Al Sabîl

Index

Information

A propos Al-Sabil

Numéros en texte
intégral

Numéro 08

2019 | 08

مدرسة عثمان باشا الساقزلي وتربته: المعمار والنقائش

إسم الكاتب

الفهرس

الملخّص

تزخر مدينة طرابلس الغرب بعديد المعالم الإسلامية. ويعود قسم كبير منها إلى الفترة العثمانية (1551-1911)، حيث شهدت المدينة في تلك الفترة ازدهارا حضريا كبيرا. وبالعودة إلى العهد العثماني الأولى (1551-1711) نلاحظ أن عثمان باشا الساقزلي (1649-1672) قد ساهم كثيرا في تشييد عديد المعالم الاقتصادية والعسكرية والدينية. من ضمن تلك المعالم نخص بالذكر مدرسته التي تقع بالقرب من الميناء وجامع درغوث باشا. وقد الحق بهذا المعلم تربة خاصة مثلث إحدى المعالم الجنائزية الهامة بالمدينة. وسرعان ما تكونت نواة جنائزية ثانية ألحقت أيضا بالمدرسة. احتوى المعلم ككل على العديد من العناصر المعمارية والفنية الهامة، كما لا يخلو من النقائش التخليدية والجنائزية ذات الأهمية البالغة.

ورغم اهتمام بعض الباحثين بالمدرسة، فان الأضرحة لم تنل حظها من الدراسات الأثرية والتاريخية سوى بعض الإشارات المحتشمة. سوف نسعى في هذه الورقة إلى دراسة المعلم ككل مع تسليط الضوء على جل الشواهد القبرية.

الكلمات المفاتيح

مدرسة عثمان باشا، طرابلس الغرب، ترب، شواهد قبور، الفترة العثمانية.

Résumé

Dans la ville de Tripoli d’occident, plusieurs monuments islamiques datent de la période ottomane (1551-1911). Dès l’arrivée des Ottomans, la ville a connu un essor urbain exceptionnel. En s’intéressant à la première période ottomane (1551(1711), on observe que Othman pacha al-Sagazzli (1649-1672) a fondé plusieurs monuments d’aspect économique, militaire et religieux. Parmi ces monuments sa madrasa jouxtant le port de la ville et la mosquée de Dargouth pacha à laquelle est annexée une salle funéraire. Celle-ci est devenue l’un des plus importants monuments funéraires de la ville. Par la suite, une turba à ciel ouvert y fut également annexée. Le monument contient de nombreux éléments architecturaux importants, ainsi que des inscriptions monumentales et funéraires.

En dépit de l’intérêt de certains chercheurs pour la madrasa, les monuments funéraires n’ont pas bénéficié d’études archéologiques et historiques sauf quelques indications modestes. Dans ce travail, nous chercherons à étudier le monument dans son ensemble ainsi que les stèles funéraires.

Mots clés

Madrasa of Othman Pasha, Western Tripoli, funeral inscriptions, Ottoman period (1551-1911).

Abstract

The Western side of Tripoli, which has witnessed a great urban prosperity, is abount with many Islamic monuments dating back to the Ottoman period (1551-1911). Considering the earliest Ottoman period (1551-1711), it can be noted that Othman Pasha al-Sagazzli (1649-1672) contributed largely to establishing several economic, military and religious buildings. Among these attractions, both his madrasa located near the port and the Dargouth Pasha mosque, are of special relevance. A special type of soil has been added to the latter monument regarded as one of the renowned funeral monuments in the city. Soon after, a second funeral nucleus was formed, which was also added to the madrasa. The monument as a whole contains many important architectural and artistic elements, as well as the existence of the memorial and funeral inscriptions of high significance.


Despite the interest of some researchers in the madrasa, the funerary monuments were not extensively covered by the historical and archaeological studies except for some modest mentions. Hence, this paper will seek to shed light on the monument as a whole with special focus on the majority of the graves.

Keywords

Madrasa of Othman Pasha, Western Tripoli, funeral inscriptions, Ottoman period (1551-1911).

المرجع لذكر المقال

علي الشايب بن ساسي، « مدرسة عثمان باشا الساقزلي وتربته: المعمار والنقائش»، السبيل : مجلة التّاريخ والآثار والعمارة المغاربية [نسخة الكترونية]، عدد 08، سنة 2019.

URL : https://al-sabil.tn/?p=12046

نص المقال

المقدمة

انتشرت المدارس الإسلامية، منذ الفترة الوسيطة، في أنحاء العالم الإسلامي. وتواصلت هذه الظاهرة في الفترة العثمانية، حيث عمد العديد من البايات إلى إنشاء العديد منها في أنحاء العالم الإسلامي. لم تكن إيالة طرابلس الغرب استثناء، خاصة إذا علمنا أنها ضمت عددا لا بأس به من المدارس تم إنشاءها منذ العهد العثماني الأول (1551-1711) وليتواصل ذلك أثناء فترة حكم القرمانليين (1711-1835)1. من ضمن العمائر الإسلامية الهامة في مدينة طرابلس، نذكر مدرسة عثمان باشا الساقزلي (1649-1672) والتي سندرسها ونقدم أهم النقائش التي تمكنا من جمعها أثناء عمل ميداني قمنا به سني 2007 و2009. سنسعى من خلال هذا العمل إلى دراسة هذا المعلم بكامل مكوناته المعمارية والجنائزية مع التركيز على المحصلة النقائشية للمبنى ككل.

1. أهم المعالم التي أنشأها عثمان باشا

سميت المدرسة نسبة إلى مؤسسها عثمان باشا الساقزلي (1649-1672) أصيل جزيرة ساقز. حكم عثمان باشا إيالة طرابلس الغرب خلفا لسلفه محمد باشا الساقزلي (1632-1649)2. وقد كان هذا الوالي أحد أبرز القادة الإنكشاريين للوالي سالف الذكر3. ويبدوا أن المؤسس كان عبدا أعتقه شريف داي (1614-1630) وتسلم قيادة الجند منذ بداية حكم سلفه محمد باشا الساقزلي.

عرف هذا الوالي بطبعه العنيف، إذ أرسى حكما بالقوة لكنه كان عرضة لكثير من الانتفاضات مثل انتفاضات قبائل المحاميد وغيرها من القبائل المتمردة الأخرى. ومنذ اعتلاءه الحكم تحصل مباشرة على اعتراف الباب العالي من طرف السلطان العثماني محمد الرابع.

حسب العياشي، الذي مر بالمدينة في إطار رحلته لأداء فريضة الحج (1059-1072هـ/ 1658-1661م)4 والجراح الفرنسي جيرارد5 (في 1072هـ / 1661م) استطعنا رصد بعض الملامح العامة لأوضاع الإيالة والمدينة على وجه الخصوص. فكثيرا ما عمت الفوضى مع تواتر حركة العصيان والخروج عن طاعة السلطة المركزية بالإيالة وهو ما شهدته أغلب الأقاليم والمحلات خاصة أوجلة وفزان..6.

في فترة هذا الوالي، أسر ما لا يقل عن ستة ألاف مسيحي في « حمامات » طرابلس وفيما بين 1668-1678، تم إطلاق سراحهم ونقلهم على متن 104 سفينة مسيحية وهو ما من شأنه أن يدر أرباحا طائلة من خلال الفدية7. لكن رغم التوتر الذي كان يسود المتوسط فإن ذلك لم يمنع من بروز العلاقات السلمية من خلال إبرام المعاهدات مع الدول الأوروبية مثل فرنسا وأنقلترا… رغم أن العياشي تغافل عن ذكر ذلك واقتصر اهتمامه على النشاط القرصني8 الذي كان مهيمنا عن الأوضاع العامة والممول الاقتصادي والرئيسي لمنشات هذا الوالي9، إلى جانب الضرائب التي كان يستصدرها دوما.

قام عثمان باشا (1649-1672) بإنشاء العديد من المعالم، البعض منها لازال قائما إلى اليوم وهي ذات صبغة اقتصادية، عسكرية ومدنية…. بالنسبة للجانب الاقتصادي، يعود له الفضل في إنشاء أول سوق مغطاة (مغطى بأقبية) الذي اشتهر باسم سوق « الربع القديم » أو « الريح » كما تصفه بعض المراجع10 ولم تضف له صفة القديم إلا بعد إنشاء سوق « الرباع الجديد » المعروف بسوق « اللفة » من طرف أحمد باشا القرمانلي (1710-1735). ويقع هذا السوق قرب القلعة بجانب جامع أحمد باشا ويعرف في ذلك الوقت أيضا بسوق العرب قبالة سوق الترك الذي أنشأه محمد باشا شايب العين (1687-1701). ويعتبر سوق « الربع » من ضمن أوقاف مدرسة وتربة عثمان باشا إلى جانب الفندق الكبير الذي قام بإنشائه الوالي المذكور سنة 1654 والواقع أقصى سوق الترك المشار له سلفا11 وكذلك الفندق الجديد 12 كما توجه اهتمامه، مثلما أشار أحمد بك النائب الأنصاري13 لتجديد القلاع وعمل الأساطيل. قام عثمان باشا الساقزلي أيضا بتشييد الحمام الكبير14 ويعرف بهذا الاسم لكونه جاء مقابلا للحمام الملحق بجامع درغوث باشا والمعروف بالحمام الصغير. بالنسبة لحمام عثمان باشا هو أيضا من ضمن أوقاف المدرسة والتربة15.

2. الخاصيات المعمارية لمدرسة عثمان باشا

سنقوم في هذه المرحلة من مبحثنا بالتعريف بالخاصيات المعمارية للمدرسة وملحقاتها ساعين إلى إبراز المخزون الحضري والفني لجل مكونات المعلم مع الاهتمام بالنقائش المعمارية والجنائزية الموجودة، ناهيك وأن جل الدراسات التاريخية والأثرية للمدينة لم تسلط الضوء على التربة ومكوناتها باستثناء بعض الإشارات لمجموعة من الدراسات الأثرية المهتمة بمعالم المدينة. تلك الإشارات تقتصر على ذكر المدرسة دون سواها.

تبرز أهمية المدرسة ومكانتها ضمن النسيج الحضري من خلال موقعها الاستراتيجي الذي يمثل نقطة هامة في إطار المكونات العمرانية للمدينة ككل ولمنطقة باب البحر خصوصا. تقع هذه المدرسة في إحدى المحاور الرئيسية للمدينة بالقرب من أحد المداخل الهامة للمدينة العتيقة من الجهة البحرية، باب درغوث باشا. ويقع هذا المبنى تحديدا بجوار ساحة كنيسة السيدة مريم بمرافقها الدينية والتجارية وتشترك مع جامع درغوث باشا في المحور الرئيسي المؤدي لداخل المدنية وبذلك تكون المدرسة والجامع نواة ومكونا أساسيا للمحور المذكور وللمدينة عموما. يشير التيجاني في « الرحلة » إلى أن هذا القسم من المدينة يضم عديد المنشآت الهامة منذ الفترة الإسلامية الوسيطة، فنجد الجامع الأعظم والمدرسة المستنصرية اللذين لم يعد لهما أثر الآن.شيدت المدرسة الشرقية المفتح على أساس فكرة الفناء الداخلي المحاط بالأروقة الصغيرة والخلوات والمسجد الموجود بالجهة الجنوبية الشرقية للمبنى. وتفتح المدرسة مباشرة على شارع درغوث باشا الذي يحدها من الجنوب الشرقي ويحدها من الجنوب ساحة السيدة مريم ومن الشمال زنقة الخميري في حين يحدها من الشمال بعض المباني السكنية الخاصة (المخطط عدد1). يبلغ طول الواجهة الأساسية 48.5 م (21.5 م للمدرسة والبقية للتربتين). في ما يخص واجهة المعلم فإنها بسيطة خالية من ضروب الزخرفة الجالبة للانتباه، باستثناء ما احتواه المدخل الذي جاء محاطا بإطار نحت من الحجر الجيري الأصفر (2.63 / 1.42 م) متوج بعقد نصف دائري متجاوز (الصورة 1) تعلوه لوحة رخامية بيضاء اللون (107/68 صم) تحمل نصا تخليديا (82/48 صم) كتبت بخط النسخ يمدنا بتاريخ تأسيس المدرسة والنواة ككل (انظر نص النقيشة والصورتين 2 و3)16.

من ناحية شكل النص، فان مدونه اشتغل على مستويين من الكتابة: في المرة الأولى، وتحديدا في السطرين الأول والأخير، تراوحت كتابته على مستويين وحتى ثلاث. أما في بقية النص فانه بناءه اقتصر على مستوين فقط. من ناحية التوزيع، لم يحسن صاحب النص توزيعه بشكل متكافئ ضمن المساحة المخصصة، ناهيك وانه لم يترك مجالا كافيا للسطر الخامس والأخير مقارنة ببقية الأسطر وهو شيء ينم، حسب اعتقادنا، عن عدم تخطيط وتوزيع مسبق قبل الشروع في الحفر والنقر على الرخام17 .

مخطط .1. مثال أرضي للبئر ذو السواري بسانية القصر شيبوب
(رسم من إنجاز وجيدة الصكوحي)
صورة 1. واجهة مدرسة عثمان باشا

نص النقيشة

        1- حضرت (هكذا) عثمان باشا يسر الله له من الخيرات ما يشا.

        2- أسس بنيان هذه المدرسة وجعلها.

        3- لطلب العلم وتلاوة القران الهي تجاوز.

        4- عن سياته يا رحمان تحريرا في ذي القعدة.

        5- في سنة أربع وستين وألف.

صورة 2. نقيشة مدرسة عثمان باشا
صورة 3. تفريغ الكتابة

احتوت الواجهة أيضا على خمس نوافذ صغيرة متفاوتة الأبعاد لا تتجاوز1.25 م طول و0.75 م عرض وهي إجمالا مطرزة بمشبكات حديدية (مخطط عدد1). لكن رغم البساطة التي اتسم بها حائط الواجهة الأساسية، فإن المنظر الخارجي للمدرسة والتربتين توج بثلاث قباب تجاوزت البساطة بحضور اللمسة المعمارية والفنية الفريدة بالمدينة ككل وقد تفاوتت هذه القباب الثلاث في الحجم تماشيا مع مساحة النواة التي ضمتها، فقد جاءت قبة التربة أكبر نسبيا من قبة المسجد التي تحاذيها قبة السقيفة والتي تربط بدورها بين المدخل الرئيسي والصحن مباشرة. وهذه الأخيرة صغيرة الحجم مقارنة بنظيراتها السالفات الذكر.

جل هذه القباب تشترك في كونها قباب نصف دائرية مبرجة من الأعلى على شاكلة قبتا بيت الصلاة وبهو جامع الزيتون. ترتكز قبتا التربة المغطاة والمسجد مباشرة على رقبتين مثمنتين تحفها أعمدة صغيرة وعقود نصف دائرية صغيرة متجاوزة موزعة على كامل محيط الرقبتين. في حين تستند قبة السقيفة النصف دائرية على رقبة رباعية الأضلاع.

صورة 4. قباب مدرسة وتربة عثمان باشا
(صورة أرشيفية - مصلحة الآثار- طرابلس)

إجمالا، يتكون المبنى من مدرسة، وهي بمثابة النواة الرئيسية، بها مجموعة من العناصر الإنشائية ألحقتا بها تربتين صغيرتين (مخطط عدد 2). وقد جاءت المدرسة مستطيلة الشكل (21.39 / 26.10 م) متكونة من سقيفة وصحن محاطين بأروقة تفتح بدورها مباشرة على مجموعة من الخلوات ومسجد وميضاة، في حين ألحقتا التربتين بالركن الشرقي للمبنى واحدة مسقفة والثانية، وهي أكبر نسبيا، بمثابة فضاء مكشوف أدمجت في فترة متأخرة مقارنة بالتربة الأولى التي رافقت المدرسة منذ البداية وهو ما نستشفه أولا، من الطابع المعماري، خاصة في تقنية التسقيف وتاريخ وتقنية نقائش القبور ثانيا.

بالعودة إلى المدرسة فإنها تفتح مباشرة على سقيفة أو ردهة، وهي عبارة عن فراغ مربع الشكل تقريبا (3.30 /3.11 م) مسقوف بقبة نصف كروية (قطرها 2.45 م) ترتفع عن السطح 6.5 م لترتكز مباشرة على رقبة مربعة مدعمة بأربعة أعمدة ركنية. تحتوي هذه السقيفة بجانبيها الأيمن والأيسر على مسطبتين ذات تجويفات (طاقات) سفلية بها فتحات على شكل عقود نصف دائرية متجاوزة. وتتصل السقيفة بالصحن بفتحة مستطيلة الشكل متوجة بعقد نصف دائري متجاوز.

يتوسط الصحن المبنى ككل في شكل ساحة مكشوفة (القسم عـ1ـدد من المخطط عدد2) محاطة بأربعة أروقة مسقفة (عرضها 2 م) وبقباب طولية وأربع قباب نصف كروية صغيرة بالأركان الأربعة للأروقة. وقد لاحت هذه الأروقة مدعمة بعقود نصف دائرية صغيرة ترتكز مباشرة على اثني عشر عمودا ذات تيجان حفصية (صور 4 و5) نحتت من الكذال، الرخام الأبيض والجرانيت. يتوسط الفناء حوض حجري مسيج بألواح خشبية (3.40/3.10م) وقد أورد غاسبري ميسانا أن مدرسة عثمان باشا هي الوحيدة بمدينة طرابلس التي يتوسط صحنها حوض صنع من المرمر الرفيع ويعد اليوم مجرد حوض مصنوع من الاسمنت والحجارة البسيطة مكسو بالرخام الأبيض. في حين نقل الحوض الأصلي إلى الميضاة.

صورة 5. صحن مدرسة عثمان باشا
صورة 6. الحوض القديم للمدرسة
صورة 7. تاج حفصي (صحن المدرسة)

يحتوي المبنى على مسجد صغير بالركن الأيمن من الصحن (انظر القسم عدد 4 من المخطط 2)، تتقدمه ردهة صغيرة في الركن الشرقي للأروقة تعلوها قبة نصف كروية ترتكز على حنايا ركنية. وهذا المسجد هو عبارة عن قاعة مربعة الشكل تقريبا (5.22 / 5.10 م) ذات قبة مركزية نصف كروية قطرها 4.37 م ترتفع عن الأرض 8 م ترتكز مباشرة على رقبة مثمنة. ويتوسط جدار القبة محراب على محور واحد مع مدخل القاعة وهو عبارة عن طاقة ذات تجويف نصف دائري (شعاعه 0.33م) وقد كسيت أرضية القاعة بلوحات خشبية حديثة العهد أما في الماضي فقد كانت مبلطة بقطع حجرية منتظمة الشكل18.

يتضمن المبنى أيضا كتابا والذي يقع بالركن الأيسر من الصحن بالجنوب الغربي للمبنى ككل وهو عبارة عن قاعة مستطيلة الشكل (6.60/3.30م) بها نافذتان أحدهما تطل على ساحة السيدة مريم والثانية تطل على الممر المؤدي للكتاب. و تحتوي المدرسة أيضا على خمس عشر خلوة تفتح مباشرة على الأروقة. وجميع هذه الخلوات ذات شكل موحد، لها أبواب صغيرة ذات عقود نصف دائرية صنعت من مزيج بين الحجارة الجيرية وحجارة الكذال. يبلغ معدل مساحة هذه الخلوات 9 متر مربع تقريبا مسقفة بقباب طولية. إلى جانب هذه الأقسام، تحتوي المدرسة على مرافق خدمية وصحية مثل الميضاة ودورات المياه تقع على يسار المدخل الرئيسي والسقيفة (انظر القسم عدد 6 من المخطط عدد 2).

مخطط .2. مدرسة وتربتا عثمان باشا الساقزلي
(عمل الباحث بالتعاون مع جهاز إدارة المدن التاريخية – طرابلس)
الأقسام: 1. صحن المدرسة / 2. القاعة الجنائزية لعثمان باشا / 3. التربة المفتوحة / 4. مسجد المدرسة / 5. السقيفة / 6. الميضاة

تضاف إلى المرافق السالفة الذكر تربتان : تربة مغطاة في شكل قاعة جنائزية صغيرة وتربة ثانية مكشوفة أظن أنها أضيفت في فترة لاحقة.

3. تربة عثمان باشا ارتباط وثيق بالموروث العثماني الصرف

هذه النواة هي عبارة عن قاعة جنائزية لعائلة عثمان باشا الساقزلي (قسم 2 مخطط 2). مثل هذه المعالم دأب على إنشائها العثمانيون أثناء فترة حكمهم بجل الولايات تقريبا. على سبيل الذكر لا الحصر تربة يوسف داي (1049-1639) الملحقة بجامعه بمدينة تونس وتربة حمودة باشا المرادي (1097-1685)19. تتصل تربة عثمان باشا مباشرة بالصحن عبر ممر صغير على هيأة سقيفة مغطاة بقبو طولي (7.50م/1.50 م) تربط بدورها الصحن بالتربة الثانية الملحقة بالمعلم. وقد جاءت النواة الجنائزية الأولى في شكل قاعة مربعة الشكل تقريبا (5.27/5.15 م) تفتح على السقيفة السالفة الذكر بباب صغير نسبيا (1.80/0.93 م) متوج بعقد نصف دائري. سقفت هذه القاعة بقبة نصف كروية (قطرها 5.30 م) ترتكز على رقبة مثمنة الأضلاع على شاكلة قبة المسجد (الصورة 4، المخطط 1) مدعمة في أركانها الأربعة بمثلثات كروية مقلوبة. ويوجد بالجدران الأربعة ثماني نوافذ بمشبكات حديدية متساوية الأبعاد نسبيا (1.35 م / 0.85 م) تساهم في تهوية وإضاءة القاعة.

صورة 8. أضرحة تربة عثمان باشا

ومن الناحية الزخرفية، نلاحظ أن جدران ومساحة القبة الداخلي لهذه التربة جاءا خاليين من ضروب الزخرفة والتنميق على عكس الأضرحة التي كسيت برخام تعددت زخارفه. كسيت الجدران والقبة بالاسمنت وطليت جميعها مباشرة بالجير الأبيض مثلهما مثل القاعة الجنائزية لدرغوث باشا ومحمد باشا الساقزلي وترب العهد العثماني الأول ككل (1551-1711). هذا النمط لم تعهده ترب الفترة القرمانلية (1711-1835 : تربة أحمد باشا القرمانلي وتربة قورجي20) التي تماهت وترب مدينة تونس بزخرفتها الجصية المتعددة الألوان. أظن هنا أن مصمم تربة عثمان باشا الساقزلي قد حاول محاكاة تربتا درغوث باشا ومحمد باشا الساقزلي اللذين لا يبعدان عن هذه النواة سوى بعض الأمتار.

4. أضرحة تربة عثمان باشا الساقزلي (النواة الرئيسية)

من الناحية التاريخية فإن هذه النواة تأسست في نفس الفترة مع المدرسة أي سنة 1064هـ/1654م، وهو ما نستشفه من تقنية التسقيف ناهيك وأن قباب المسجد والسقيفة والتربة جاءوا على نفس المنوال، كما أن تواريخ أول الأضرحة تقرب كثيرا من تاريخ النقيشة التخليدية للمدرسة (نص النقيشة المصاحبة للجزء الأول من التحليل في هذا المعلم). وتضم هذه التربة اثني عشر قبرا على نفس الشاكلة تقريبا محاكاتا لضريح آمنة ابنة عثمان باشا الساقزلي التي تمثل أول رفات بهذه التربة (شعبان 1068هـ/1657م). وانطلاقا من الجرد الميداني، يلاحظ أن هذه القاعة واصلت استقطاب أفراد عائلة المؤسس إلى حدود شعبان 1087 هـ/ نوفمبر1675 م (انظر الجدول عدد 1). بالنسبة للأضرحة الإثني عشر الموجودة بالقاعة لازال عشر منهم يحتفظون بشواهد قبرية، جاءوا جلهم تقريبا في حالة جيدة باستثناء شاهد واحد مكسور وموزع على قطعتين (مخطط 3 والجدولان عدد 1 و4).

أما القبران اللذان يفتقدان للوحتهما الجنائزية، فعلى الأرجح أنهما يعودان لأبناء عثمان باشا بحكم أن قاعدة الشاهد التي لازالت موجودة مربعة الشكل على هيأة شواهد قبور عثمان باشا وأولاده الآخرين. ومن الأرجح أن إحدى شواهد القبران كسرا وجمعا في احد أركان التربة الملحقة. فقد عثرنا على خمس شواهد معزولة ومسنودة إلى الجدار الشرقي للتربة الرئيسية. هذه الشواهد في حالة سيئة، تحمل إحداها كلمات » بن عثمان باشا ». نرجح أن هذا الشاهد كسر و تم وضعه خارج القاعة أثناء أعمال الترميم.

مخطط 3. توزع الأضرحة بتربة عثمان باشا الساقزلي
(عمل الباحث بالتعاون مع قسم الهندسة بمشروع إدارة المدن التاريخية – طرابلس)
جدول 1. أضرحة القاعة الجنائزية

تضم هذه التربة كما أشرنا سلفا ضريح مؤسسها عثمان باشا (ضريح 11 بالجدول عدد 1). يشير نص النقيشة الجنائزية أن الوالي توفي في 7 شعبان 1083 / 28 نوفمبر 1672 (ضريح 11 بالجدول عدد 1 و شاهد 11 بالجدول عدد 4). تتفق النقيشة مع ما أورده المؤرخ ابن غلبون21 على نفس التاريخ بدقة. في حين، ورغم الاتفاق مع المؤرخين النائب وحسن الفقيه حسن في سنة الوفاة، فان هذين الأخيرين يذكران أن الوالي توفي يوم 6 من ذي القعدة22. لكن مصادرنا الأدبية تبين سبب وفاة عثمان باشا، فتورد أن الوالي انتحر بشرب السم في 1083 بعد حصاره من طرف الجند وذلك بعد نشوب خلاف بينهم وبينه حول اقتسام غنائم أحد الغزوات البحرية في سنة 1083 / 23 1672.

جاء ضريح عثمان باشا في شكل صندوق مستطيل الشكل (2.18 م / 0.73 م) بارتفاعه وصل إلى 0.76 م. وتوج القبر بلوحتين جنائزيتين (صورة 9) إحداهما على شاكلة عمود مربع (1.39م/0.15 م) متوج بعمامة كروية الشكل مبرجة من الخلف على شاكلة عمامة البايات والدايات الأتراك24. ويحمل هذا العمود الرخامي نصا جنائزية في عشر أسطر كتبت بخط نسخي بارز وبلغة عربية. في حين جاءت اللوحة الثانية في أسفل القبر مستطيلة الشكل مقوسة في الأعلى خالية من أية زخارف أو كتابات. وهذه الصيغة تقريبا اعتاد عليها العثمانيون في الترب بمدينة طرابلس ومدينة تونس أيضا، وذلك بتدعيم أضرحتهم ببعض اللوحات في أقصى الجزء السفلي للقبر، نادرا ما تحمل كتابات باستثناء بعض الحالات التي نجد لها صدا بتربة درغوث باشا (حالتين أو ثلاث25).

إجمالا، جاءت أضرحة تربة عثمان باشا الساقزلي غنية باللوحات الزخرفية الهندسية وخاصة النباتية التي أفرزت الارتباط العميق بالتأثيرات المشرقية الأناضولية بالاعتماد خاصة على زهرة اللوتس كعنصر رئيسي في الزخرفة الجنائزية ليس هنا فقط بل في أغلب الترب التركية بتركيا وببعض الولايات العثمانية كترب مدينة تونس (أمثال تربتي يوسف داي وحمودة باشا المرادي)26 كذلك ترجمت التربة الإهتمام الكبير من طرف الحكام الأتراك بالعمائر الجنائزية انطلاقا من الاستعمال المكثف للرخام الأبيض الرفيع.

كسي ضريح عثمان باشا بصفائح من الرخام الأبيض الصقلي، محلاة بزخارف نباتية وهندسية دقيقة جدا تترجم توزيعا محكما على كامل الضريح. وتتكون اللوحات الزخرفية من أعمدة، ذات تيجان بسيطة ترتكز عليها مباشرة عقود ثلاثية الفصوص على شكل معقف، وزخارف نباتية بارزة جسدتها زهرة اللوتس، المعهودة بأغلب العمائر العثمانية، وأوراق وبتلات متداخلة ومتشابكة ومتناثرة. ويحيط بهذا المشهد الزخرفي شريط في هيأة إطار بارز وسميك (0,7 م). ومن حسن الحظ أن هذا الضريح لازال يحتفظ بالزخارف في حالة جيدة تمدنا بفكرة عن نوعية الزخرفة بالأضرحة ناهيك وأن بقية أضرحة التربة لم تعد تحمل سوى بعض القطع الرخامية ذات الزخارف التي تتماشى ونفس الطراز الزخرفي الذي يحمله قبر عثمان باشا وميضاة المدرسة والتي تعود بدورها إلى نفس الفترة التاريخية : القرن السابع عشر (الصور 6 و9).

صورة 9. زخارف ضريح عثمان باشا

انطلاقا من النقائش الجنائزية للأضرحة الموجودة بالقاعة، نلاحظ أن صاحب التربة لم يكن أول من دفن بهذه النواة، بل إن القاعة ضمت من قبل مجموعة من أفراد أسرته (جدول 1) دون دفن أي شخص لا ينتمي لعائلته كبعض الأعيان أو قادة الجند أو الدايات أو المقربين إليه كما هو موجود بتربة درغوث باشا وبقية الترب العثمانية بمدينة طرابلس الغرب. هذا الإجراء تواصل تقريبا بعد وفاته إذ ألحق بالتربة فيما بعد ثلاثة أشخاص بعد سنة 1083 هـ/ 1672 م اثنان منهم نعلم أصحابهما وهما من أبناء عثمان باشا، في حين يبقى الآخر غير معروف بدقة ومصدر جدل متواصل خاصة وأننا عثرنا على خمسة شواهد قبرية مفصولة وموضوعة بأحد أركان المقبرة الثانية المفتوحة، تعود إلى العهد العثماني الأول اثنتان منهم لابني عثمان باشا، لا نعلم بدقة المكان الأصلي لكل شاهد. لكن الملاحظة الجدية التي نستشفها من خلال جردنا للنقائش الجنائزية أن هناك سنة سوداء للعائلة الحاكمة، ناهيك وان الباشا فقد فيها أربعة من أبناءه (1068/1657-1658): مصطفى، خديجة، أمنة وسليمان.

5. أضرحة النواة الجنائزية الثانية

إلى جانب القاعة الجنائزية، هناك مجموعة من القبور والشواهد متواجدة شرقي المدرسة. وهذه القبور وضعت في مقبرة مفتوحة مستطيلة الشكل (15.94 م/8.92 م). وتضم المقبرة مجموعة من القبور متفاوتة الأبعاد وعشر شواهد، البعض منها مفصول عن أضرحتها الأصلية: تضم هذه المقبرة في ركنها الجنوبي الغربي خمسة شواهد جنائزية رخامية صغيرة في هيأة أعمدة ولوحات، مستطيلة مدببة في الأعلى، تحمل تواريخ تعود جلها إلى العهد العثماني الأول (شواهد 1، 2، 3، 4 و 5 جدول 2)، أما بقية الشواهد فهي تضم اثنان منهم يعودان أيضا إلى العهد العثماني الأول (قبر 12 و 16 جدول 2) ثلاثة يعودوا إلى العهد العثماني الثاني (1835- 1911). إجمالا تعود الشواهد التي جمعناها إلى الفترة الممتدة مابين رمضان 1073 / أفريل-ماي 1663 و1272هـ / 1855-1856م.

جدول 2. الأضرحة الموجودة بالتربة المفتوحة لعثمان باشا
(عمل بالتوازي مع المسقط عدد 3 والجدول عدد 4)

تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه التربة تضم على الأرجح ضريحا لأحد الأولياء الصالحين لا نعلم اسمه بدقة، وقد جاء في شكل مبنى صغير مقبى لا يتجاوز ارتفاعه المتر والنصف، به جرة صغيرة وبقايا لشمع محترق وهو ما أشار إليه أيضا الباحث غاسبري ميسانا في التخطيط الذي وضعه منذ بداية القرن العشرين وهو بالركن الجنوبي الشرقي. وتشير المهندسة مفيدة جبران أن هذه التربة يحتمل أن تكون أنشأت قبل المدرسة27 ومن الواضح أنها لم تتطلع على محتوى الشواهد القبرية التي لازالت موجودة إلى يومنا هذا، ومن حسن حظنا أن حافظت مثل هذه المنشآت على شواهد أثرية تاريخية مكتوبة هي ترجمان للفترة التاريخية التي جاءت بها.

أما بالنسبة للأضرحة، فإننا نلاحظ أن جلها جاء في حالة سيئة للغاية في شكل قبور إسمنتية ترتفع قليلا عن الأرض ولا تتجاوز في معدلها الثلاثين أو الأربعين صم. وباستثناء بعض الشواهد التي ذكرناها سلفا فإن بقية الأضرحة باتت تفتقد لأية أدلة تاريخية من شأنها أن تساعدنا على استقراء الفترات التاريخية وأصحاب تلك القبور المبعثرة هنا وهناك لتجعل من المكان خال من أية أهمية تاريخية ومعمارية-فنية تذكر. لكن المهم هنا وفي إطار الدراسة المعمارية لهذا القسم فإن هذه التربة تحمل أربع شواهد قبور فريدة من نوعها ساعدتنا بدورها على استقراء الطراز الأناضولي. وهذه الشواهد جاءت معبرة عن النموذج العثماني المتأخر وهو ما من شأنه أن يساعدنا على مزيد استقراء بقية المحامل الموجودة ببقية الترب العثمانية بالمدينة. وغالب هذه الشواهد تعدل عن بقية شواهد العصر العثماني الأول (1551-1711) الرخامية الأعمدة والمربعة الشكل والمتوجة بعمامات كروية، أو في شكل لوحات مستطيلة وذات نهاية مدببة على شكل نصف دائرة. وللإشارة فإننا خصصنا قسما مستقلا سنحاول إبراز الميزة المعمارية الجنائزية بجل الترب المعنية بالدرس متحرين ومدققين في أشكال المحامل التي لازالت موجودة.

إلى جانب هذه الأسماء التي أمدتنا بها الشواهد القبرية بكلتا التربتين، استطعنا، من خلال جرد « اليوميات »، قسم الوفيات، للمؤرخ حسن الفقيه حسن، التعرف أيضا على عدد آخر من الوفيات التي من شأنها أن تكون خاصة ببقية القبور التي ظلت مجهولة. لكن إذا سلمنا بالعديد الكبير المذكور بالكتاب والذي نسخناه بالجدول المصاحب (جدول 3)، فان الأمر يستدعي إلى الاستغراب ناهيك وأننا لم نجد سوى سبعة قبور دون شواهد. وبهذا نرجح أن تكون بقية القبور قد طمست ملامحها. فالكاتب يمدنا بتفاصيل دقيقة تجاوزت موعد الوفاة لتشتمل، في بعض الأحيان، تاريخ الدفن بدقة (عند الظهر – عند صلاة الجمعة …) وهذا يدعم صدق روايته.

جدول 3. أسماء الوفيات بتربة عثمان باشا الواردة ذكرها في « اليوميات الليبية »

تعددت الشواهد وتنوعت مضامينها وأشكالها. فأضرحة الغرفة الجنائزية حوت مجموعة من الشواهد ذات الخاصيات الواحدة : بالنسبة لشواهد النساء، تميزت بكونها لوحات مستطيلة الشكل مقوسة في الأعلى (شاهد 3 و4 جدول 4). في حين جاءت شواهد أضرحة الرجال على شاكلة أعمدة مربعة الشكل تعلوها عمامات كروية (شاهد 2، 5، 6، 7، 8، 11، 12 جدول 4). لكن الملفت للانتباه أن النواة الجنائزية الثانية جمعت عديد الأنماط من الشواهد لتخلق تنوع كبير فأصبحنا نجد لوحات جنائزية تعلوها طربوش (شاهد 11 جدول 4) أو تاج (شاهد 15 جدول 4) أو أوراق وأزهار (شاهد 10 جدول 4). سوف نحاول تلخيص جميع الشواهد التي تمكنا من جردها وسنسعى إلى وصفها مدمجين مجموعة النصوص الجنائزية بالاعتماد على المخطط عدد 3 (جدول عدد 4).

جدول 4. محصلة الشواهد و النقائش الجنائزية بكلتا التربتين

الخاتمة

ارتأينا في هذا العمل أولا إلى تقديم مدرسة عثمان باشا ومؤسسها واهم الانجازات التي قام بها هذا الأخير في مدينة طرابلس الغرب، ثم تقديم ودراسة الملحقات الجنائزية، لنخصص في ما بعد قسما هاما لتعداد أهم الأضرحة ووصفها وصفا شاملا مع جرد أهم الأسماء التي احتوتها. وقد قمنا في القسم الأخير بوصف الشواهد القبرية وما احتوته من كتابات.

تمكنا من خلال هذا التمشي من الوقوف على جملة الاستنتاجات التي سنسوقها طباعا :

من الناحية التاريخية، جاءت المدرسة والنوتات الجنائزية ضمن سياق متصل بحركة تعميرية متواصلة و مزدهرة لم تعهد المدينة مثيلا لها منذ مجيء العثمانيين، حيث سعى الباي إلى إنشاء جملة من المعالم أهمها كانت هذه المدرسة التي ألحقت بها تربته الخاصة ليتم فيما بعد استغلال فضاء مفتوح لمواصلة الدفن طوال كامل الفترة العثمانية. فالمعلم ككل جاء كتلة متماهية مع النسيج الحضري.

من خلال دراسة هذه المدرسة، يمكن القول أنها لم تخرج عن الطابع المعماري المعهود في تلك الفترة، غير أنها تبقى من أهم بل وأحسن المدارس الطرابلسية ناهيك وأنها حافظت على أهم أقسامها. لكن الملفت للانتباه أنها الوحيدة التي جمعت بين أقساما تستقطب الأحياء (خلوات ومسجد) وأخرى تستقطب الأموات (ترب).

لدراسة الملحقات الجنائزية، تطلب منا الأمر جرد الوفيات وذلك بتتبع تواريخ الدفن انطلاقا من اللوحات الجنائزية واستعانة بصاحب « اليوميات الليبية » المؤرخ حسن الفقيه حسن. و قد ظهر جليا أن النواة الجنائزية الأولى قد كانت خاصة بمؤسس المدرسة وأفراد عائلته لتتنزل الوفيات فيها ضمن العهد العثماني الأول (1551-1711). أما الفضاء المفتوح فقد تواصل استقطابه للوفيات كامل الفترة العثمانية تقريبا (رمضان 1073 / أفريل-ماي 1663 و1272هـ / 1855-1856م). بالنسبة للقاعة الجنائزية فان طابعها المعماري اتسم بالبساطة حيث لا نكاد نجد اللمسة الزخرفية سوى على الرخام الأبيض الذي غطى كامل أجزاء الأضرحة. هذه الزخرفة ذات النمط الواحد تجرنا للقبول بفكرة وجود ورشة لصنع ونحت الأضرحة والشواهد ذات النمط الواحد. يمكن أن تكون هذه الورشة بطرابلس أو أن الوالي استنجد بأحد الورشات باسطنبول ناهيك وأننا عثرنا على بعض الشواهد النذرية، ذات نفس النمط وشاهد قبر عثمان باشا الساقزلي، بمقبرة السلطان أيوب باسطنبول. هذا الأمر ينسحب أيضا على شواهد قبور المقبرة المفتوحة الملحقة أيضا بالمدرسة. حيث جاءت محملة بالطابع العثماني « الاستانبولي » ناهيك وأنها صنعت على نفس نمط شواهد المقابر بعاصمة الخلافة العثمانية28 (stèles anthropomorphes).

عموما فان التربتان استقطبتا لوحات وشواهد قبرية تنبؤ باختلاف الفترات، فعلى قدر ما اتسمت به شواهد القاعة الرئيسية بالبساطة على قدر ما تميزت به شواهد التربة الثانية بالجمال والتعقيد والتأثير والاقتداء بالنموذج الأناضولي الصرف الذي عهدنا استعماله بترب عاصمة الإمبراطورية العثمانية. إذ تنوعت زخرفتها ونهاياتها فأضحى الحرفي أو النقاش يستعمل الشاشية الاستانبولي (fez : شاهد 11 جدول 4) عوض العمامة بل تبدوا الأوراق والأزهار (شاهد 10، جدول 4) بديلان في بعض الأحيان لكلتاهما.

إن المتأمل في الشواهد القبرية محل الدراسة، يلاحظ كونها صنعت من نوعين من الرخام : الرخام الأبيض الايطالي والرخام المائل إلى اللون البني والمستقطع من جزيرة مرمرا (ancienne Proconnèse). في الفترة العثمانية، عرفا هذين النوعان من الرخام استغلالا كبيرا خاصة في العمارة الجنائزية. أما النصوص التي احتوتها فهي غنية بالمعلومات والتواريخ والصيغ. فبخط النسخ والثلث توزعت النصوص تارة بنمط النثر (اغلب الشواهد) وتورا بنمط الشعر (شاهد 15 جدول 4).

الهوامش

1 يعتبر احمد باشا القرمانلي مؤسس حكم العائلة القرمنلية بطرابلس. وتنحدر هذه العائلية من مدينه قرمان التركية.
2 أسس هذا الوالي مجموعة من العمائر بمدينة طرابلس نذكر من أهمها تربته المحاذية لجامع درغوث باشا وتربته.
3 ناجي محمود و نوري محمد، 1984، ص171.
4 عبد الله بن محمد العياشي، 2006.
5 طبيب مسيحي وقع في الأسر وعاش في طرابلس بضع سنوات ثم أطلق سراحه من طرف الأدميرال الانكليزي ناربو سنة 1676.
6 روسي، ايتوري، 1969، ص241. لمزيد معرفة الاوضاع العامة للايالة ووضعية النشاط القرصني انظر Féraud, Charles, 1967, p. 181, 182.

7 Mantran, Robert, 1962, p. 262, 263.

8 « ولأمير هذه المدينة مراكب قل ما نظيرها معدة للجهاد في البحر، قلما تسافر وترجع بغير غنيمة قلما أسرت لهم سفينة إلا أن تكون من سفن التجارة لا من سفن الجهاد. » ويضيف « كان رحيلنا يوم السبت وصادف ذلك خروج سفن الأمير بقصد جهاد أعداء الدين وهي ست سفن فيها نحو ألفي مقاتل خرجت مجتمعة وذلك شأنهم إذا خرجوا للجهاد وإرهابا للعدو وكان يوم خروجها وخروج الحجاج يوما مشهودا وتفاءل الناس لذلك بحصول الغنيمة… . » رحلة العياشي، ج1، ص88.
9 لمزيد معرفة الوضع العام المسيطر بالمتوسط في القرن السابع عشر وفي فترة حكم هذا الوالي، أنظر، أنظر روسي، اتوري ، ص 236-237، 252.
10 روسي، اتوري، 1974، ص 241 .
11 تمكننا من معرفة صاحب الفندق من خلال نقيشة تخليدية في حالة سيئة. انظر أيضا روسي، اتوري، المرجع السابق، 1974، ص 241.
12 الفيتوري، فطيمة، محمد جبران، مفيدة، 1993، ص90.
13 الأنصاري أحمد النائب، 1961، ج 2، دون تاريخ.
14 روسي، اتوري، 1974، ص 238. أثناء جردنا للنقائش العثمانية، استطعنا معرفة نقيشة تؤرخ لبناء هذا الحمام. وقد كتبت بخط نسخي بارز وبلغة عثمانية. ويعود تاريخ التأسيس إلى سنة 1069 / 1658.
15 سالم شلابي سالم، 1994، ص126.
16 ارتأينا لوصف وتأريخ المدرسة لمعرفة الإطار التاريخي الذي جاءت فيه التربة نظرا لكون هذه الأخيرة شيدت في نفس الفترة مع المدرسة. فقد حملت التربة نفس الملامح المعمارية للمدرسة وخاصة المسجد الذي سقف بنفس النمط مع القاعة الجنائزية (الصورة 1- المخطط 1).

17 Ben Sassi, Ali Cheib, 2014, pp. 86-87.

18 الفيتوري، 1993، ص. 91.

19 Saadaoui, Ahmed, 2010, p. 51 et 91.

20 تأسست تربة احمد باشا سنة 1151/ 1738-39 وهي ملحقة بجامعه المعروف بمدينة طرابلس ، في حين تأسست تربة مصطفى قرجي صحبة جامعه الواقع بالمدينة المذكورة سنة 1244/ 1838-39.في هذا الصدد انظر

Ben Sassi, Ali Cheib, 2014, pp. 132 et 176.

21 « ولما ضاق بعثمان الحال راسلهم بطلب الأمان…. وأخرجوا محلة للقاء محلته فهزمتها محلة الجند. فلما عاين عثمان ذلك شرب سما فمات تاسع شعبان سنة 1083… »، ابن غليون، 2004، ص2005.
22 « توفي وسار إلى عفو ربه الراجي غفرانه يوم الوقوف بين يديه المرحوم برحمة الحي القيوم سيدي عثمان باشا ( في ستة من ذي القعدة الحرام) سنة ثلاثة وثمانون وألف 1083. » حسن الفقيه حسن، اليومية 10، ج1، ص 649
23 ابن غلبون، 2004، ص. 203.

24 Ben Sassi, Ali Cheib, 2014, p. 269
25 Ben Sassi, Ali Cheib, 2014, p. 227 et 234.

26 تربة يوسف (داي 1049هـ/1639م) وتربة حمودة باشا المرادي (1097هـ/1685م).
27 الفيتوري، 1993، ص93.
28 عديد من الشواهد العثمانية كانت محل جرد و دراسة من طرف مجموعة الباحثين. وقد عدنا إليها لمعرفة وجه الشبه بينها وبين نظيراتها بمدينة طرابلس، انظر :

César Mustapha, 1990, p. 29-102.
Garammont, J.-L. Baqué, H.-P. , Laqueur et Vatin, N., 1991, p. 7-27.
Garammont, J.-L. Baqué, Laqueur, H.-P. et Vatin, N., 1991, p. 29-134.
Vatin, Nicolas et Zarcone, Thierry, 1997, P. 79-109.

المصادر والمراجع

ابن غليون، بن خليل بن غلبون محمد، 2005، التذكار في من ملك طرابلس ومن كان بها من الأخبار، تحقيق أحمد الزاوي، ط. 2، طرابلس.

الأنصاري أحمد النائب، 1961، المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب، جزءان، مكتبة الفرجاني.

بن محمد العياشي، عبد الله، الرحلة العياشية، 2006،ج.1 و ج.2، تحقيق سعيد الفاضلي وسليمان القرشي، الإمارات العربية المتحدة.

حسن الفقيه حسن، 2001، اليوميات الليبية : الحرب الأهلية ونهاية العهد القرمانلي1248-1251 (1882-1835)، ج. 1 و 2، تحقيق عمار جحيدر، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس. روسي ايتوري، 1969، طرابلس تحت حكم الاسبان، ترجمة خليفة محمد التليسي.

سالم شلابي سالم، 1994، معالم المدينة البيضاء مدينة طرابلس القديمة، دار الفرجاني، طرابلس.

محمد جبران مفيدة، 1993 « مدرسة عثمان باشا »، مجلة آثار العرب، العدد السادس، ص89 – 94.

ناجي محمود ونوري محمد، 1984، طرابلس الغرب، ترجمة أكمل الدين محمد إحسان، دار مكتبة الفكر، طرابلس-ليبيا.

Ben Sassi Ali Cheib, 2014, Les inscriptions de Tripoli d’Occident à l’époque ottomane (1551-1911) : étude épigraphique et historique, Thèse de doctorat, dir. F. Imbert et A. Saadaoui, Aix-Marseille Université, 3 vols.

César Mustapha, 1990, « Le kulliye de Sokollu Mehamed Pasa à Eyiib, les monuments de Sokollu Mehamed Pasa à Eyiib », Stelae turcae II, Cimetières de la mosquée de Sokollu Mehmed Limani, de Bostanci Ali et de tiirbe de Sokollu Mehmed Pasa à Ayüb, Ernst wasmuth verlay, Tübingen, p. 29-102.

Féraud, Charles, 1967, Les annales tripolitaines, Paris.

Garammont, J.-L. Baqué, H.-P. , Laqueur et Vatin, N., 1991, « Le cimetière de la bourgade Thrace de Karacakoy », Stelae Turcicae IV, Anatolia Moderna II, libraire d’Amérique et d’Orient, Paris , p. 7-27.

Garammont, J.-L. Baqué, Laqueur, H.-P. et Vatin, N., 1991, « Le Tekke Bektachi de Merdivenkoy », Stelae Turcicae V, Anatolia Moderna II, libraire d’Amérique et d’orient, Paris, p. 29-134.

Mantran, Robert, 1962, Istanbul dans la seconde moitié du XVIIe s., Paris.

Saadaoui Ahmed, 2010, Tunis architecture et art funéraires : sépultures des deys et des beys de Tunis de la période ottomane, Manouba, Centre de publication universitaire, Tunis.

Vatin, Nicolas et Zarcone, Thierry, 1997, « Le Tekke Bektachi de Kazliçesme, étude historique et épigraphique », Anatolia moderna VII, librairie d’Amérique et d’orient, Paris, p. 79-109.

الكاتب

علي الشايب بن ساسي

أستاذ باحث جامعة القيروان. مخبر الآثار والعمارة المغاربية – جامعة منوبة.

Retour en haut