Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

2020 | 09

الداي أحمد خوجة: جوانب من حياته السياسيّة، مآثره وعلاقته ببلده الأم تركيا

مؤيّد المناري

الفهرس

الملخّص

قمنا في هذا المقال بالتركيز على دراسة شخصيّة الداي أحمد خوجه، داي الإيالة التونسيّة بين سنتي (1640-1647). تميّزت فترة حكم هذا الداي بمعطيين أساسيين؛ تجذّر الحكم العسكري الموالي للأتراك العثمانيين وفي نفس الوقت بداية ظهور نمط جديد أدى إلى اقتسام الحكم بين منصب الداي والباي، الحاكم الجديد للبلاد. وبالوقوف على دراسة الحياة السياسية لهذا الداي، ظهرلنا من المهم إدراج بعض الملاحظات المتعلقة بمنصب الداي، كتصحيح مفهوم مصطلح الداي وتبين طبيعة علاقته بمركز الحكم العثماني بالأستانة. هذا الداي الموالي للأتراك لم يتأخّر ولو لحظة على تنفيذ أوامر أسياده الأتراك بالآلات والرجال وذلك لنصرهم في حرب جزيرة كريت ضدّ الجنويين والمالطيين. هذه الحرب البحريّة كَشَفَتْ عن الدورالأساسي الذي لعبه الداي أحمد خوجه، في الفوز بالمعركة من ناحية، وعن دور بحّارة قراصنة أوجاق الغرب من ناحية أخرى. كما كَشَفَتْ عن مساهمة البحّارة التونسيين في صناعة وتطوير تقنيات صناعة السفن البحريّة العثمانيّة ودورهم الأساسي في تطويرصنع الغليون في الترسخانة العامرة بإسطنبول. وأخيرا وبالرجوع إلى دراسات ووثائق عثمانيّة جديدة في علاقة مباشرة بالداي أحمد خوجه، اكتشفنا وجود وقف بمدينة سينوب التركيّة من تأسيس هذا الداي وقد تمثّل في مقدار من المال خُصّص كوقفٍ لترميم مياه صرف جامع علاء الدين كيقباد بمدينة سينوب، مسقط رأس الداي أحمد خوجه ومكان إقامة فاطمة ابْنَةُ ابْنَةِ عمّته، والتي تقدّمت بدعوى قضائيّة للمحكمة الشرعيّة ضدّ وكيل الوقف لتتصرف في إرث قريبها أحمد كحقٍ مكتسبٍ.

الكلمات المفاتيح

الداي أحمد خوجه، وقف جامع علاء الدين قيقوباد، سينوب، معركة كنديّة، البحرية التونسية، أوجاق الغرب، الدايات، القرن السابع عشر.

Résumé

Notre article s’intéresse à la personnalité et au règne du dey Ahmed Khûja (1640 – 1647). Son administration de la régence est marqué à la fois par la suprématie d’une oligarchie militaire restée attachée et fidèle aux Ottomans, ainsi que l’élargissement des prérogatives du bey mouradite qui a vu son autorité sur le pays se renforcer. En s’appuyant sur la carrière politique d’Ahmed Khûja, nous avons avancé quelques remarques concernant le terme turc dayi et les rapports de ces chefs de province avec le pouvoir central ottoman. Ceux-ci obéissaient toujours aux ordres de la Porte, ainsi Ahmad Khûja envoya des armes et des hommes comme contribution à la guerre de la Crète. La marine tunisienne et les marines des deux autres provinces maghrébines ont joué un rôle déterminant dans cette guerre contre les Génois et les Maltais. En s’appuyant sur des recherches récentes et sur une nouvelle documentation, l’article aborde, dans un deuxième temps, la question d’un waqf du dey Ahmed Khûja au profit de la mosquée « Alâeddin Keykubad » à Sinop, sa ville natale.

Mots clés

le dey Ahmed Khûja, waqf de la mosquée Alâddine Keykubad, Sinop, guerre de Candia, la marine de Tunis, les régences magrébines, les deys, le XVIIe siècle.

Abstract

Our article focuses on the personality and reign of dey Ahmed Khûja (1640 – 1647). His administration of the regency was marked both by the supremacy of a military oligarchy that remained attached and faithful to the Ottomans, and by the extension of the prerogatives of the Mouradite bey, who saw his authority over the country grow stronger. Based on the political career of Ahmed Khûja, we have made some remarks about the Turkish term dayi and the relationship of these provincial chiefs with the central Ottoman power. They always obeyed the orders of the Gate, so Ahmad Khûja sent arms and men as a contribution to the war in Crete. The Tunisian navy and the navies of the two other Maghreb provinces played a decisive role in this war against the Genoese and Maltese. Based on recent research and new documentation, the article then addresses the question of a waqf of the dey Ahmed Khûja in favour of the « Alâeddin Keykubad » mosque in Sinop, his native city.

Keywords

the dey Ahmed Khûja, waqf of the Alâddine Keykubad mosque, Sinop, the war of Candia, the navy of Tunis, the Maghreb regencies, the deys, the 17th century

المرجع لذكر المقال

مؤيّد المناري، « الداي أحمد خوجة: جوانب من حياته السياسيّة، مآثره وعلاقته ببلده الأم تركيا »، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 09، سنة 2020.

URL : https://al-sabil.tn/?p=12248

نص المقال

المقدمة

لم تحسم الدراسات التي خصّت مدّة حكم الدايات في مسألة مدى تبعيّة تونس لحكّام الأستانة العثمانيين ومدى تغلغل الثقافة التركيّة في هذه الإيالة في تلك الحقبة الزمنيّة. فهناك من يرى أنها لا تزال تحت وطأة سلاطين الدولة العثمانيّة وهناك من يعتبر أن حكم الداي هو شكل من أشكال بداية الانفصال والاستقلال عن التبعيّة. فلو ننظر لهذه الفترة عبر دراسة مجهريّة تعتمد على تحليل الحياة السياسيّة لإحدى الشخصيّات التاريخيّة الفاعلة ضمن هذا النظام الجديد، ونحاول من خلال بيوغرافيّة هذه الشخصيّة فهم حقيقة بعض ملامح فترة الدايات والتركيز على دورهم الهام في سير تاريخ اللحظة التي عاصروها.

نسلّط الضوء في هذا المقال على شخصيّة فعّالة في العهد العثماني بتونس، وتحديدا عهد الدايات، العهد الذي يمثّل صورة حقيقيّة لمواصلة تحكّم الأتراك المطلق في تسيير البلاد قبل ظهور حكم العائلات النصف مستقلّة كالمراديين والحسينيين الأوائل. هذه الشخصيّة هو الداي أحمد خوجه سادس دايات تونس والذي آل إليه منصب الداي بعد تجذّر النظام، من سنة 1640 إلى سنة 1647، لفترة تبدو وجيزة في الظاهر لكنّها ثقيلة في الباطن. لقد أفردنا هذا الداي بدراسة منوغرافية حاولنا فيها توضيح وزنه السياسي والعسكري في علاقة بمحيطه الداخلي والخارجي. فمن هو هذا الداي؟ وماهو تأثيره في مجريات أحداث المتوسّط؟ وماهي علاقته ببلده تركيا وفي ما تتمثل مآثره بالإيالة التونسيّة وخارجها؟

1. الداي أحمد خوجه في المصادر التاريخيّة

1.1. ملاحظات عن حكم الدايات

اتفق جمهور الباحثين في التاريخ الحديث للإيالة التونسية على أن بداية حكم الدايات بتونس يبدأ بعد فتنة البولكباشيّة الواقعة في أكتوبر من سنة 1591، تلك الحادثة التي أنهت سلطة الباشاوات ومكّنت الدايات وهم فئة عسكر الإنكشارية، من تسيير الحكم مباشرة من الديوان، أين تجتمع المحكمة الشرعيّة والسلطة العسكريّة في آن واحد. ورغم أن هذه الحادثة وصفت من قبل بعض المؤرخين بـ »الثورة » على حكم الباشاوات الأتراك وبداية تأسيس لحكم محلي1، فإنّ الأمر لازال يتطلب التحري من مسألة وصفها بالثورة على حكم « الباشاليك » في اتجاه تأسيس لحكم مستقل حتى ولو كان صنّاعه أصحاب ثروة مالية طائلة ومتنفذين بمردود القرصنة، ففي تلك الفترة لا تزال أوامر السلطنة العثمانيّة نافذة وحكم تونس في تبعيّة مطلقة لسلطة الأتراك، فلا يعد تآمر الإنكشارية من صغار الضباط على رؤسائهم « البلوك باشي » إلاّ صراعا داخليّا بين جنود العسكر وانقلابا أو فتنة اندلعت في صلب المؤسسة العسكرية2. ويبدو أنها كانت بإيعاز من السلطان العثماني مراد الثالث الذي تفطّن لفساد الباشاوات وتعيينهم التعسفي للآغوات، وتشديد المعاملة مع أهل البلد وصغار الضباط السامين في الجيش الإنكشاري حيث ذكر ابن أبي دينار في هذا الصدد أن الباشاوات « ساروا في أحكامهم بعنفة على من دونهم في العسكر ووقع منهم الجور »3. وهذا ما يمكن استنتاجه من فرمانات المهمة دفتري التي وجّهها الديوان الهمايوني لقضاة الإيالات لاستدعاء بعض الباشاوات من الفاسدين ومحاسبتهم4. ويبدو أن مكيدة تصفيتهم كانت منظمة، وتم تعويض مسؤولية النظر في شؤون كبار العسكر للداي بعد الفتك بهم.

ولقب الداي لم يقع استحداثه بعد الفتنة لكن كان لقبا موجودا ضمن تركيبة العسكر التركي منذ سنة 1574 ويخص فئة من الإنكشاريّة، وهذا ما جاء في كلام ابن أبي دينار عند تطرّقه لفتنة البلكباشيّة : « واتفقوا على تقديم واحد من الملقبين بالداي »5 ثم يضيف أنهم لمّا تحزّبوا أحزابا لم يتم لهم أمرا من كثرة داياتهم » 6 أي أن لقب الداي كان متواترا من قبل ولم يظهر بُعيد 1591 وكانوا فئة من عسكر الإنكشاريّة تحت البلوكباشيين من الأورطلر (Ortalar) بين التشربجي باشي والأوده باشي. أمّا عن معنى اللقب، فهي كلمة تنحدر من اللغة التركيّة القديمة وهي صفة عسكرية وقد تفطّن لذلك المؤرخ روبار منتران باقتضاب شديد7. وللداي في اللغة التركيّة خمسة معاني؛ الأول هو الخال، أي أخو الأم، والثاني اسم يتداوله الشبان فيما بينهم للمناداة في الدارجة التركيّة. والمعنى الثالث اسم لفئة من الحراس الساهرين على أمن المدينة أي « الحامي » ويقال دايات الإنكشارية (Yeniçeri dayıları). والمعنى الرابع هي صفة تطلق على محاربي « الألبلك والألبلر » (Alpler) وهو المحارب التركي الأناضولي القوي والشريف والذي له عادة اصطياد النسر ورشق ريشه في عمامته وربط السيف في معصمه. أما المعنى الخامس والأخير فهو اسم يدور حول صورة البحّار – القرصان – المجاهد الذي يتميّز بمهارات قيادة السفن والركوب في البحر ليلا وفي أوقات العواصف والمتمرّس على القرصنة والذي احتكّ وتعامل في البحر مع القراصنة الاسبان والبندقيين والمالطين والإفرنج والأنقليز8. وهي الصفة التي طغت على عسكر دايات تونس من الانكشاريّة والذين سيُكوّنُونَ فيما بعد أوليغارشية حاكمة تعترف بالولاء للسلطان العثماني.

ومن الغريب ألّا يُعرّج صاحب كتاب المؤنس على أصل الدايات عند تناوله لتراجمهم. واقتصر على ذكر أحوالهم وحوادث عاشوها وبعض صفاتهم ومآثرهم، في حين أن الوزير السرّاج اجتهد محاولا التعرض لأصولهم ما أمكنه عن طريق السماع وتوثيق الرواية الشفوية نقلا عن من يثق به. لن نتعرّض في هذا المقال لدراسة فترة حكم الدايات، بل نودّ أن نسوق بعض الملاحظات، من خلال بعض الإشارات المصدرية، حول مدى تبعيّة الدايات لسلطة الأتراك والحديث عن محاولة تأسيس الحكم المحلي وبناء نفوذ مركزي سياسي في هذه الفترة.

نلاحظ من خلال الأسماء أن أغلب الدايات هم من أصول تركيّة، فعثمان داي ويوسف داي وأحمد خوجه ومحمد ومصطفى لاز9 ومصطفى كره كوز ومحمد أوغلو ومحمد بيشارة10 (biçar) وأحمد شلبي ومحمد طاباق11 كان جميعهم من أصل تركي. ويعتبر عثمان داي هو من أعيان جند الترك وكان ينعت أيضا بقره عثمان12. ويوسف داي هو ابن مصطفى التركي هو إنكشاري من عسكر طرابلس الغرب قدم لتونس وانخرط في صلب الجهاز العسكري. ثم ذاع صيته ليدخل الديوان ويصبح المؤسس لديار الأوضباشية التي ضمّت مائتي دار13. ومنهم من مارس القرصنة في البحر ليكوّنوا ثروة طائلة ساعدتهم إلى جانب صفتهم العسكرية في الاستئثار بمنصب الداي مثل محمد طاباق الذي كان له « اقتدار عظيم على رئاسة البحر في الغلائط والمراكب وكان له خبرة عظيمة برمي المدافع »14.

لقد أطلقت المصادر على هذه الفترة تسمية » الدايلار » وهو المصطلح التركي لتقسيم الحقبة العثمانيّة في إيالة تونس وتنتسب لتسمية الداي في صيغة الجمع (Dayılar)، حيث ذكر الوزير السراج أن الداي يونس « كان أحد الدايلار الأربعين الذين تقدم ذكرهم »15. وهي فترة لازالت تعتبر فيها إيالة تونس مرتبطة في حكمها ونفوذها السياسي بقرارات الدولة العثمانيّة الواضعة عين المراقبة والتسيير من بعيد عن طريق الوصاية. وهذه التسمية تواجدت أيضا بطرابلس الغرب لتنعت الفترة السابقة لحكم القرمنليين، ولتميّزها عن فترة حكم الباشاليك والبكلربكلر وفترة الآغاليك بإيالة الجزائر.

ذكر الوزير السراج أنه في أيام عثمان داي ورد قبطان باشا لينظر في القلاع الثلاثة تونس والجزائروطرابلس الغرب16 وقد فزع عثمان داي وأسرع لملاقاته وخدمته وسماع وتلبية طلبه. عكس ما حصل للطاهر باشا مبعوث السلطنة العثمانية عندما أراد الذهاب للجزائر عن طريق تونس وتم منعه من قبل شاكير صاحب الطابع17 . ورغم أن الداي أسطا مراد من المماليك « فقد خُشي عليه في أول الأمر أن لا يتفق عليه العسكر وأن يأبى الترك على تقديمه على أنفسهم لأنه أول علج تولى دايا »18 فإنه لما تم له أمر الولاية سار سيرة جيّدة على خدمة الأتراك فعندما جاء خبر أخذ بغداد على يد السلطان مراد، « أمر الداي بتزيين المدينة فزُيّنت سبعة أيام وكانت زينة من أبدع ما شوهد في تونس وكانت المدينة أي تونس تمرح في دعة وهناء ».كما دار على ألسن أهل الحاضرة تونس في تلك اللحظة مقولة طريفة وهي « حصول مراد من السلطان مراد للداي مراد »19 للتعبيرعن التبرّك بحكم الداي مراد. وكذلك الداي الحاج مصطفى كاره قوز كان من العسكرأوضباشيا صاحب مراكب وغليونات قرصنة ورغم تمركزه في منصب الداي وثرائه تمت ازاحته من قبل الأتراك لتعجرفه وظلمه للأهالي فقد ذكر ابن أبي الدينار أن اتفق جماعة من الأكابر ووافقهم بعض رؤساء الوقت، ووقعت تصفيته من قبل الأتراك على يد أحمد الصنابلي والحاج حسين شاقال (çakal) وذلك لاكثاره من الظلم والجوز واقدامه على سفك الدماء والمس بأعراض الناس20.

تحتفظ أحكام المهمّة دفتري بأرشيف رئاسة الوزراء باسطنبول بأوامر أرسلت إلى بعض من دايات تونس تنمّ على سريان بعض الأوامر حتى في ظل الحكم المرادي، وإرسالها بإسم الداي وليس بإسم الباي هو دليل على تواصل متانة العلاقة بين الداي ومركز الحكم العثماني21. يَرجِعُ الحكم الأول لسنة 1102 / 1690 وقد تم إرساله مباشرة للداي شعبان بعد الشكوى التي تقدّم بها الفرنسيون للسلطان العثماني حول افتكاك وسلب السفن الفرنسية في البحر من قبل بحارة وقراصنة إيالة تونس22. أمّا الحكم الثاني المؤرخ بجمادى الأولى من سنة 1103/ 1691 فهو أمر موجّه للداي عليّ يأمره بالقدوم بسرعة إلى السدّة العليّة، بعد تعيين داي آخر يتم انتخابه في الديوان، وذلك لحل مسائل تتعلّق بخصوصيات لم يذكر الحكم ماهيتها23.

وخلاصة القول أن فترة حكم الدايات تتميّز بالولاء المطلق لسلاطين القسطنطينيّة فقد أطلق كتّاب الديوان الهمايوني على إيالة تونس في الوثائق العثمانية المؤرخة بنهاية القرن السابع عشر تسمية « دار الجهاد وطن تونس »24، كما أن الدايات رغم اختلاف أصولهم وثراء بعضهم من مردود القرصنة فإنهم عساكر من أبناء خدمة السلطنة العثمانية على حد قول الوزير السراج25. وأن الحديث عن محاولة استقلال الدايات بالحكم المركزي للإيالة لا يزال مبكرا على الأقل في هذه المرحلة. والأقرب إلى المنطق هو الحديث عن بيروقراطيّة عسكريّة مارست النشاط القرصني وخلقت جوا من الديمقراطية الملكيّة العسكريّة تعكس صورة مصغّرة لتصرفات السلاطين العثمانيين بالأستانة، وساهرة على أحوال الرعيّة التونسيّة مع تشريك بعض المماليك والعلوج من أصول أوروبا الشرقية في الحكم وكلّ هذا تحت لواء الدولة العثمانية الحامية والآمرة والناهية آنذاك26.

2.1. الداي أحمد خوجه : بين الولاء التركي واِحتواء البايليك للنفوذ والسلطة

أما عن الداي أحمد خوجه فهو من أصل تركي ويكنى بأوزون أحمد27 أي أحمد الطويل وذلك لطول قامته. وُلد الداي أحمد خوجه ببلدة سينوب من صنجق قسطمونو على ضفاف البحر الأسود (الصورة 1)، ولم يغفل المؤرخ الوزير السراج عن ذكر مسقط رأسه بقوله : « وهو صنابلي منسوب إلى بلد صناب »28. لا نعرف الظروف التي دفعت به للقدوم إلى إيالة تونس، لكن الوزير السراج يقدّم رواية اتفق عليها جميع الحافظين لسير النافذين في عصره، هو أن الداي أحمد خوجه كان قد دخل حماما بسينوب وجلس بين يدي مُدلّكٍ « طيّاب » له خبرة بفن الفراسة، « فقال له : يا هذا إنك إذا خرجت من بلدك هذه ستتولى سلطنة. فلما خرج من الحمّام سافر إلى إسطنبول فوجد بها غلائط تونس فركب فيها وقدم تونس »29.

صورة .1. قلعة سينوب، ق 19
المصدر: أرشيف مكتبة كمال أتاتورك

ولا تخلو هذه الرواية من التلفيق الخرافي الذي وُثّق عمدا لكتابة بيوغرافية الداي فلا يجب أن يكون قد قَدم بطريقة حقيرة وقد استوجب إعطاء الثوب البطولي والتجميلي والمتمثل في تكهّن « الطيّاب » بمستقبل الداي قبل قدومه. ويبدو أن وصول أحمد خوجه إلى تونس كان إمّا عن طريق ممارسة تجارة بحريّة أو عن طريق تجنيد عسكريّ خصّ وجهة الإيالة وساق الإنكشاري أحمد بن موسى بعد إثني عشر سنة من قدومه لمنصب الداي.

يذكر ابن أبي دينارأن الداي أحمد خوجه كان في أول أمره خوجه الديوان وله سيرة حسنة في التعامل مع أفراد العسكر. ويضيف أيضا أنه أصبح فيما بعد « سردار العسكر »30 أي كبيرهم. ويذكر حسين خوجه في ذيل بشائر أهل الإيمان أن الداي أحمد خوجه تولى خطة « دفتر دار » بالديوان أي المسؤول على المعاملات الماليّة، فقد كان يجلس لدفع المرتّب على حد قول الوزير السراج31، وهذا قبل أن يُولى دايا باتفاق من العسكر32. وصفت المصادر التاريخيّة الداي أحمد خوجه على أنه كان ذا نباهة وفطنة وأنه كان حَسَنُ المعاشرة وطيّب المعاملة، فلم يختلف اثنان على تولّيه منصب الداي بعد أُسطا مراد حسب ابن أبي دينار، ونفهم من بعض الإشارات المصدرية أنه كان يميل إلى التديّن وله في علوم الدين والفقه معرفة فقد كان مقربا من إمامه الشيخ أبو عبد الله برناز33 الفصيح باللّغة التركيّة ولا يتصرّف إلا بمشورته.

تزوّج الداي أحمد خوجه من تركيّة ابنة الحاج محمد أرنوط التي توفيت سنة 1075 / 1665 34، وذلك رغبة منه في المحافظة على النسل التركي (انظر الرسم التوضيحي 1). هذا ويفهم من المصادر أن الداي أحمد خوجه لم يستطع التّخلّي على الثقافة التركيّة التي تربّي عليها فقد كان الفقراء والأيتام يُقبّلون يده عند ملاقاته على الطريقة التركيّة لتقبيل يد السلطان. كما أن استحضار السيّد الخضر من قبل إمامه الشيخ برناز في مسألة تتعلق بعقد نكاح ابنه محمد شلبي35 لخير دليل على تجذر الثقافة التركيّة في الإيالة التونسية في ذلك الزمان36.

يشير ابن أبي دينار عند حديثه عن تمكّن أحمد خوجه من مؤسسة العسكر بمدينة تونس ونفاذ كلمته فيقول ابن أبي دينار « واستقامت أحوال أحمد خوجه وكان مطاعا في عسكره بحيث أنه استنفر العسكر إلى غار الملح لأجل واقعة يطول شرحها فلم تكن إلا ساعة من النهار حتى خرج العسكر عن آخره ولم يبق بالمدينة أحد وهذا من نفاذ أمره »37. لم يذكر صاحب كتاب المؤنس تفاصيل هذه الحادثة التي جدّت سنة 1057/ 1647، قبل وفاة الداي أحمد خوجه بأيام قليلة. لكنّه أراد الإشارة إلى عظمة شخص الداي ونفاذ كلمته في صفوف العسكر. وهذا يُذكرنا بتصرفات سلاطين الترك وتنفذهم في عسكر الإنكشارية العثمانيّة. وكأن الداي أحمد خوجه الذي كان « سردار العسكر » ثم أصبح دايا، وكأنه يتقمّص جبروت شخصيّة السلطان العثماني وينتهج نحو تقليد تصرّفاتهم وأفعالهم. فأغلب السلاطين الأتراك مرّوا بالتراتبيّة العسكريّة في صلب وجق الانكشاريّة في مرحلة الأمير – ولي العهد (şehzadelik) ودائما ما كانت بينهم وبين العسكر خلافات تحدّي وإثبات وجود وحدود تصل إلى قطع رؤوس آغة الإنكشارية أو الشرباجي باشي أو حتى سردار العسكر. كما أنّ عدم موافقة كبار العسكر على ركوب الباي حمودة باشا المرادي في بداية أمره مائتي صبايحي كان قد طلبها من الداي أحمد خوجه38 لخير دليل على سيطرة العسكر الإنكشاري التركي المطلقة وتبني النزعة العسكريّة التركيّة في حكم البلاد في فترة حكم الدايات.

يورد الوزير السراج واقعة وهي أن جنديّا إنكشاريّا افتك من بائع قثاءٍ قطعة بأقل من ثمنها وضربه، فأرسل الداي أحمد خوجه من أتاه بالجندي وقال له « يا هذا هل تعلم أن هؤلاء الباعة عليهم قائد ملتزم وإذا انفتح باب الغصب والجور بطلت الباعة وإذا تعطل القائد انقطع المال المُرتب للعسكر، واذا انقطعت المرتبات تأتيني إمّا أبيع كُرْكِي أو تسبب في قتلي »39. وكُرْكْ (Kürk) هو مصطلح تركي ويعني المعطف المصنوع من جلد الحيوان والمزيّن بالفرو وهو لباس السلاطين العثمانيين وكان يضرب به المثل في الثراء لدى الأتراك وكان رمزا للحكم، ويُرسل كهدية لدايات تونس وباياتها على أساس خلعة همايونيّة. وحرف الياء « ي » الذي أُلْحق لحرف الكاف ليست بياء الملكيّة بل هي ياء تجعل الإسم مفعولا به في اللغة التركيّة. وهنا ربّما كان الداي أحمد خوجه قد خاطب الإنكشارية آنذاك باللسان التركي وتمّ توثيق الحادثة في مصادرنا المتأخرة باللغة العربية. هذه بعض الإشارات التي تعكس مدى تأثّر الإيالة في فترة الدايات بثقافة الأتراك، توقفنا عندها لنعكس خصوصيّة الداي وتقريب صورته لدى الباحثين.

ما يجب الإشارة إليه في الآن نفسه، وفي ما يتعلق بطبيعة الحكم في الفترة التي تهمنا، سنوات حكم الداي أحمد خوجه، أنّ هذا الأخير لم يكن في آخر أيامه يحكم الإيالة حكما مُطلقا، فقد بدأ نجم الباي محمد المعروف بإسم حمودة باشا يلوح في الأفق وظهرت أولى العلامات التي تُعلن تراجع نفوذ الداي لحساب منصب « البايليك » وذلك لأسباب داخلية ذات صلة بالتحكّم في دواخل البلاد، وخارجيّة تمثّلت في بداية وهن السلطة وكثرة الانقلابات العسكريّة بالديوان الهمايوني التركي. منذ سنوات حكم يوسف داي، أُوكلت مُهمة قيادة المحلّة لمراد كورسو ذلك المملوك الذي تربّي بين يديْ رمضان باي وكان مهيأ في أعين الداي يوسف لمنصب قيادي. فكانت هذه الثنائيّة في القيادة والتسيير خطوة أولى لبداية انفلات الأمور من يد الدايات. ورغم تشبّث الداي أحمد خوجه وإعادة إحيائه لمؤسسة الداي والتشديد على أَتْرَكَتِهَا وانتمائها الصريح للسلطنة العثمانيّة، وجد نفسه يقتسم الحكم مع الباي حمود باشا الذي « مهّد البلاد » حسب قول ابن أبي دينار. فقد بدأ حمودة باشا المرادي يتقرّب من الداي أحمد خوجه حيث ذكر ابن أبي دينار أنه لمّا تمت المحاسبة بين سليمان باي وحمودة باشا أهدى هذا الأخير كل أملاك سليمان باي التي تمت مصادرتها عوض المال والمتمثلة في غليون وزندالة وسانية برأس الطابية للداي أحمد خوجه عندما كان سردار العسكر40. ورغم هذا التقرب فقد حصلت مشاحنة واصطدام بين الداي أحمد خوجه والباي الصاعد بسبب فتنة حميدة عاشور الذي قُتل على يد أحمد خوجه في ما بعد41. ويظهر أن سحب بساط الحكم من الدايات لحساب البايات تأكّدت في هذه اللحظة. البايات، أولئك الذين تمكنوا من دواخل البلاد وأخضعوا القبائل الجنوبيّة وخاضوا معارك لتحييز المجال الترابي للايالة، حَرْبَيْ 1614 و1628، مثّلوا قوّة صاعدة سرعان ما وضعت يدها على شرايين البلاد الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فسنة 1640 كانت السنة التي ظهر فيها الباي حمودة زعيم البلاد عوضا عن الداي أحمد خوجه، الذي انشغل في خدمة نفسه مع الأتراك والاهتمام بأحوال سُفنه وزاده المتأتي من القرصنة. وربما تكون بداية تقهقر مجال القرصنة وتراجع مردودها وهشاشته – على حد قول الأستاذ عبد الحميد هنّية- في بداية القرن السابع عشر أمرا ساهم أيضا في صعود البايات الواضعين أيديهم على الثروة الفلاحيّة والمنجميّة للبلاد. يُفسّر صعود مؤسسة الباي أيضا على حساب الداي، بتعبير مجازي يتمثل في بناء « القنطرة » بينهم وبين رجال الدولة العثمانية، فقد حرص حمودة باشا وبعض ممّن تلاه من البايات على إحراز الرّتب الملكيّة وذلك بطلب لقب الباشا وعرض الهدايا الثمينة على الحضرة العثمانية. وقد عبّر صاحب المؤنس على هذا الهاجس الذي انتاب الباشا حمودة أفضل تعبيرٍ، بقوله » وطار صيته في البلاد الروميّة [أي القسطنطينيّة] وبعث الهدايا الجليلة إلى الأعتاب السلطانية … ودخل إلى الحضرة بشعار السلطنة وكان يوم دخوله يوما مشهودا تباشرت به أهل البلاد وباشر الولاية على أكمل حال »42 وهذه الشهادة هي إعلان واضح لبداية تجذر حكم البايات وحَصْرِ نفوذ مؤسسة الداي ذات الجذور التركيّة في بوتقة دون صلاحيات.

ولم يكن صعود المراديين (1640 – 1675)، لقيادة الإيالة التونسية مدعوما بعوامل داخلية فقط، بل ساعدت على ذلك الظرفيّة الصعبة التي تعيشها الدولة العثمانيّة من معارك واصطدام بين سلاطين القصر وآغوات وجق الإنكشارية. وكأن طبيعة سير التاريخ وأحداث المتوسط حتّمت هي أيضا بداية تبعثر المصالح التركيّة في الإيالات وظهور السلالات النصف مُستقلة عن مركز الحكم العثماني وبداية التحرّر شيئا فشيئا نحو بناء نفوذ مركزي وتأسيس حكم ملكي موالٍ روحيّا للسّدة العليّة على أساس الإشتراك في الحَميّة الإسلاميّة، ومؤسسا لأرستقراطيّة ملكيّة أسوة بالسلطان وحاشيته وقدسيّته في عواصم الإيالات البعيدة. هنا يمكن القول أن الردهات التاريخيّة الصعبة التي ميّزت الحكم العثماني على طول القرن السابع، والتي تميّزت بعدم استقرار وصراع على كرسي السلطنة وعصيان مستمر للإنكشارية الذين اقتحموا القصر في حادثة لا سابق لها. وما بات للاقتدار أن يسقط بين أيدي نساء السلاطين الذين يُرشحون شاهزادتهم لتولي السلطة – رغم اعتراف المصادر بذكاء صاحبة الاقتدار السلطانة كوسام والدة مراد الرابع وما يحسب لها في حسن تدبير وتسيير شؤون السلطنة43 – كان لها أثر كبير على تراجع مؤسسة الداي لتبدأ حركة التنصّل ثم الاستقلال الكُليّ بالإيالة وبناء الشخصيّة التونسيّة وصيرورة نظام محلي تجذّر مع حكم المشير أحمد باي. كما أنّ الصراع الذي نشب في البيت المرادي بين أبناء مراد الثاني كان في الحقيقة صراعا بين صلاحيات الداي والباي، فالداي أحمد شلبي والداي محمد طاباق كانوا من بين الشخصيات المتنفذة في هذا الصراع الدموي.

2. معركة كنديّة : الداي أحمد خوجه ومامي جمل ودور غلائط أوجاق الغرب الثلاث

1.2. افتكاك قلعة كنديّة بجزيرة كريت

تعتبر معركة كنديّة تواصلا للصراع البحري بين الأتراك والبنادقة الذي نشب منذ الربع الأول من القرن السادس عشر وتحديدا سنة 1538 للسيطرة على جزر بحر ايجه. لم تكن أساطيل الحرب البحرية البندقيّة بالهيّنة، فقد كبّدوا الأتراك عدّة خسائر بحريّة وضيّقوا عليهم الخناق وحاصروا بوغاز « تشنقلا » (Çanakale) المؤدي لإسطنبول مرارا وتكرارا. وفي أيام حكم السلطان إبراهيم بن أحمد الأول44، قام بعض القراصنة المالطيين بقطع طريق سفينة عثمانيّة كانت متجهة إلى مصر أمام سواحل جزيرة كريت، وكانت محمّلة بالهدايا وكان يركبها آغة القصر سنبل آغة الذي كان قاصدا الحج عبر مصر. في الأثناء جهّز السلطان إبراهيم أسطولا حربيّا وعيّن عليه القبطان داريا يوسف باشا وطلب المدد العسكري البحري من أوجاق الغرب، تونس والجزائر وطرابلس الغرب. ويذكر الوزير السراجوفي هذا الخصوص، عند سرد أحداث سنة 1645، ما يلي : » وكان السلطان إبراهيم غضب على سنبل آغة دار السعادة وأرسله إلى مصر قاصدا الحج فحمل أثاثهُ في ثلاثة مراكب فأخذته أغربة مالطة وأغربة كنديّة، فجمع السلطان إبراهيم ما تحت طاعته من المراكب من جملتها مراكب الجزائر وتونس وطرابلس »45.

تزامن هذا الطلب مع ولاية الداي أحمد خوجه على تونس وقد عرّجت المصادر على بداية الحرب وطَلَبِ العون من داي تونس، فمثلا يذكر ابن أبي دينار أنه في « سنة خمسة وخمسين بعد الألف كان ابتداء العمارة لكنديّة وجاءت الأوامر السلطانيّة لقصد العسكر والمراكب إعانة للسلطان فندب أحمد خوجه الناس وجعل على أهل المدينة والربضين أموالا لتجهيز المسافرين وعيّن جمعا من الرعيّة للسفر ولكل واحد جعل من ذلك المال مقداره ثلاثين كرونة لكل رجل وعيّن جملة من المساحي والفيسان والقفاف وبعثهم في المراكب »46. تمت الاستجابة إلى الطلب من طرف الداي أحمد خوجه ووصلت الامدادات البحريّة في غرة جمادى الأولى من سنة 1055 / 25 جوان 1645 وتم فتح قلعتين من الجزيرة ومحاصرة قلعة خانية. تكلّف بهذه المهمة القبطان داريا يوسف باشا الذي تمت ترقيته من السلحدار إلى رتبة قبطان بحر وحاصر جزيرة كريت من جهة قلعة كندية لمدة 54 يوما سقطت فيها قلعة خانية المستعصية بعد صراع طويل47.

لن نتوغّل في سرد تفاصيل المعركة وما يهمّنا هنا هو الإجابة عن سؤال لماذا يطلب الأتراك العون والمدد من الداي أحمد خوجه ومن البحرية الحربية لأوجاق الغرب الثلاثة تونس والجزائر وطرابلس الغرب؟ لا يكفي أن نحتفظ بالإجابة التي تقول أنهم إيالات يتبعون أوامر السلطنة العثمانيّة وملزومون بتطبيقها فهذا أمر غير مقنع لأننا لم نشهد للأتراك أصحاب القوة البحرية المدمّرة، طلب العون من أحد عند فوزها بمعارك بحرية شهيرة في بحر سفيد وحتى معاركها لافتكاك جزيرة جربة وتونس التي تعتبر من أكبر الملاحم. فكيف لقوّة بحريّة مثلها أن تطلب العون من تونس بعد 70 سنة من ضمّها لجغرافيتها؟

2.2. مساهمة بحارة أوجاق الغرب في تطوير تقنيات صنع سفن الترسخانة العامرة بإسطنبول

لقد اكتشف الأتراك بداية ضعف تقنياتهم البحريّة وعدم صمود أسطولهم البحري في بداية معركة أخذ قلاع جزيرة كريت، ويكمن المشكل الأساسي في طبيعة الأسطول الحربي البحري، فاعتمادهم على القادس الكبير أي السفينة الكبيرة ذات المجاذف والتي تعرف باسم القادرغة (Kadırga) لم يعد يجدي نفعا أمام الأغربة أو ما يعرف بالغليون (Kalyon) تلك السفن التي تعتمد على قوة الرياح بأشرعتها الكبيرة وسرعة مناورتها للقادرغة التي باتت ثقيلة الحركة. هنا وجد الأتراك أنفسهم أمام نقلة نوعيّة في التقنيات البحريّة طوّرها البنادقة والمالطيون ونجحوا في جعل أساطيل العثمانيين تقف عند مراقبة السواحل فقط. لذا وبالرغم أن « الترسخانة العامرة » كانت مشغولة سنة 1645 بصنع 15 وتصليح 33 قادرغة، فقد تطلّب الأمر اجتماع آغوات ورجال الدولة العثمانيّة لمناقشة عمليّة تأسيس ورشات لصناعة هذا النوع الجديد من الغليون. وعليه قام شيخ الإسلام عبد الرحمان أفندي باستشارة البحار والعالم بحروب البحر كاتب شلبي عن كيفية تحسين العتاد البحري وخاصة مسألة تراجع سفن القادرغة، فأجاب بأنه عند فتح تونس وجزيرة قبرص لم يعتمد ميرميران ورياس البحر إلا على القادرغة لا غير. هنا وجد الأتراك الحل في طلب العون من قراصنة وبحارة أوجاق الغرب وخاصة قراصنة تونس الذين طوّروا سفن قرصنة سريعة شبيهة جدا بما يعرف بالغليون وهي تلك السفن التي أجمعت المصادر التونسية على تسميتها « أغربة ». وبعد سنة 1645 اجتمع السلطان والسلحدار وقبطان البحرية تحت قبّة « قصر السباتشيلار » وسارع الأتراك بطلب النجدة والعون من الداي أحمد خوجه وأخذ قرار مشاركة أوجاق الغرب بأغربتهم والتي بلغ عددها في معركة كنديّة 26 سفينة شراعية حربيّة ضد البنادقة ومساعدتهم للعثمانيين.

لن نبالغ إذا قلنا أن البحّارة التونسيين كان لهم دور كبير في انقاذ الأتراك من هجوم البنادقة والمالطيين فعلاوة على مشاركتهم في الحرب بسفنهم الخاصة تم انتداب بحّارة منهم وتمكينهم من العمل في « الترسخانة العامرة » باسطنبول وذلك لمهارتهم في صنع هذا النوع من السفن الجديدة الناجعة في الحروب البحرية. ففي عهد عثمان داي ظهرت لأول مرة المراكب الكبار والشواطي والبطاشات ببر تونس عوض الفراقط48. كما أن الشكوى التي تقدّم بها سفير فرنسا إلى السلطان العثماني اثر أعمال البحارة والقراصنة التونسيين الذين قاموا بقطع طريق سفن الفرنسيس في البحر، وارسال السلطان فرمانا إلى بكلربكي تونس سليمان باشا سنة 1108 / 1696 يؤكّد قوة السفن التونسية على خوض الحروب البحرية ومواكبتها للتقنيات البحرية الحديثة49.

في الأثناء تشير بعض المصادر التركيّة العثمانية إلى أن أسطول قراصنة أوجاق الغرب سئموا الحرب، وأثاروا غضب السلطان لغيابهم في بعض الأوقات الحرجة وعدم مشاركتهم في الحرب ضد أغربة المالطيين50. كما أشار الوزير السراج لهذا الاضطراب الحاصل بين الأتراك وقراصنة أوجاق الغرب بقوله : » وجهّز [ الداي أحمد خوجة ] جملة آلات حفر لإقامة المتاريس والألغام وكذلك في السنة التي تليها، ثم قطعت تلك العوائد بعد ذلك لما حلّ بالمسلمين من الحيف في التورّك على ضعيف الحال »51. ورغم هذا التقاعس الذي لوحظ على بعض بحارة أوجاق الغرب أو مخالفتهم لقانون الحروب البحريّة فإن الأتراك لم يتخلو على هؤلاء البحارة والقراصنة المهرة في مشروعهم لتأسيس ورشة جديدة داخل دار صناعة السفن « الترسخانة العامرة » باسطنبول، ألا وهو تكوين وجق صنع الغليون والأغربة السريعة، فقد فشلت أول محاولة لهم في صناعة مثال للغليون البندقي وغرقت في البحر. وبعد سنة 1682 حُرّر قانون هذا النوع من الصناعة وأصبح يعرف بـ « ظهوري غليون ميري » أي وجق جديد لصناعة الغليون الميري (صورة 2).

لقد كان لبحّارة وجق الغرب دورا أساسيا في تطوير التقنيات البحريّة للأسطول العثماني من النصف الثاني من القرن السابع عشر إلى حدود القرن الثامن عشر، وذلك بتشريكهم في عمل دور الصناعة البحريّة بالسدّة العليّة. ويبدو أن المالطيين كانوا على علم بالمهارات التي تميّز بها بحارة تونس في الحروب والقرصنة وحتى صناعة الشواطي والأغربة السريعة، لذلك نفهم أن عمليّة هجومهم بمساعدة الأنقليز على مرسى حلق الوادي أيام حكم الداي أحمد خوجه كانت منظّمة ومع سبق الترصد، فتقارير الجوسسة البحريّة أعلمتهم بمشاركة أغربة تونس في حرب جزيرة كريت، ولدرئ هذا الخطر المحدق بالقوى الصليبيّة اتحد المالطيون والأنقليز، وكان هجومهم سنة 1055 / 1645، موجّها إلى المراكب والغلائط مباشرة بالحرق والتكسير: « وفي أول ولايته (الداي أحمد خوجه) جاءت أغربة مالطة ودخلت حلق الوادي وأخذت منه عدّة مراكب أحدها مركب بوشاشية وحرقوا مراكب أُخر وفعلوا فعلا عظيما »52. ويضيف الوزير السراج نقلا عن من يثق به أن الأنقليز قاموا بحرق إحدى عشرة مركبا منها واحدة سلافية. كما أورد رواية شفوية تقول بأن الأنقليز أطلقوا خمسة عشر ألف مدفعا حتي صار النهار ليلا من دخان البارود وأحرقوا المراكب المذكورة وكانت من أعظم المكائد53.

وبالرجوع إلى قائمة أسماء البحارة الذين اشتغلوا في « الترسخانة العامرة » والتي تحمل تاريخ سنة 1106/ 1695 نعثر على أسماء أصحاب بعض السفن مثل فرقاطة القبطان أحمد التونسي وفرقاطة القبطان أحمد الطرابلسي. وبالرجوع أيضا إلى دفتر قبطان الغليون في « الترسخانة العامرة » نجد أسماء مثل القبطان علي التونسي وسليمان الجزائري وغيرهم من رياس البحر المنتمين إلى أوجاق الغرب54.

لم يكتف قراصنة أوجاق الغرب بفتح قلاع كندية وخانية بجزيرة كريت فحسب بل قدموا على مد يد المساعدة مرة أخرى لفتح قلعة « كاسترو » بعد طلب السلطان محمد بن السلطان إبراهيم، فقد ذكر الوزير السراج أنهم « سارعوا وشرعوا القلاع وسفروا وأسفر لهم النصر عن وجه عزم يشير اشراقه بما ظفروا. وانخرطوا في العمارة العثمانية وانتظموا في سلك العساكر الخاقانية ونزلوا في جزيرة كاسترو في غرة حجة الحرام سنة 1077 / 25 ماي 1667 … وفي السنة الثانية من محاصرتها عادت سفن تونس إلى الجهاد » 55.

.صورة 2. غليون عثماني، 1720 م
المصدر : منمنمات سورنامه، متحف قصر الطوب كابي، ورقة أ، 3549 – 142 أ

لقد كان للفوز في فتح قلاع جزيرة كندية وقع كبير على الإيالة التونسية، بالرغم من وفاة أحمد خوجه داي سنتين بعد بداية الحرب 1057 / 1647 ، فقد احتفل الداي مصطفى لاز بهذا الفوز » وكانت الزينة العظيمة المشهورة عندما جاءت البشارة بأخذ إقليم من أقاليم الكفر وهي كنديّة »56. كما كان لهذه الحرب وقع كبير في تعيين الداي مامي جمل دايا على تونس فقد كان من جملة المحاربين الذين سافروا من تونس نصرة للعثمانيين في حرب كندية وحصّل بذلك شرفا عظيما. ومن بين ما دوّن الوزير السراج في هذا الصدد هو أن الداي مامي جمل » حصلت [له] فيها المزيّة العظمى التي ما حصلت لأحد من العساكر غيره، وذلك أنه كان بيده راية عسكر تونس فتقدم أمام العساكر الثلاثة ونصّبها وكانت بقدر الله السبب المبارك في النصر والفتح. وفاز بذلك المشهد بالفخار المؤبّد»57.

3. مآثر الداي أحمد خوجه

1.3. في تونس المحروسة

لقد قام الداي أحمد خوجه في فترة حكمه الممتدة بين جويليّة 1640 إلى جويلية 1647 ، بإعطاء الأوامر لتشييد وترميم بعض المعالم بمدينة تونس. بدأ أولا بترميم المدرسة العنقيّة التي كانت خرابا ولا نعرف هل إستوعبت المدرسة العنقية تأثيرات الوقت أم أن الأمر اقتصر على ترميمها كما هي بيد عاملة محليّة. كما تذكر المصادر أن الداي أحمد خوجه قام أيضا بصيانة المدرسة الشماعيّة ونظّم بها درسا وجعل عليه الشيخ أبو عبد الله أحمد برناز وأصبح المكان المفضل للداي لإقامة صلواته. أيضا يحسب لأحمد خوجه بناء برج ثان في مرسى حلق الواد بعد الهجوم التخريبي الذي قام به المالطيون والأنقليز، وذلك لتحصين المرسى من الهجومات وضربات المدافع فلم يكن البرج الأول الحربي كافيا لرد تلك الضربات المدفعية. لكن هذا البرج لم يبق له أثر ويبدو أنه هُدم مع تهديم السور أو أثناء ضربات القرن التاسع عشر والدمار التي تزامنت مع الحرب العالمية الثانية.

.صورة 3. تربة الداي أحمد خوجه بمدينة تونس نهج سيدي بن زياد، سنة 1647
المصدر : صورة زاهر كمون

خلافا لتربة الداي أحمد خوجه (الصورة 3) التي تحمل نقيشة تأسيس مؤرخة بنفس سنة تاريخ وفاته، والتي خصّها الأستاذ أحمد السعداوي بدراسة دقيقة، فإن دفاتر أحباس المراديين والحسينيين أشارت إلى بعض أملاك الداي أحمد خوجه بتونس وإلى بعض أحباسه وأملاك ورثائه. نخص بالذكر أرض القالة ببنزرت المعروفة بالحاج موسى بن الداي أحمد خوجه، وهنا نلاحظ أن للداي أحمد خوجه ابنٌ ثانٍ قام بتسميته على اسم أبيه « موسى » الذي سنتطرق إليه لاحقا. كما كان على ملك ورثة الداي وجميع الأرض الكائنة برمل سيدي سليمان والمحاذية لأرض الصفصافة. أيضا جميع نصف السانية بشطرانة قرطاجنة التي هي حبس من أحباس محمد شلبي ابن الداي أحمد خوجه58. امتلك الداي أحمد خوجه أيضا « حقا » أي عقارا بالمكان المعروف بالكبابجيين من مدينة تونس المحروسة، وجزءا من وقفٍ قرب تربته بسوق البشامقية وسوق الترك بقي على حاله إلى حدود أوائل صفر الخير من عام ثمانية عشر ومائة وألف الموافق لـ 14 ماي 591706.

2.3. في مدينة سينوب بتركيا

تذكر وثائق أرشيف سجلات المحكمة الشرعيّة المحفوظة في أرشيف متحف مدينة سينوب والمتكوّنة من ثلاثة وثائق مؤرخة بالقرن الثامن عشر أن المدعوّة فاطمة بنت عليّ شاوش تقدمت بشكوى لمحكمة مدينة سينوب تطلب فيها حق التصرف في أموال وقف الداي أحمد خوجه المتمثل في مقدار من المال خُصّص لصيانة قنوات صرف مياه الجامع الكبير بسينوب، المعروف بجامع علاء الدين كيقباد (الصورة 4 و5). لكن وكيل الوقف المدرّس قيوم زاده تشبّث بغلّة الحبس وقال أنه وقف على الجامع ومنع المدعوّة فاطمة بنت عليّ من التصرف فيه وإدّعى أنها ليست من نسل داي تونس60.

.صورة 4. صورة مأخوذة من صومعة الجامع الكبير لمدينة سينوب سنة 1890
المصدر : أرشيف مكتبة كمال أتاتورك

ذُكر اسم الداي في وثائق الوقف بشكلين فالوثيقة الأولى تذكر الداي(Tunus dâisi Ahmed Bin Mûsa) أحمد بن موسى والوثيقة الثانية ذكرته باسم أحمد بن موسى الكاتب داي تونس (Tunus dâisi bin Mûsa yazıcı). وحسب ما ورد في الوثيقتين فإن فاطمة بنت عليّ شاوش تكون إبنةُ إبنةِ راضية، عمّة الداي أحمد61. حكمت المحكمة في البداية لصالح وكيل الوقف المدرس قيوم زاده وذلك لأن فاطمة لم تثبت نسبتها إلى الداي أحمد خوجة الذي توفي في تونس، كما أن شهادة بعض أهالي حي جامع سينوب لم تُأخذ بعين الإعتبار. التجأت فاطمة بمطلب إلى الديوان الهمايوني باسطنبول عن طريق عريضة تُعرف بتسمية « عرض حال »، وأعادت فتح قضيّة في تمسكها بالتصرف في حقّها من وقف ابن أخ جدّتها. فأرسل أعضاء المحكمة الشرعيّة بالديوان الهمايوني أمرا بمحكمة سينوب لإعادة فتح الملف والتأكد من حق فاطمة في التصرف في وقف الداي أحمد خوجه وذلك بعدما تأكد لدى شيخ الإسلام السيّد مصطفى أفندي أن وثيقة الوقف التي بحوزة فاطمة هي نافذة وصحيحة لا تشوبها شائبة. أصدر الديوان بتاريخ 14 رمضان 1157 / 21 أكتوبر 1744، قرارا يعرف بـ « البرات العسكري » مختوما بختم شيخ الإسلام جاء فيه أن فاطمة هي إبنةٌ لإبنةِ عمّة الداي أحمد خوجه وأنه حسب الشروط المذكورة في عقد التحبيس لها الحق في التصرف في المقدار المالي ولا يجب أن يتعرض لها أحدٌ وأن لا يبدّل مضمون الوقف.

حَسَمَ هذا « البرات العسكري » الأمر لصالح فاطمة ودعّم مطلبها لدى قاضي محكمة سينوب. لكّن كاتب المقال الأستاذ إبراهيم قولار اعتبر أنّ إنصاف فاطمة في القضيّة ومساندة أعضاء الديوان الهمايوني لها أمرٌ غير شرعيٍّ بقوله » أن فاطمة اِلتجأت إلى طرق غير شرعيّة وقد شهدنا في المحاكم الدولة العثمانيّة منذ بداية القرن الثامن عشر، فساد عديد من القضاة وأن الحكم الصادر من شيخ الإسلام مشبوه فيه ».

.صورة 5. الجامع الكبير بسينوب
المصدر : صورة التقطها مصطفى جانباز

لكّن الكاتب إبراهيم قولار لم يتفطّن إلى أنّ الصيغة الشرعيّة للوقف هي مغايرة لما هو معروف لدى الأتراك. وتسرّع في تأويل الوثائق62. إلاّ أنّ الأمر لا يبدو كذلك فبالرجوع إلى التثبّت من وثائق المحكمة الشرعيّة التي نشرها الكاتب في مقاله تبيّن لنا أن فاطمة تستحق فعلا، حسب رأينا، التصرّف في وقف الداي أحمد خوجه، وذلك للمعطيات التالية :

أولا، لقد كان لرجال الدولة العثمانية القدرة الكافية للتثبت من صحة نسب فاطمة وذلك للعلاقة التي كانت تربط آغاوات الديوان بداي تونس أحمد خوجه، فمسألة طلب العون منه في حرب جزيرة كريت لوحدها لخير دليل على حضور الداي خوجه في مجلس وزراء الديوان العثماني، ومعرفة ابن من يكون ومن هم أفراد عائلته لم يكن بالأمر الخفي عنهم. وتمكين فاطمة من « برات عسكري » هو دليل على انتسابها لعائلة الداي الذي كان يملك امتيازات تخص فئة العسكر الهمايوني.

ثانيا، يمكن القول أن الداي أحمد خوجه كان على مرتبة عالية من الذكاء فقد خطّ الوقف الذي خصّصه لصيانة مياه صرف الجامع الكبير بسينوب على أسلوب صياغة الوقف في القطر التونسي. وجدنا في الوثائق العثمانية بعض الإشارات التي تدعّم هذا وتوضّح صحّة تصرف فاطمة في الوقف منها مثلا ما ورد في « البرات العسكري الهمايوني : » هذا حُكم النيشان الشريف، هذا الحكم الرفيعُ التوقيع والرفيعُ الشأن الخاقاني، يؤكد أن فاطمة خاطون التي تقدّمت للديوان الهمايون بعرض حال، هي من أقرباء داي تونس أحمد بن موسى ولها الحق أن تتولى بموجب التصرف في نقود الوقف حسب ما جاء في وقف جدّها بسينوب… »63. وفي إشارة أخرى وردت على لسان فاطمة، ووثّقت في وثيقة السجل الشرعي لمحكمة سينوب، تقول فاطمة : « والمسؤولة على نقود الوقف هي راضية، والدة أمي خليصة خاتون، وراضية هي شقيقة موسى والد أحمد، داي تونس، ونظرا لشرط المُحبس أن يتولى أولاد أولاد خليصة التصرف في نقود وقف الداي، أنا أطلب أن يتم تسليمي هذه النقود وجعلها تحت تصرفي…»64.

إذن رغم عدم توصّلنا لنسخة وقف جامع سينوب الذي خصّصه الداي أحمد خوجه من ماله، فإننا نقرُّ من خلال هذه الإشارة الواردة في مقدمة « البرات العسكري » ومن خلال ما ورد عن لسان فاطمة، أنَّ هذا الداي تعمّد صياغة الوقف على أسلوب كتابته في تونس، وهو الأدرى بذلك، فقد سبق له التعامل مع مؤسسة الأوقاف ومعرفة خصوصياتها ومنافعها بتونس. ويبدو أنه انتهج ذلك ليضمن استمراريّة الإرث لأولاده من الذكور والبنات وأقربائه، وحسب ما يفهم من الوثائق، والذي لم يذكر صراحة، أنه كلّف عمّته راضية التي لازلت تقطن آنذاك بسينوب بالمراقبة والتصرّف في نقود الوقف في غيابه، كما لا نستبعد أنه اشترط في الوقف أن تعود هذه النقود إلى أولاد عمّته وذريّتها للانتفاع بها في غياب أولاده وعقبه بسينوب. وهذه الخصائص التي تميّز الوقف التونسي وتجعل العقب ينتفع قبل المؤسسات نصّت عليها أغلب الأحباس الخاصة في الإيالة التونسية في العصر الحديث، والتي يمكن لها أن تحدد المنتفعين بالوقف قبل المؤسسات الخيريّة وأن يمر ذلك الانتفاع إلى ذرية المحبّس.

.رسم توضيحي 1. شجرة عائلة الداي أحمد خوجه
المصدر : من إنجاز الكاتب إعتمادا على الوثائق العثمانيّة

الخاتمة

نستخلص من خلال هذه الورقات أن الوقوف على دراسة شخصيّة الداي أحمد خوجه مكنتنا من محاولة الكشف عن بعض الجوانب الضبابيّة المتعلقة بطبيعة حكم الدايات ومسألة ولائهم وتبعيّتهم للدولة العثمانيّة وذلك من خلال تعقب حيثيّات ومعطيات مصدريّة، منها ما هو جديد. ويظهر لنا من خلال ما تقدّم أن فتنة أكتوبر سنة 1591 هي انقلابٌ في صلب مؤسسة العسكر التركي وليست بثورة، كما أن توضيح معنى تسميّة داي – التي لم تظهر البتّة بعد هذه السنة – جعلنا نفهم أنه علاوة على أنهم يمثلون فئة من الانــكشاريّة « الأورطه لر » ما تحت منصب « التشربجي باشي » هم فئة يتميّزون بصفة ريّاس البحر القراصنة والمجاهدين المندمجين في صلب تراتبيّة العسكر الانكشاري في آن واحد. فقد جمع الجيش الذي توجّه لتونس سنة 1574 بين استعمال ثُنائي، القوة العسكريّة البريّة من المشاة “yaya” والقوات البحريّة تحت إمرة الباشا – القبطان. كما أنه إلى حدود نهاية فترة « الدايلار » حوالي 1647 لا يزال الجهاز العسكري الذي يترأسه الداي وآغة الإنكشاريّة تحت صولة وهيمنة مركز السلطنة العثمانيّة ويتلقى أوامره مباشرة من إسطنبول، في حين أن الباي أخذ في الأثناء يتحكّم في محاور البلاد بقيادته للمحلّة. ولن نبالغ البتّة إذا ما اعتبرنا أن الدايات هم سلاح الأتراك للخوض في المعارك البحريّة لتوسع نطاق الدولة العثمانيّة على حساب المجال البحري للبنادقة والمالطيين وجزر اليونان. وتعتبر معركة افتكاك قلعة كندية بجزيرة كريت أبرز مثال على هذا « التجنيد » المتموقع في مناطق خارج أسوار القسطنطينيّة. هذه المعركة جمعت بين الانتقام والتحدّي العسكري، ساهم فيها البحّارة التونسيون وقراصنة أوجاق الغرب مساهمة كبيرة، حيث كان الفوز فيها حدثا لن ينسى في ذاكرة الدايات والحال أنها مثلت معيارا في انتخاب الداي مامي جمل فيما بعد. كما تبيّن لنا في الآن نفسه أن الدايات بمولاتهم ومحاولة تركيزهم وتوثيقهم للنفوذ التركي للايالة تدحرجوا سريعا من أوليغارشية عسكرية تركيّة وقراصنة أثرياء إلى وضعية فقدان النفوذ والمكانة لصالح الباي الذي قام باحتواء مؤسسة الداي وابتلاع صلاحياتها، وشخصيّة الداي أحمد هي أحسن مثال على ذلك. كما أن صيرورة الأحداث ومرور الدولة العثمانية بأزمات حكم وتقتيل وفوضى حال دون تمسّك الدايات بمنصبهم وشجّع على بداية ظهور العائلات الملكيّة في إيالات أوجاق الغرب والرامية إلى تأسيس دويلات أخذت في الانزلاق التدريجي من قبضة الأتراك إلى الحكم الذاتي.

يعتبر الإطلاع على دراسات بلغات أجنبيّة في علاقة بالداي أحمد خوجه وتحينها ونَقْدِهَا، أمرا هاما خاصة عند تقفي مآثر الداي من المنشئات والحسنات التي خصّصها لمعالم دينيّة في مسقط رأسه. فبالرغم من الوضع المتردي والوباء الجارف الذي وصفه ابن أبي دينار بالفناء الأعظم والغلاء المفرط الذي تعيشه الإيالة التونسيّة، نجد أن الداي الثريّ يُخصّص مبلغا ماليّا ضخما ليجعله وقفا على ترميم قنوات مياه جامع سينوب بتركيا وذلك لتعلّقه بمسقط رأسه وأصوله التركيّة.

الهوامش

1 (Mohamed-Hédi Chérif, « La déturquisation du pouvoir en Tunis du pouvoir en Tunisie : classes dirigeantes et société tunisienne de la fin du XVIe siècle à 1881 », cahiers de Tunisie, n°117-118, 1981, p. 179.

2 نساند رأي الأستاذ الأستاذ عبد الحميد هنيّة من أن حادثة 1591م هي انقلاب في صلب تراتبية الجهاز العسكري. هنيّة عبد الحميد، 2012، ص. 106.
3 ابن أبي دينار،1967، ص. 200.
4 توفيق البشروش، 2006، ص. 19 – 185.
5 الوزير السراج، 1984، ص 341.
6 ابن أبي دينار، 1967، ص 201.

7 Robert M., 1959, p. 323.
8 Kubbaltı Lugatı sözlüğü.

9 لاز « Laz » هو لقب يعني كل من له أصول قوقازية أو كل من ينتمي إلى منطقة القفقاس التي تقع بين البحر الأسود وبحر قزوين وتحديدا من لازستان التي تقع على ساحل البحر الأسود.
10 لقب تركي يعني المسكين.
11 لفظ طاباق هو تحريف لكلمة الدباغ العربية. يذكر الوزير السراج أن محمد طاباق أنه تعاطى في صغره لمّا كان ببر الترك صنعة الدباغ عن رجل أندلسي ». السراج، 1984، ص 497.

12 Leila Temim Blili., 2012, p. 247. Samih Aziz I., 1937, p. 222. Voir aussi: André R., 2006, p. 56.

13 الوزير السراج، 1984، ص 413.
14 الوزير السراج، 1984، ص 497.
15 الوزير السراج، 1984، ص 413.
16 الوزير السراج، 1984، ص 346.
17 ابن أبي الضياف أحمد ، 1999، ج 3، ص 163.
18 الوزير السراج، 1984، ص 375.
19 الوزير السراج، 1984، ص 377.
20 ابن أبي دينار، 1967، ص 216.
21 سنشهد بداية من نهاية القرن السابع عشر أسلوبا جديدا في مقدمة الرسائل والأحكام العثمانية الموجّه للإيالة من الباب العالي وهو تواتر استعمال تلك الجملة التي تذكر تقريبا كل رجال الدولة ذوي المكانة السياسية والروحيّة ومن تقلّد منهم أعلى الرتب بما فيهم الداي الذي تراجع نفوذه السياسي على حساب الباي. مثلا : إلى والي تونس والداي والباي والشيخ المفتي والقاضي والأعيان من الشيوخ والعلماء والصلحاء. « تونس بكلربكسينه ودايسينه وبايسينه وشيخلرينه ومفتيسينه وقاضيسينه وساير علماسنه حكم كه ».
22 المهمة دفتري، دفتر عدد 101، ص، 57. حكم مؤرخ بسنة 1102 / 1690.
23 المهمة دفتري، دفتر عدد 101، ص 57. حكم مؤرخ بجمادى الأولى من سنة 1103 / 1691.
24 المهمة دفتري، دفتر عدد 105، ص 75. حكم مؤرخ بسنة 1106 / 1694.
25 الوزير السراج، ص 413.
26 نشاطر الأستاذة ليلى البليلي تميمي في رأيها عندما قالت أن اعتبار فترة الدايات بتونس فترة حكم ذاتي هو أمر مبالغ فيه:

Temimi Blili Leila, 2012, p. 344.

27 ابن أبي دينار، 1967، ص 210.
28 الوزير السراج، 1984، ص 396.
29 الوزير السراج، 1984، ص 396.
30 ابن أبي دينار، 1967، ص 241.
31 الوزير السراج، 1984، ص 396.
32 حسين خوجة، 1975، ص 93.
33 هو لقب تركي ويعني من له أرنبة كبيرة على أنفه.

34 Ahmed S., 2010, p. 66.

35 كان محمد بن الداي أحمد خوجه يميل إلى العيش على النمط الأوروبي ومعجب بالديانة المسيحية إلى حد أنه اقتبس اسم دون فيليب وسافر إلى صيقليّة ليتم تعميده على يد قس في بالارمو ثم انتقل لروما ومنها لإسبانيا ثم رجع لتونس وأراد الحكم من أبيه. لقد كان محمد شلبي بن الداي أحمد خوجه متنفذا ثريّا بمردود القرصنة البحريّة ومنفتحا على الدول الأروبية بواسطة التبادل التجاري الحرّ وعلاقاته مع أمراء الغرب المتينة. يذكر البحّار الفرنسي « قالان بوناي » الذي كان حيّا سنة 1809، أنه لمّا تمّت قرصنته في البحر نقل إلى ميناء غار الملح وعند نزوله من السفينة أجبر على تقبيل قفطان سيّده الذي يدعى حاجي محمد خوجه والمعروف بإسم « دوم فيليب » وهو ابن أحد الدايات. كما ذكر قلان بوناي أن حاجي محمد كان يعمل في مجال القرصنة وله كلمته في ديوان جند تونس ويمتلك ثلاثة سفن من الحجم الكبير وحوالي مائتين وخمسين عبدا من الأسرى ويملك زندالة وخمّارة في مدينة تونس. لا يمكن التأكد إن كان حاجي محمد الذي أورده الأسير قالان بوناي في مذكراته هو نفسه ابن الداي أحمد خوجه أم لا. لأننا لا نعرف متى تم فعلا تدوين المذكرات ولا قدر العُمر الذي عاشه محمد شلبي بن الداي أحمد خوجه. وإن كان شخصيّة مختلفة فنحن نرجّح أن يكون حفيد الداي أحمد خوجه، أي ابن محمد شلبي، ومحتمل أن يكون قد تأثّر بأبيه وواصل نمط عيشه باقتباس إسم « الدوم فيليب » أسوة بأبيه « دون فيليب » ؟ كما أن هذه الشخصيّة تعكس لنا صورة دقيقة عن ثراء أبناء الدايات من مردود القرصنة وخاصة تأثرهم بالعادات التركية مثل تقبيل القفطان. انظر: .Galland A., 1810, p. 49
36 ولد سنة 1012 / 1603 – 1604 كان أبوه ممّن حضر فتح حلق الواد فقد جاء في الأسطول العثماني صحبة سنان وكان في زي درويش، أي شيخ متصوّف، استقرّ مع من استقروا من الأتراك في تونس وتولى الإمامة في ضريح سيدي علي بن زياد. الوزير السراج، 1984، ص 399، 400، 401.
37 ابن أبي دينار، 1967، ص 212. ذكر الوزير السراج نفس الحادثة، ج2، ص 409.
38 الوزير السراج، 1984، ص 408.
39 لوزير السراج، 1984، 397.
40 ابن أبي دينار، 1967، ص 211، 241.
41 ابن أبي دينار، 1967، ص211.
42 ابن أبي دينار، 1967، ص 238، 239.

43 Halil I., 2016, p. 80.

44 السلطان إبراهيم بن السلطان أحمد الأول حكم من 9 شباط 1640 إلى شهر أوت 1648.
45 الوزير السراج، 1984، ص 316.
46 ابن أبي دينار، 1967، ص 211.

47 Idris B., 2010, p. 41.

48 الوزير السراج، 1984، ص 343.
49 مهمة دفتري، دفتر عدد 78، ص 62، حكم مؤرخ بسنة 1108 هـ/ 1696م. يوجد أيضا حكم ثاني مؤرخ بسنة 1102هـ/ 1690م، أرسل إلى الداي شعبان يأمر فيه السلطان بارجاع الأسرى وكل ما تم قرصنته من السفن الفرنسية.

50 Kara Çelebi- Zâde Abdülaziz Efendi, 2003, p. 305.

51 الوزير السراج، 1984، ص 408.
52 ابن أبي دينار، 1967، ص 211.
53 الوزير السراج، 1984، ص 397.

54 Bostan, 2010, p. 209 – 212.

55 الوزير السراج، 1984، ص 319.
56 الوزير السراج، 1984، ص 417.
57 الوزير السراج، 1984، ص 448.
58 أحمد السعداوي، 2011، ص 143، 270، 326.
59 أحمد السعداوي، 2015، ص 204- 205، 352.

60 Ibrahim G., 1990, p. 65 – 78.
61 Güler, 1990, p. 67.
62 Güler, 1990, p. 73.
63 “Nişân-i Şerîf-i âlişânın hükmü oldur ki, Işbu râfi’i tevkı’-i refi’üs-sân-ı hâkânî evlâddan Fatıma Hatun dîvân-ı hümâyunuma arz-ı hâl sunup Sinob’da vâkı’ ceddi Tunus dâîsi merkum Ahmed bin Musa vakfının ber-mûceb-i vakfiyye ve berât-ı âlişanım…”. Güler, 1990, Annexe 3, p.75.
64 “…Cami-i Kebir suyolları tamirine vakıf olan nukûd benim vâlidem Halise Hatun’un vâlidesi Raziye Hatun’un li-ebeveyn er karındaşı oğlu Tunus dâisi Ahmed vakf idüp teveliyyetini evlâd-ı evlâdına şart etmekle ben evlâddan olmağla… nukûd-u vakf-ı mezkuru bana teslim olunması matlubumdur…”. Güler, 1990, Annexe n° 1, p. 74.

المصادر والمراجع

أرشيف رئاسة الوزراء بإسطنبول، وثائق عثمانيّة بدفتر « المهمه - دفتري »، ملف عدد 101، 105: أحكام مؤرخة بسنوات 1690 – 1691 – 1694.

ابن أبي دينار أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم، 1967، المؤنس في أخبار إفريقية وتونس، تحقيق محمد شمام، تونس.

ابن أبي الضياف أحمد، 2001، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، 8 أجزاء، تونس.

البشروش توفيق، 1992، جمهورية الدايات في تونس 1591 – 1675، تونس.

السرّاج محمد بن محمد الأندلسي، 1984، الحلل السندسية في أخبار التونسية، 3 أجزاء، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، بيروت.

السعداوي أحمد، 2011، تونس في القرن السابع عشر وثائق الأوقاف في عهد الدايات والبايات المراديين، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة وحدة البحث « المدن التاريخية التونسية والمتوسطيّة » ، تونس.

السعداوي أحمد، 2015، تونس زمن حسين بن عليّ وعليّ باشا 1705 – 1756 وثائق أوقاف من العهد الحسيني، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، مخبر الآثار والعمارة المغاربية، تونس.

خوجة حسين،1975 ، ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان، تحقيق الطاهر المعموري، تونس.

التميمي عبد الجليل، 2006، « عثمنة إيالات الجزائر وتونس وطرابلس على ضوء المهمة دفتري (1559-1595) »، في المجلة التاريخية العربية للدراسات العثمانية، عدد 34، ص 19-185.

هنيّة عبد الحميد، 2012، تونس العثمانية بناء الدولة والمجال، منشورات تبر الزمان، تونس.

CHERIF M.H., 1981, « La déturquisation du pouvoir en Tunisie : classes dirigeantes et société tunisienne de la fin du XVIe siècle à 1881 », Cahiers de Tunisie , n°117-118, p. 118-191.

BOSTAN I., 2010, Osmanlılar ve Deniz, deniz politikaları teşkilat gemiler, İstanbul.

GALLAND A., 1810, Relation de l’esclavage d’un marchand de la ville de Cassis à Tunis, Paris, Ferra.

Güler I., 1990, “Sinop’da Tunus Dayısı Vakfına dair 1744 – 1746 Tarihli bir Dava Dosyası”, Ondokuz Mayıs Üniversitesi, Eğitim Fakültesi Dergesi, sayı 5.

Ilter S. A., 1937, Şimali Afrika’da Türkler, Istanbul.

Inalcık H., 2016, Devlet-i ‘Aliyye, Tagayyür ve fesâd bozuluş ve kargaşa dönemi (1603 – 1656), Istanbul.

KARA Çelebi- Zâde A., 2003, Ravzatü’l-ebrâr Zeyli, (yay. N. Kaya), Ankara.

MANTRAN R., 1959, “L’évolution des relations entre la Tunisie et l’Empire ottoman du XVIe au XIXe siècle”, Les Cahiers de Tunisie, Revue de Sciences Humaines, Tome VII., année 1959, Institut des Hautes Etudes de Tunis.

RAYMOND A., 2006, Tunis sous les Mouradites la ville et ses habitants au XVIIe siècle, Cérès, Editions, Tunis.

SAADAOUI A., 2011, Tunis : architecture et art funeraires sépultures des deys et des beys de Tunis de la période ottomane, C.P.U, Tunis.

TEMIMI BLILI Leila, 2012, Sous le toit de l’Empire, la Régence de Tunis 1535-1666. Genèse d’une province ottomane au Maghreb, Script édition, tome 1, Tunis.

الكاتب

مؤيّد المناري

أستاذ عرضي بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالقيروان، قسم علم الآثار.

Retour en haut