة علي برغل، فقد كان في الفترة القصيرة الفاصلة بين علي باشا القرمانلي وابنه احمد الأوسط الذي تغلب عليه الأخ الأصغر يوسف، بعد أن قتل أخاهما الأكبر حسن بك. وفي كتاب توللي ، عشرة أعوام في بلاط طرابلس بعض الإشارات عن تلك السنوات . وفي إتحاف أهل الزمان لابن أبي الضياف إشارة جلية إلى نجدة حمودة باشا الحسيني للأسرة القرمانلية في استعادة عرشها المسلوب. يذكر المؤرخ أحمد النايب الأنصاري، في المنهل أن علي برغل وصل إلى طرابلس بما جمع من العساكر في ٢١ ذي الحجة 1207هـ / 30/07/1793، وان محلة الوزير مصطفى خوجه القادمة من تونس قد وصلت طرابلس في ٢٥ جمادى الأول 1209هـ/ .18/12/1794 ويبدو جليا أن الأنصاري اعتمد كليا في هذه الإفادة على كتاب الإتحاف. ثم ولي الابن الأوسط احمد بك، ولم تطل مدته إذ سرعان ما انتفض عليه أخوه يوسف.
59 روسي، 1974، ص 374.
60 برنيا، 1969، ص 237.
61 ميكاكي، د ت، ص 188.
62 ميكاكي، د ت، ص 134.
63 لوحتان منفصلتان مستطيلة الشكل : الأولى 58/57 والثانية 59/57. انظر

Ben Sassi, 2014, pp. 162-164.
64 Ben Sassi, 2014, p. 161.

65 أي الرماد.
66 الفقيه حسن، 2004، ج1، ص 249.
67 أي اكتمل بناؤه. أثناء سرده للأحداث كثيرا ما يعتمد الحسن الفقيه حسن على اللهجة العامية.
68 أي البرج الجديد.
69 الفقيه حسن، 2004، ج1، ص 266 و 267.
70 احمد القليبي شاعر تونسي (القرن التاسع عشر) عاش بين ليبيا وتونس. اشتغل موظف بدار السفن، جابيا للضرائب و المستشار الشخصي لخليل باي. ترك عديد الرسائل التي بعث بها إلى أصدقائه بليبيا. أنظر مصراطي، 1976، ص ص 91-116.

71 Ben Sassi, 2014, p 318.

72 المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، شعبة الوثائق والمخطوطات/ ملف احمد القليبي 3/24. الشكر موصول إلى الأستاذ إبراهيم الشريف الذي أرسل لنا النسخة.
73 الآنسة توللي، 1984، ص497.
74 الآنسة توللي، 1984، ص 436.
75 الشهبة هي الشهباء ويقصد بها الرماد الذي يضاف إليه الجير فيكتسب صلابة جيدة. انظر علي حامد، 2003، ص 138.
76 كابوفين، 1988، ص 297.
77 الفقيه حسن، 2004، ج1، ص 249.
78 البركي، 2020، ص 190.

79 Féraud, 1927, p. 98-113.

80 الأنصاري، 1961، ج2، ص 302.

المصادر والمراجع

أرشيف المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية، شعبة الوثائق والمخطوطات/ ملف أحمد القليبي 3/24.

ابن أبي الضياف أحمد، 1990، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تونس.

ابن حوقل أبى القاسم محمد بن علي، 1992، صورة الأرض، بيروت.

ابن خرادبة أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله، 1989، المسالك والممالك، ليدن.

ابن غلبون أبي عبد الله محمد بن خليل، 2004، التذكار في من ملك طرابلس وما كان بها من الأخبار، بيروت.

الأنصاري أحمد النائب، ج 1، 1961، ج 2، د ت، المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب.

الباروني عمر محمد، 1952، الإسبان وفرسان القديس يوحنا في طرابلس، طرابلس-ليبيا.

برنيا، كوستانزيو، 1969، طرابلس من 1510 إلى 1850، تعريب خليفة محمد التليسي، طرابلس-ليبيا.

البكري أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز، د ت، المغرب في ذكر أفريقية والمغرب، بغداد.

البهنسي صلاح أحمد، 2004، طرابلس الغرب دراسات في التراث المعماري والفني، القاهرة.

التجاني أبو محمد عبدالله بن محمد بن أحمد، 1981، رحلة التجاني، ليبيا- تونس.

التليسي خليفة محمد، 1997، حكاية مدينة طرابلس لدى الرحالة العرب والأجانب، طرابلس– تونس.

توللي الآنسة، 1984، عشرة أعوام في طرابلس، ترجمه عبد الجليل الطاهر، بنغازي.

حامد سعيد علي، 1985، « تحصينات مدينة طرابلس »، مجلة تراث الشعب، العدد 15.

حامد سعيد علي، 2003، « من تحصينات مدينة طرابلس (برج أبو ليل) »، مجلة البحوث التاريخية، العدد 2.

حامد سعيد علي، 2010، « من تحصينات مدينة طرابلس، برج بو ليلى » ، مدونة الميراث (نسخة الكترونية).

حسن الفقيه حسن، 2001، اليوميات الليبية : الحرب الأهلية ونهاية العهد القرمانلي 1248-1251 (1832-1835)، ج 1و2، تحقيق عمار حيدر، طرابلس.

روسي ايتوري، 1974، ليبيا منذ الفتح العربي حتى 1911، ترجمة خليفة التليسي، طرابلس.

روسي اتوري، 1969، طرابلس تحت حكم الإسبان وفرسان مالطة، ترجمة وتقديم خليفة محمد التليسي، طرابلس-ليبيا.

روسي ايتوري، 1974، ليبيا من الفتح العربي حتى سنة 1911، تعريب خليفة محمد التليسي، بيروت، ط1.

شمس الدين سامي، 1306-1316، قاموس الأعلام، استانبول.

غالب الكيب نجم الدين، 1978، مدينة طرابلس عبر التاريخ، ليبيا-تونس.

فرج علي عبد الله مصطفى، 2020، التاريخ العمراني لمدينة طرابلس الغرب خلال فترة حكم الأسرة القرمانلية، رسالة دكتوراه، الجامعة الوطنية الماليزية، بانغي.

فيرو شارل، 1998، الحوليات الليبية منذ الفتح العربي حتى الغزو الايطالي، ترجمة محمد عبد الكريم الوافي، بنغازي.

كابوفين جورجو، 1988، طرابلس والبندقية في القرن الثامن عشر، ترجمة عبد السلام مصطفى باش إمام، طرابلس.

المصراطي علي مصطفى، 1976، رسائل أحمد القليبي، طرابلس.

المقدسي محمد بن احمد، 1991، أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم، القاهرة.

ميكاكي رود لفو، د ت، طرابلس الغرب تحت حكم أسرة القرمانلي، ترجمة طه فوزي، طرابلس.

الميلودي عمورة علي، 1993، طرابلس المدينة العربية ومعمارها الإسلامي، طرابلس-القاهرة-لندن.

الميلودي عمورة علي، 2005، القلاع والحصون والقصور والمحارس على التراب الليبي خلال مختلف العهود، طرابلس.

Aurigemma, Salvatore, 1918, « Le fortificazioni della cità di Tripoli », Notiziario archeologico, anno II, fasc I-II, Roma, p. 217-300.

Ben Sassi, Ali Cheib, 2014, Les inscriptions de Tripoli d’Occident à l’époque ottomane (1551-1911) : étude épigraphique et historique, Thèse de doctorat (dir. A. Saadaoui et F. Imbert), Aix-Marseille Université, 3 vols.

Féraud, Laurent Charles, 1927, Annales Tripolitaines, Paris-Tunis.

Rodolfo Micacchi, 1934-Xll, I rapporti tra il regno di francia e la reggenza di a Tripoli di-Barberia nella prima meta del secolo XVIII.

Rossi, Ettore, 1968, Storia di Tripoli et della Tripolitania, Roma.

الكاتب

علي الشايب بن ساسي

.أستاذ مساعد ـ جامعة قرطاج ، مخبر الآثار والعمارة المغاربية ـ جامعة منوبة

مصطفى البركي

.أستاذ محاضر، جامعة بنغازي ـ ليبيا

Retour en haut